يبدو أن عطسة الرفض القوية لانتفاضة المنطقة ضدّ التنظيم الإخواني المتأسلم الذي خرج مع قوة اندفاع رذاذها، كانت مؤشراً قوياً لإصابتها بإنفلونزا الديمقراطية التي وجدت سوقاً رائجة في هذه الأيام، واندفعت وسائل الإعلام التي تماهت مع مختلف المحطات الدراماتيكية التي مرّت بالمنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين، لتروّج للعصر الديمقراطي الجديد وكأنه المهدي المنتظر الذي سيخلّص المنطقة من كافة كوارثها المتوارثة، وهي دلالة على عدم واقعية قراءة المنطقة لواقعها. فالانتخابات التي عرفتها المنطقة في تاريخها يضاهي عددها عدد الانتخابات التي شهدتها الدول التي اخترعت الديمقراطية، غير أن حال المنطقة خلال هذا التاريخ الطويل، باستثناء القليل جداً من الدول، لم يعرف سوى واقع الصعود إلى الهاوية، ولم يحدث أيّ تقدم أو تنمية أو نهضة أو ازدهار، فالمسألة بالأساس بدأت منذ فترة طويلة، وتدخل عدم القراءة الصحيحة للأحداث في رسم سيناريو ما بعد البداية، وهو وصول المنطقة إلى عتبة الانتخابات الحالية، وهي في أوضاع ما كان أحد يتصورها قبل عشر سنوات. فعدم القراءة السياسية الجيدة ذهبت بصدام حسين الذي بدأت به المرحلة الأخيرة من أحداث المنطقة، فقصة سقوطه لازالت موضع جدل بين مؤيدي حماقته، وبين المؤمنين بنظريات الخيانة والمؤامرة، والنظريتان تتفقان على حقيقة عدم قراءته الجيدة سواء لخصومه في الخارج أو لحاشيته والمقربة منه في الداخل، أو للأحداث السياسية بصورة عامة، والنتيجة كانت نهايته. الأوضاع التي كانت تمرّ بها المنطقة قبل «الجحيم العربي» كانت تحتوي على بعض الإشكاليات والمصاعب التي كان بالإمكان حلّها بغير الطريقة التي قضت على الأخضر واليابس، غير أن الجهات التي رسمت وجودها في صورة التنظيم الإخواني المتأسلم وتوابعه من الجماعات الإرهابية الأخرى، كانت تعلم أنها تصنع النماذج الفاشلة لمختلف الخيارات، حتى يكون التنظيم الإخواني هو الخيار المفروض، وفي سبيل ذلك اشتعلت حروب، وتم تدريب وتجنيد أبناء المنطقة في مواقع قتالية مختلفة، ووجدت مصانع السلاح أكبر مخزن مستهلك لإنتاجها، وعلى جناح قناة «الجزيرة» التي تم إنشاؤها خصيصاً لهذا الغرض، بدأت عملية الدعم المنظمة بتفكيك الكفاءات وتبخيس الإنجازات، وإلباس شخصيات دينية عامة ثوب النجومية الإعلامية لنشر التبشير الإخواني وتهيئة الأمة للقادم الجديد، وبدأ بالون الأحداث في الانتفاخ متنقلا بين التحريض والتثوير والتدمير، وتم إقحام «الإخوان» في هذا الجو الغريب، غير أنهم سرعان ما انكشفوا فلفظتهم الشعوب التي بدأت هذه الموجة من الانتخابات. ففي مصر يستعد الشعب لانتخابات قادمة يأمل أن تكون خالية من «الإخوان» بعدما تم تصنيفهم كجماعة إرهابية، بينما في تونس لازال حزب «النهضة» الإخواني يحاول التّكيف مع الجو السياسي القائم، فيبدو كالذئب الذي حاول تقليد مشية الحمامة. وفي ليبيا يرتفع صوت المطالبة بالانتخابات في ظلّ الغياب الكامل لسلطة الدولة، بينما في لبنان تقترب مسافة الانتخابات والبلد يكتوي بتدخل «حزب الله» في سوريا، ومحاولته جر البلاد لحروب لا ناقة لها فيها ولا جمل، والوضع الداخلي هناك يقف قلقاً على رمال متحركة، بينما المالكي الذي يواجه شعبه بقوة السلاح، ويصفّي خصومه علناً، يدخل انتخابات جديدة لا همّ لها