كما هي العادة في أية أحداث وتطورات داخلية وخارجية خطيرة كتلك التي تمر بها اليمن في هذه الأيام، يكون الوعي الجمْعي للشعب واقعاً تحت ضغوطات مخاطر التهديدات المستمرة والضجيج الإعلامي الموجه، وما يحدثه من تشوش وإرهاب فكري وحروب وهزائم معنوية ونفسية، تزعزع ثقة المجتمع بقيادته وإمكاناته الوطنية والذاتية، وثقته بحاضره ومستقبله، وفي كثير من الحالات تكون الغالبية من البسطاء فريسة سهلة لمختلف اشكال الابتزاز الفكري والاستثمار السياسي الرخيص بأبعاده وأهدافه غير الوطنية، من قبل أطراف داخلية وخارجية امتهنت الاصطياد في المياه العكرة واستثمار أوضاع البلد وظروفه الاستثنائية، لتجعل من قضايا الوطن المصيرية ومصالحه ومستقبله سلعتها الأساسية للمتاجرة والمراباة السياسية الرخيصة لجني ما يمكن تحقيقه من مكاسب ومصالح سياسية وبأسرع وقت ممكن وقبل أن يتمكن الوطن من التغلب على تحدياته ومخاطره؛ مثل هؤلاء المرابين بقضايا الوطن وحياة الشعب ومصالحه لم يترددوا في تجييش الموقف والرأي العام خلفهم عبر التوظيف الأمثل لعفوية الجماهير في التعاطي مع هذه الأحداث، وجهلها السياسي، وعواطفها ومشاعرها الدينية والوطنية وتحويلها إلى أداة طيعة وفاعلة في خدمة تطلعاتهم ومشاريعهم ومصالحهم الذاتية أو الحزبية الضيقة، الأمر الذي يعزز من تأثير هؤلاء (المرابين) وقوة فعلهم السلبي، وخطرهم كوسائل ومتفجرات مسخرة للتدمير الذاتي لكل عوامل ومقومات البنيان الاجتماعي: السياسي والأخلاقي والأمني لأوطانهم؛ الأمر الذي يجعل من التهديدات والمخاطر الخارجية أكثر واقعية. المرابون بقضايا ومصير أوطانهم وشعوبهم كثر ومتواجدون في كل البلدان ومن مختلف ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي، ولكن أكثرهم خطراً هم أولئك المتسيّسون البارعون في استخدام الخطاب السياسي الديني وتوظيفه في خدمة مصالحهم ومشاريعهم غير الوطنية، مستخدمين في ذلك الفتاوى الدينية لتحويل الطاقات العقائدية للشعب وقيمه الروحية الأخلاقية وقوتها الهائلة إلى سلاح في يدهم ، ومسخرة لخدمة أهدافهم، وفي هذا السياق يأتي تحرك بعضٍ من أدعياء العلم وبجانبهم طلبة إحدى الجامعات الدينية ولقاؤهم في جامع المشهد وسط العاصمة اليمنية صنعاء في تظاهرة سياسية واضحة، أطلق عليها –افتراء- تسمية (مؤتمر علماء اليمن) تم فيها قراءة فتوى (دينية - سياسية) بعنوان (نص بيان علماء اليمن حول التدخل الأجنبي في اليمن) فالذين أطلقوا على أنفسهم (علماء اليمن) هم في حقيقة الأمر جماعة سياسية حزبية امتهنت توظيف الخطاب السياسي الديني في صناعة البيانات والفتاوى والخطب الدينية التحريضية وفق الطلب والمواصفات السياسية والحزبية المطلوبة في كل مرحلة، والعديد منهم له موروث كبير من الخطب والمحاضرات والأشرطة السمعية السياسية التي تقدم للمواطن بصبغة دينية في مسعى مفضوح تستثمر المخاطر والتحديات التي يمر بها الوطن وتحويلها إلى وسيلة للنيل من الآخر تحت شعار «موقف الشرع» وفي مختلف الأحداث تطل على الرأي العام ببيان أو فتوى دينية - سياسية. تعميم هذه الفتوى أو البيان عبر وسائل الإعلام المختلفة والادعاء بأن ذلك هو موقف كل علماء اليمن، -هذا التعميم- بحد ذاته يعد تزييفاً للوعي ومحاولة يائسة لإلغاء دور ومكانة ومواقف وقناعات علماء اليمن الحقيقيين وفقهاء الدين من مختلف المذاهب والجماعات