دعونا نعترف ابتداء أن أحد أعظم إنجازات علي صالح التي يحق له ولأتباعه من بعده المفاخرة بها أنه صدّع رأس أمريكا بما لم يفعله أحد قبله ولا بعده. فلتتعلم المعارضة فنون القيادة والريادة من مثل هكذا دروس يمنحها صالح بالمجان. أمريكا التي دوخّت العالم وانفردت به كقوة عظمى وقطب دولي أوحد, لم يُصدعها المشروع النووي الإيراني, ولا عودة روسيا الاتحادية كمنافس قوي في السياسة الدولية, ولا خلافاتها مع حلفائها في حلف النيتو, ولا الصعود المتنامي للتنين الصيني, ولا حتى مشكلة الشرق الأوسط المستعصية والصراع العربي الإسرائيلي, ولا صعود الإسلاميين في تونس والمغرب ومصر وليبيا بعد موجة الربيع العربي. كل تلك القضايا التي شكلت ملفات شائكة للادارة الأمريكية, بما فيها الأزمة المالية العالمية التي كادت أن تعصف بالاقتصاد الأمريكي, لم تصل جميعها حد اصابة الدولة العظمى بالصداع والأرق والسهاد مثلما سببه لها رئيس سابق من دول العالم الثالث الأشد فقراً وتخلفاً, إنتهت صلاحيته, يستجدي الحصانة والضمانة, يُدعى علي عبدالله صالح! إنه بالفعل يستحق دخول موسوعة غينتس لهذا الإنجاز الخرافي الذي لم يسبقه إليه أحد. لقد طبع بصمته في جبين أمريكا, مثلما طبعها من قبل في جباه كل اليمنيين, فغدو يُعرفون بسيماهم. عبقرية صالح, كما يحلو لمتعصبيه وصفه بها, تكمن ببساطة في أنه لايحترم المواثيق والعهود مع أياً كان, وهذا ماحدا بالملك السعودي لأن يختم كلمته أثناء حفل التوقيع على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر المنصرم بالآية الكريمة (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) مُلتفتاً نحو صالح وموجهاً خطابه إليه. وتجارب الرجل في النكوث بالعهود أكثر من أن تُحصى, فعلى سبيل المثال؛ بمجرد أن فرغ وحزبه من توقيع اتفاق فبراير(23 فبراير 2009), وأخذ منه ما يحلو له في التمديد لحكومته وللبرلمان لمدة عامين, عاد ليهاجم الاتفاق ويصفه بأنه خطأ تاريخي وغلطة لن تتكرر! ثم عاد مجدداً في 17 يوليو 2010 ليبرم مع المعارضة اتفاق جديد لتنفيذ الاتفاق القديم, وحين وصل الطرفان إلى مايشبه الاتفاق أوعز لحزبه برفضه وتجميد الحوار مع المشترك, وذهب لتمرير قانون الانتخابات المختلف عليه في البرلمان, بالإضافة إلى حزمة تعديلات دستورية مثيرة للجدل, أرادت قلع العداد والاحتفاظ بصالح رئيساً مدى الحياة. وبالمثل, حين ذهب يستدعي الوساطة الخليجية لتنقذه من ثورة الشعب وغضبته, شعر بأنه تورط, إذ صدمته المبادرة حين نصت على تنحيه, فحاول التنصل منها عبر الحديث عن آلية تنفيذية, وحين توصلت المعارضة والنائب لصوغ الآلية ولم يبق سوى التوقيع, عاد مسرعاً من الرياض وفي جنح الليل لوقف عملية التوقيع التي فوض نائبه بها! ولما أشتدت الضغوط الخارجية لإجباره على التوقيع أذعن للأمر الواقع, وراح يتحدث عن أهمية إبداء حسن النوايا تجاه المبادرة, في الوقت الذي عقد النية لإفشالها بشتى الوسائل الممكنة. وها نحن نرى اليوم تداعيات مخططه لإفشال المبادرة وقد انعكست تأثيراتها السلبية عليه, فتوترت علاقته بالرئيس المفوض