ولا برنامج سوى التمتّع بالحصول على ولاية جديدة، وسوريا التي تمزقها الحروب من كل حدب وصوب، أعلن رئيسها بشّار الأسد انتخابات غريبة في ظل وجود بقايا دولة. الأجواء الحالية للانتخابات لا يمكن لعاقل أن يقول عنها إنها أجواء صحية، وهي بالضرورة ليست مواتية لقيام انتخابات حقيقية يؤمل منها إحداث نقلة نوعية في واقع المنطقة، فالدول التي تخلّصت من التنظيم الإخواني المتأسلم، تخلّصت منه كأعضاء فاعلين وقيادات، وتمكّنت من درء استشراء السرطان الإخواني قبل أن يصيب غالبية الشعب، وهي وقاية قبلية كان لها تأثيرها الكبير في نهاية «الإخوان»، غير أن بقايا الإخوان وخلاياهم النائمة يبقون خطراً أعظم قد يمثّل طابوراً خامساً يعيق كل تنمية ونهضة. لقد استشرت إنفلونزا الديمقراطية، وهي ديمقراطية محفوفة بالمخاطر، ومبنيّة بالكامل على الانفعالات وردود الأفعال، وحتى الشعوب التي وجدت فيها ملاذاً للتخلّص من الإحباط، باتت في قرارة نفسها غير مؤمنة بقدرتها على إحداث أيّ تغيير. فالمعارضة الجزائرية مثلا سبقت الانتخابات بهجوم عنيف وتشكيك غير مسبوق، ومع ذلك لم يكرر الشعب الجزائري مأساة الشعوب الأخرى التي بدأت نهاياتها بتغيير الأنظمة، فالنظام الذي يعرفه الشعب مهما كان سيئاً بالإمكان إصلاحه بدلا من المغامرة في الدخول لنظام مجهول لا يُعرف كنهه، وتجربة «الربيع العربي» المزعوم كانت أقوى البراهين، وهو درس لم تتعلمه المعارضة الجزائرية ولا المعارضات العربية الأخرى، فالشعوب الآن بعدما أحدثه «الإخوان» في بلدانها، باتت تخاف حتى من عبارة التغيير، لأن مفهوم التغيير جسّده التنظيم الإخواني المتأسلم في المنطقة بالنار والتشريد والحروب والدمار، وتدمير البنى التحتية، ومحاربة الأمن لإحلال الفوضى، وغير ذلك من المشاهد المألوفة التي ارتبطت بمفهوم التغيير في المنطقة، فأشد مظاهر خطورة الإسلام السياسي أنه دائماً يعمد إلى سلب الأمم أهم مكوناتها ومفاهيمها ليربطها نفسياً به، فهو لا يسلب الشعوب حرياتها وأمنها واستقرارها فحسب، ولكنه يسلبها أسمى معاني كلمات لغتها المتداولة، ويدّعيها حقّاً له، ومن ذلك عبارات الإصلاح والتجديد والتغيير، وغيرها من العبارات اللغوية ذات المضامين العالية، والتي اضطرّ خصومهم لهجرها، والبحث في مفردات اللغة عن كلمات بديلة. وهكذا فإن الترميم العام للأمة بدءاً باللغة وانتهاءً بالمفاهيم، هو ما يجب أن يسبق مراحل الانتخابات، فمحاربة الفكر الإخواني ومحوه من عقول المخدوعين به من فئة المتعاطفين جهلا مع الإخوان هو المرحلة الأهم التي يجب أن تعقب خطوة التخلّص من قادة وناشطي التنظيم، والحدّ من أنشطته باعتباره تنظيماً إرهابياً، لأن الديمقراطية في هذه المرحلة بالذات ليست سوى حيلة يريد التنظيم الإخواني التسلل من خلالها بمسميات مختلفة للدخول في الانتخابات كي يبقى ويعيش ويحافظ على بقاء فكره لنشره بالسريّة المعهودة في طبائعه وأفعاله، ونكون قد جنينا على الجيل أو الأجيال اللاحقة التي ستشهد فترة خروجه من السرّ إلى العلن، وتدور المنطقة في ذات الدائرة. فهل ستعالج الانتخابات التعددية أساس المشكلة، أم أنها ستتحول كغيرها من انتخابات المنطقة عبر التاريخ، إلى مجرد ديكورات مظهرية لذر الرماد في العيون بوجود حرية وديمقراطية لازالت بعيدة المنال في المنطقة؟ * الإتحاد الإماراتية