والفرق السائدة في اليمن، وتأكيداً لعدم الاعتراف بهم، ومثل هذا الموقف يتوافق إلى حد ما مع موقف جماعة القاعدة الإرهابي التي تكفر المخالفين لأيديولوجيتها. ليس غريباً أن تتبنى بعض الشخصيات هذه الفتوى دون غيرهم، ومثل هذه الجماعة خرجت من بين صفوفها ومن تحت عباءتها الجهادية ومدارسها الدينية السياسية الحزبية عناصر متطرفة، وتسلحت بفكرها العقائدي، وإذا ما أعدنا قراءة التاريخ الخاص بالجماعات الجهادية المتطرفة في اليمن وبدايتها الأولى، سنجد من بين تلك الشخصيات من كانت له بصماته الفكرية السياسية ، وأدواره العملية البارزة في تأسيس التنظيمات المتطرفة، فقد كانت لهم أدوارهم التاريخية البارزة بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية بحشد آلاف الشباب من خريجي المعاهد والمدارس الدينية وإرسالهم إلى (أفغانستان) بعد أن يقوموا بغسل أدمغتهم وتزويدهم بفتاوى الحرب والجهاد، وهم من ساهم أيضاً في ترتيب عودة الآلاف من المجاهدين العرب والأجانب بعد استكمال تدريبهم في (أفغانستان) إلى (اليمن) واستقبالهم استقبال الأبطال، وكان ذلك التوجه العملي وفق خطة مسبقة تم الاتفاق عليها مع (أسامة بن لادن) لنقل الجهاد في مرحلته الثانية من (أفغانستان) إلى (اليمن) وبالذات إلى الشطر الجنوبي سابقاً، بحجة تبنيه التوجه الاشتراكي وعمالته للسوفيات، بينما الحقيقة هي تنفيذ خطة أمريكية في سياق حربها الباردة لتصفية الوجود السوفياتي في المنطقة. حينها نجح فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح في احتواء هذا الخطر القاعدي الداهم بخطوات إجرائية سريعة أدت إلى قيام دولة الوحدة، وترحيل معظم المجاهدين من العرب والأجانب من داخل الأراضي اليمنية.. واستيعاب طابور واسع من اليمنيين الشباب إلى صف الجمهورية والوحدة، وقبل الإعلان عن تحقيق الوحدة سعى البعض إلى إجهاض المساعي الوحدوية وكانت مواقفهم وخطبهم وفتاواهم الدينية واضحة ضد الوحدة والديمقراطية، إلا أنهم في تلك المرحلة كانوا أضعف من أن يقفوا في وجه التيار الوطني الوحدوي الجارف، وما أحدثته الوحدة من تغيرات جوهرية في خارطة التكوينات والتوازنات والمصالح الاجتماعية والسياسية التي جاءت في غير صالح هذا التيار (الجهادي) وأعاقت كثيراً من مشاريعه وخططه في (اليمن)، وهو ما حتم عليهم الانتقال إلى شكل آخر من العمل يعتمد من جهة على إنشاء المدارس الدينية الجهادية ومعسكرات التدريب السرية في مختلف المديريات والمناطق، وبالذات في المحافظات الجنوبية والشرقية، وتولى الإشراف على إدارة وتوجيه هذه المدارس طابور من المجاهدين العرب الذين عادوا من (أفغانستان)، وكانت هذه المدارس في سياق مشروع سياسي تم تأجيله، ومن جهة أخرى محاولة إجهاض الوحدة من داخلها، وقد اتخذوا من قضية التصويت على دستور دولة الوحدة منطلقاً لذلك، وتبني جماعة الجهاد والقاعدة وحلفائهما – ما زعموه- كفرية دستور دولة الوحدة والنظام السياسي، وهذا شكّل بدوره المبرر الديني والأساس الفكري لإعلان حربهم ضد دولة الوحدة، والاتجاه الآخر من هذا العمل كان موجهاً إلى تأزيم الأوضاع الداخلية وتوسيع هوة الخلاف والتناقض وزعزعة الثقة بين شريكيْ الوحدة، وفرض حالة من الرعب وعدم الاستقرار الأمني عبر سلسلة من الاغتيالات والأعمال الإجرامية الإرهابية المفتعلة في أكثر من محافظة، في هذه المرحلة المبكرة