عبدربه منصور, وتأزمت علاقاته برعاة المبادرة, الذين اصيب بعضهم بالصداع من كثرة عبثه ومراوغته, وهو ما حدا بالادارة الأمريكة للتهديد بأنها تلتزم والمجتمع الدولي بالعمل على جعل صالح يحترم هذا الاتفاق (المبادرة والتسوية السياسية). لقد تحول صالح إلى صداع في رأس أمريكا, بعدما كان أكثر حلفائها حظوة لديها, بل إنها دللته كما لم تفعل مع أي رئيس عربي من قبل, وربما هذا ما شجعه على التمادي معها حدّ إتهامها مباشرة بأنها من تقود موجة الثورات العربية في المنطقة من غرفة عمليات مشتركة في تل أبيب! ويبدو أن الصداع زاد عن حده, وهو ما لا تقوى واشنطن على احتماله ولا تجد ضرورة لذلك, الأمر الذي يُحتم عليها سرعة معالجته قبل تحوله إلى أرق مزمن.
الانتخابات ومصالح الرعاة كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 21 فبراير المقبل, إزداد في المقابل هيجان صالح وثارت ثائرته, وتملّكه القلق حيال مصير مجهول ينتظره وعائلته. كابوس الانتخابات التي ستطوي صفحته, يؤرّقه ويزيده توتراً واضطراباً, وهو ما تنعكس تأثيراته على شكل صداع مزمن لدى الأطراف الخارجية. والحقيقة أن ثمة تحديات باتت تُضيّق الخناق عليه وتقلل من حظوظ خروجه الآمن, أهمها؛ خلافاته المتصاعدة مع الرئيس المفوض, بالإضافة إلى الموقف الأمريكي المتجه صوب مزيد من التشدد والحزم معه, إلى جانب ما سببته ثورة المؤسسات من قلق بالغ له ولحزبه. إلى ذلك, يُتَوقع زيادة مخاوف صالح إزاء قانون الحصانة الذي عدّه مكسباً له, من حيث كونه لن يوفر له الحماية اللازمة من الملاحقة والمحاكمة, ولن يكون ذا قيمة حقيقية من هذه الناحية, كونه من جهة لا يقوى على الصمود في وجه القوانين الدولية التي تحظر منح الحصانة في جرائم الانتهاكات ضد الإنسانية, والتي يمكن أن يستعين بها مناهضوه لإحباط فاعلية القانون المذكور وإسقاط شرعيته, ولأن صدور القانون من جهة ثانية لن يحول دون مطالبة أولياء الدم بحقهم في محاكمة صالح وأركان حكمه المتورطين بقتل المتظاهرين, فالحقوق المدنية لا تسقط بقانون. الشيء الآخر, تعاطي الرئيس المفوض مع صالح, ومعارضته لتوجهاته, وإظهاره قدر من التحدي والندية له, جعل صالح يعيد حساباته, بعدما أكتشف أن هادي ليس بالرجل الذي ينقاد بسهولة حين يكون في موقع المسئولية, يتبين ذلك من خلال رده على تلويح المؤتمر الشعبي العام بإعاقة عمل حكومة الوفاق الوطني وعدم التوجه لانتخابات رئاسية ما لم يتم تنفيذ المبادرة الخليجية بشكل كامل، حيث قال :» إن البعض يعتقد أو يشعر بأن حكومة الوفاق قد تواجهها عراقيل ومصاعب كثيرة ولكنني أكرر وأقول لكم بأن حكومتكم مدعومة شعبيا وإقليميا ودوليا, وأكرر عليكم أن المجتمع الدولي يتابع بصورة دائمة ماذا نعمل نحن هنا في اليمن, وهل نحن قادرون على حماية مصالحنا وأمننا ومكاسبنا، ومصلحة اليمن وأمنه واستقراره هي مصلحة مرتبطة أيضا بالعالم «. فالواضح هنا أن هادي مطمئن إلى دعم المجتمع الدولي ومساندته له للحد من تغوّل صالح ونفوذه, وهو ما يُكسبه الثقة في مواجهته ووقفه عند حده, وإن كان بالتلويح بمغادرة العاصمة