وقبل الإعلان عن ظهور القاعدة كتنظيم إرهابي دولي، كان البعض من حلفاء وأصدقاء (أسامة بن لادن) قد نجحوا في وضع مرتكزات لمشروع جهادي متكامل في (اليمن) كان ابرز ملامحه الانتقال بنشاط القاعدة الذي كان مسخراً لخدمة المخابرات الغربية في الحرب ضد الوجود السوفياتي في المنطقة، إلى حرب ضد الدولة اليمنية الموحدة ومشروعها السياسي الديمقراطي، والتغلغل الفكري الجهادي المتواصل باتجاه السيطرة على المحافظات الجنوبية والشرقية وتحويلهما إلى قاعدة لنشاطهم المستقبلي.. مستثمرين إلى حد كبير التعقيدات والأزمات الوطنية التي طرأت على الساحة بعد الوحدة، ومرحلة ما بعد حرب الدفاع عن الوحدة في العام 1994م والظروف الاقتصادية الاستثنائية الصعبة التي عاشتها (اليمن). منذ الوحدة حتى اليوم ظلت الدولة في حالة حرب مفتوحة مع جماعة الإرهاب القاعدي.. مثل الجانب الفكري العقائدي أهم جبهاتها الرئيسة واعتمدت الدولة الحوار الفكري أساس التعاطي مع هذه الظاهرة الخطرة، وفي هذه الجبهة كان بعض العلماء بعيدين كل البعد ولم نسمع منهم رأياً سليماً أو موقفاً وطنياً واضحاً في مجابهة هذه الظاهرة، ونحن على يقين بمدى فاعليتهم وتأثيرهم الفكري العقائدي على الشباب من عناصر القاعدة الذين يرون في بعض العلماء الآباء الروحيين لهم ويعتمدون قناعاتهم وخطبهم وفتاواهم مرجعية روحية عليا، يؤمن بها ويقدسها كل إرهابي انتحاري، لم نسمع مثل هؤلاء العلماء يجرمون الأعمال الإرهابية والعمليات الانتحارية وخطرها على أمن(اليمن) واستقراره، ولم نسمع منهم أية مناشدة لتلاميذهم من حملة الفكر الجهادي المتطرف تدعوهم للعودة إلى جادة الصواب، والتوقف عن قتل الأبرياء من اليمنيين والأجانب، بل على العكس من ذلك كنا نسمع منهم خطاباً تبريرياً يحاول أصحابه إضفاء نوع من الشرعية على مثل هذه الأعمال الإجرامية، باعتبارها -في نظرهم وتصنيفهم لها- «أعمالاً حتمية أفرزتها مواقف وأخطاء سياسية ارتكبها النظام». هذه الإطلالة التاريخية السريعة كان لابد منها حتى يسهل علينا القراءة السليمة لمضامين وأهداف البيان الصادر عن من أسموا أنفسهم بعلماء (اليمن) في 14 يناير الماضي، الذي يمثل امتداداً عضوياً لمواقف هؤلاء العلماء وتاريخهم السياسي وعلاقتهم بجماعة الإرهاب القاعدي، وإن كان يتميز عن غيرها من المواقف السابقة بأنه أكثر حدة ووضوحا في التعبير عن القناعات السياسية الخاصة التي حاولوا تقديمها للرأي العام تحت شعار التصدي للتدخل الأجنبي، ومرد هذا البيان وحِدّته يعودان إلى حقيقة الخطر الذي أضحى يتهدد جماعة الإرهاب القاعدي ووجوده واستمراره في (اليمن)، وتجلت مظاهره بوضوح من خلال العمليات النوعية الاستباقية التي نفذتها أجهزة الأمن خلال الأسابيع المنصرمة واستهدفت الحلقات المركزية والمحورية في بناء هذا التنظيم، لاسيما وان المؤشرات على الصعيد العملي توحي باستمرار هذه العمليات النوعية حتى يتأكد زوال هذا الخطر الإرهابي على (اليمن) وجيرانها، ويقضي على مجمل العوامل والمسببات التي تتعلل بها بعض الأطراف الدولية للتدخل العسكري والأمني المباشر وغير المباشر في البلد تحت ذريعة القضاء على الخطر الذي يشكله تنظيم القاعدة على أمن (اليمن) القومي ومصالحها الإستراتيجية في المنطقة. هذا البيان «الفتوى الدينية التحريضية» يمثل من حيث الشكل امتداداً متطوراً لجملة التصريحات السياسية الفضفاضة التي يتسابق للإدلاء بها أمام وسائل الإعلام المختلفة بعض الرموز السياسية والدينية بهدف الظهور أمام الرأي العام وتسجيل حضورهم على الساحة الإعلامية بمستوى يتجاوز حقيقة حجمهم ووجودهم على ساحة الفعل والعمل الوطني، ويعتبر إحدى وسائل العمل السياسي المضر بالوطن، حاول أصحابه من خلاله تسجيل المواقف واستثمار الأوضاع والاهتمام الدولي باليمن للقيام بعمل سياسي مفرط في انتهازيته المكرسة لاستغلال عواطف الجماهير وحساسيتها ومشاعرها الوطنية الكبيرة الرافضة لأي شكل من أشكال التدخل الخارجي المباشر، وبالذات حين يأتي من البوابة الأمنية والعسكرية التي تجلب معها الموت والدمار، ومع أن هؤلاء يدركون جيداً حقيقة موقف الشعب وردود فعله إزاء أي تدخل عسكري معادٍ، إلا أنهم لا يفوتون مثل هذه المواقف ليطلوا على الرأي العام ممتطين الموجة السياسية والإعلامية الدولية التي تضر باليمن، ليقدموا (أنفسهم دون غيرهم حماة للدين والوطن والوطنية التي فرط بها وتآمر عليها غيرهم ممن يختلفون معهم ويعارضونهم من فرقاء العملية السياسية الوطنية).. مثل هذه التوجهات العملية لها ما يبررها من ناحية خلفيتهم الفكرية، فهي نابعة من منظور سياسي تقليدي وأساليب عمل تحريضية متخلفة ومحكومة بمصالح وحسابات ومخاوف حزبية أو شخصية ماضوية، كما أنها مقيدة ببرامج ومشاريع حزبية ضيقة لا تتردد في استثمار اللحظة لتحقيق المزيد من المكاسب المرجوة بأي ثمن يمكن أن يدفعه الوطن. لقد وصلت التطورات السلبية على الساحة الوطنية، وكذلك الخطط والمشاريع التفكيكية التدميرية والتآمرات الداخلية والخارجية في تراكماتها العملية والكمية وفي تحالف قواها السياسية، وتنسيق جهودها ووحدة أهدافها وإجراءاتها العملية ذروتها القصوى دون ان تحقق ما كانت تسعى إليه هذه القوى.. ولكنها حاولت استغلال معطيات اللحظة الراهنة والتطورات المترتبة عن العملية الإرهابية الفاشلة وتوظيفها باتجاه الدفع بالأوضاع الوطنية نحو المزيد من التشظي الاجتماعي والسياسي.. والتدهور الأمني؛ واستكمال ما يعتقدونه شروطاً للانتقال بالأوضاع في (اليمن) نحو مرحلة التحول النوعي السلبي الذي يسعى من أجله أو يحلم به البعض أن يكون نسخة من (أفغانستان) أو (العراق)، ويأمل هذا البعض تحقيق ذلك عبر الاستعانة بالخارج ومحاولة جلبه إلى الساحة الوطنية عبر بوابة الإرهاب، بعد ان بلغت هذه القوى ذروة اليأس في إمكانية إحداث التغيير الذي تنشده بإمكاناتها وقدراتها الذاتية، وبالوسائل والآليات الديمقراطية المشروعة، ويأتي بيان «فتوى ما يسمى علماء اليمن» الأخيرة لتصب في هذا السياق، ويتجلى ذلك بوضوح من خلال الحقائق التالية: البيان لم يحدد موقفاً واضحاً من جماعة الإرهاب القاعدي، ولم يتضمن أية إدانة لجرائمها ، وتجاهل بشكل كلي خطرها على أمن واستقرار الوطن والأمن الإقليمي والدولي، ومثل هذا الموقف الغامض إنما يؤكد بأن القاعدة تمثل جزءاً من مشروعهم السياسي وواحدة من أدواتهم العملية، ولهذا لا غرابة أن تتماهى هذه الفتوى الدينية مع الخطاب السياسي الديني لجماعة الإرهاب القاعدي وتتبنى مواقفها الجهادية وشعاراتها ووسائلها، وتهدف في الوقت ذاته حمايتها وتبرير جرائمها والتصدي لجهود الدولة والوطن في مكافحة الإرهاب والقضاء على خطره. جاءت الفتوى الدينية متسقة مع التوجه العام لقيادة (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) ومساعيها الحثيثة نحو تحويل (اليمن) إلى وكر جديد للإرهاب الدولي يستقطب العناصر الإرهابية من دول الجوار ومختلف دول العالم، مستفيدة -إلى حد كبير- من الأوضاع القائمة وسهولة التسلل عبر الحدود الجغرافية البرية والبحرية الطويلة، وهؤلاء العلماء الذين يدعون الدفاع عن سيادة الوطن في بيانهم هذا، يدركون جيداً أن استمرار نشاط القاعدة في (اليمن) ومحاولتها لتحويل (اليمن) إلى مركز للإرهاب الإقليمي والدولي، سيجعل منها بؤرة جذب واستقطاب للأساطيل الحربية ووسائل الدمار والقوى الأجنبية، ونجاح أية عملية إرهابية كتلك التي تبناها (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) مؤخراً كفيل بان يجعل من هذا البلد هدفاً مباشراً للانتقام والتدمير المريع الذي لا يمكن تخيله، وأية محاولة أو مسعى من قبل أي كان لحماية جماعة إرهابية، أو الوقوف في صفها، أو تجريم قتل ومطاردة عناصرها «خارج القضاء الشرعي ودون محاكمة عادلة» - كما ورد في الفتوى- يمثل تشجيعاً للإرهاب ودعوة صريحة لإعطاء الآخرين المبررات الكافية لضرب البلد وتدميره. إن أولئك الذين اختزلوا صفة العلماء في أنفسهم دون غيرهم حاولوا تسويق فتواهم السياسية إلى الرأي العام الوطني تحت شعار حرصهم ومسؤوليتهم في حماية الأمن القومي للبلد «ورفض أي تدخل خارجي سياسي أو أمني أو عسكري من أي طرف يخالف الشريعة الإسلامية» وتجاهلوا في الوقت ذاته أن الدول والشعوب الأخرى تتعاطى مع خطر الإرهاب القاعدي في (اليمن) أو في أي بلد آخر من منظور أمنها القومي ومصالحها قبل كل شيء، وهذه الدول كما يعلم إخواننا وآباؤنا (الأجلاء) لا يجلبون الدمار لشعوبهم، بل يصدرونه إلى الدول الأخرى للحفاظ على حياة مواطنيهم وأمن واستقرار بلدانهم، ولم يترددوا في اقتراف أبشع الجرائم بحق الآخرين في سبيل تحقيق ذلك، وقد لا يحتاجون إلى أي شكل من أشكال التدخل أو الاحتلال المباشر في حربهم على الجماعات الإرهابية فلديهم من الإمكانات والأسلحة والمعدات الرخيصة الموجهة عن بعد ولا تتجاوز قيمتها عشرات أو مئات الآلاف من الدولارات وقادرة على الوصول إلى أية نقطة على خارطة الكرة الأرضية وإلحاق قدر هائل من القتل والدمار يفوق قدرتنا على تصوره، ولا يجدي معها دعوات الجهاد وفتاواهم المختلفة، وهؤلاء العلماء يدركون أن مثل هكذا عدوان لا يمكن مقاومته أو التصدي له أو تجنب مخاطره وآثاره المدمرة إلا من خلال قدرتنا كوطن وشعب في القضاء على كل أسبابه ومبرراته والعوامل المولدة والجاذبة له. عدم اكتفاء أولئك العلماء من خلال هذه الفتوى بالتعبير عن عدم اعترافهم بسلطات الدولة التنفيذية والتشريعية المنتخبة من قبل الشعب بوسائل ديمقراطية وإرادة حرة، ولكن أيضاً حاولوا الإيحاء للرأي العام بأن هذه السلطات غير جديرة بحمل الأمانة واتهامها ضمنياً بالتفريط بسيادة الوطن وجعلوا من أنفسهم سلطة فوق كل السلطات الوطنية المشروعة أو وصية عليها باعتبارهم أهل الحل والعقد في هذا البلد، بمعنى آخر (ولاية فقيه) ولكن بالطريقة السنية، فقد اشترطوا (مصادقة مجلس النواب والشورى واهل الحل والعقد من العلماء والمشايخ والوجهاء و»الطلب من الحكومة اليمنية الالتزام بالضوابط التي أوضحها العلماء في هذا البيان بشأن الاتفاقيات الدولية لضمان استقلال البلاد ومنع أي تدخل أجنبي» وقولهم «يهيب العلماء بجميع أبناء الشعب اليمني بأن يلتقوا حول ما جاء في البيان وان يطالبوا بما ورد فيه»، وغيرها من العبارات والاستدلالات التي توحي بأننا أمام البيان السياسي الاول الذي يعقب كل الانقلابات العسكرية، أو أننا أمام انقلاب سلمي نفذه هؤلاء العلماء ضد النظام الحاكم المتهم من قبلهم بالتفريط بسيادة واستقلال البلاد وفتح أبوابها أمام التدخلات الخارجية. كم كان حرياً بهؤلاء الذين همشوا كبار علماء اليمن ومجتهديها أن يضطلعوا بواجباتهم الدينية ومسؤولياتهم الوطنية في محاربة الإرهاب القاعدي وغيره، والتعاطي الواقعي مع حقيقة التهديدات والأخطار التي يتعرض لها (اليمن) وطننا، والإسهام في قطع دابرها ومسبباتها بدلاً من إصدار الفتاوى التحريضية التي تتقمص شخصيات ومواقف وسلوك القاعدة وشعاراتها الجهادية، فوطننا وشعبنا في غنى عن مثل هكذا فتاوى سياسية موجهة لتخدير وتضليل العقل والفعل السياسي الوطني، وتثوير العواطف والمشاعر الوطنية والدينية وحرفها باتجاهات خاطئة مضرة بالوطن ومصالحه.. إن مثل هذه الفتاوى التي تُجهز في مطابخ خاصة وفق الطلب والمواصفات السياسية الحزبية، وكذلك التصريحات السياسية التي يتعمد البعض إنتاجها وتعميمها بكثافة غير معهودة، على الرغم من تميزها بقوة البلاغة والمفردات الشاعرية الزاخرة بمضامينها السياسية الوطنية الرومانسية، وأسلوب المخاطبة المباشرة لعواطف ومشاعر الجمهور، جميعها ستظل فاقدة لأهميتها ومصداقيتها وقوة تأثيرها ما لم تقترن بإجراءات عملية وسلوك وطني وحدوي يترجم على الواقع ويوجه نحو مكافحة الإرهاب وتجفيف مصادره ومنابعه الفكرية والعمل على تعزيز وحدة وتماسك الجبهة الوطنية الداخلية وزيادة حصانتها أمام التآمرات والتدخلات الخارجية وهذا يتطلب منهم قبل كل شيء: أولاً:الاعتذار للوطن والشعب والإقرار بتحملهم جزءا من المسؤولية المباشرة بتبنيهم خطابا سياسيا دينيا جهاديا متطرفا ومتعصبا مثّل القاعدة الفكرية لبروز هذه الظاهرة الإرهابية، وتجاوز الأسباب والمنطلقات الفكرية التي ساعدت على خروج القاعدة من تحت عباءة الجماعة السلفية والاخوانية دون غيرهما من الجماعات والمذاهب، والشروع باتخاذ مواقف عملية واضحة لإدانة القاعدة وفكرها الضال ومحاربة ظاهرة الإرهاب القاعدي التي استنزفت من الوطن والشعب إمكانات وموارد مادية وبشرية هائلة.. وتركت آثارها السلبية المدمرة على مختلف قطاعات التنمية الوطنية دون استثناء، وما سببته من اختلالات وتمزقات وتشوهات في عقيدة الأمة الإسلامية، وفي بنية الوطن الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والأمنية. ثانياً: تبني آلية عملية واضحة في مكافحة الإرهاب القاعدي، وتجفيف مصادره ومنابعه الفكرية والعقائدية الخاطئة وإصلاح الخطاب الديني الذي يتبناه هؤلاء، وتحريره من عقدة الجمود الفكري وفتح المجال واسعاً أمام الاجتهاد والإبداع لتطوير الخطاب الديني ليلبي مصالح الأمة المعاصرة ويواكب المتغيرات الكونية من حولها والتعاطي الايجابي والمثمر معها، ويعيد لهذه الأمة مجدها وألقها وقدرتها على الإبداع والانجاز في مختلف ميادين الحياة، والمطلوب هو الكف عن توظيف الخطاب الديني لصالح السياسة، فالدين عقائد إلهية ثابتة لا تتغير.. أما السياسة فممارسة آنية متناقضة ومتغيرة باستمرار.. فاقدة للمصداقية والثبات. * نقلا عن صحيفة الرياض