والاعتكاف في عدن, فهذا بحد ذاته يخيف صالح الذي ظن أنه سيأكل الثوم بفم النائب, إلاّ أن آماله تبخرت على ما يبدو. وحتى اللحظة يحاول صالح تجنب ظهور خلافه مع هادي بغية تماسك المؤتمر, وحتى لا تؤدي تلك الخلافات إلى اقتراب هادي من المعارضة, كما أن ظهور صالح كعقبة في وجه هادي وسلطاته المخولة له سيزيد من سخط رعاة المبادرة عليه, وسيجعلهم أكثر تشدداً في التعامل معه. ويمكن النظر إلى الموقف الأمريكي الأخير من هذه الزاوية, فالأمريكيون باتوا يتعاطون مع صالح كعبء ينبغي التخلص منه وإن بمنحه قانون الحصانة, كي لا يتسبب لهم بمزيد من الحرج وصداع الرأس. فالمجتمع الدولي مازالت تخالطه الظنون إزاء تلك العلاقة المريبة التي ربطت هذا الرجل بالدولة العظمى في العالم, ويبدو أن صالح لم يكن يتوقع هذا الانقلاب المفاجأ في الموقف الأمريكي تجاهه, لدرجة أن طلبه الحصول على تأشيرة دخول الولاياتالمتحدة للعلاج أخذ كل هذا الوقت من المداولات في أروقة البيت الأبيض, وانتهى بتأشيرة علاج منزوعة الرئاسة! فالأمريكان كانوا طلبوا منه المغادرة للتسريع في وتيرة نقل السلطة, لكنهم عادوا واشترطوا عليه أن يوقع على بروتوكول يقضي بعدم تدخله في شئون الحكم كشرط للموافقة على دخوله الأراضي الأمريكية, ثم قاموا تالياً بتسريب معلومات إستخبارية كشفت تواطؤه في تضليلهم واستغفالهم من خلال مدهم بمعلومات مضللة عن القاعدة أدت في وقت سابق لوقوع ضحايا مدنيين, بينهم مسئولين حكوميين استعان بهم صالح نفسه كقنوات حوار مع القاعدة ومنهم جابر الشبواني! تسريب مثل تلك المعلومات من قبل الأمريكيين كان بمثابة رسالة صريحة لصالح بإنهاء خدماته في هذا الجانب. ومع شعور الأخير بتزايد عزلته الدولية, وتداعي ما تبقى من نظامه بفعل تنامي ثورة المؤسسات المجتمعية, قرر البقاء ملوحاً بالإنسحاب من المبادرة والتسوية السياسية, ومهدداً عبر قيادات حزبه بعدم المضي في الانتخابات الرئاسية, وهو ما يعني من الناحية العملية إعاقة عملية نقل السلطة وفقاً للمبادرة. كما شرع في تجنيد الآلاف ليعزز موقفه, وعاود ضرب مناطق أرحب وبني جرموز شمال العاصمة, بالإضافة إلى قصف أحياء صوفان والحصبة والجامعة والتحرير والفرقة الأولى, وهي رسائل يبعثها صالح بدرجة أساسية لرعاة المبادرة من الفاعلين الدوليين والإقليميين بأنهم إذا لم يضمنوا حياته ومستقبل عائلته, سواء عبر قانون الحصانة, أو مشروع المصالحة والعدالة الانتقالية, أو عبر أي شيء آخر فلن يكون أمامه من خيار سوى تفجير الوضع وهدم المعبد على رؤوس الجميع, ويتضح ذلك بصورة جلية من خلال تكرار مطالبته دول الجوار بأن تعمل على ضمان سلامة أمن اليمن واستقراره, كون ذلك يمثل المدخل الحقيقي لأمنها واستقرارها, وهو ما يستبطن تهديداً لها بأنها ستكون أول من يتحمل عواقب التخلي عنه. والغاية النهائية من كل أساليب الترويع والترهيب والإبتزاز التي يمارسها بحق الداخل والخارج أن يضمنوا سلامته وعائلته, ويلتزموا بتوفير الملاذ الآمن لهم, ويحولوا دون تعرضهم لأي شكل من أشكال الأذى والملاحقة القانونية مستقبلاً. إنها ليست أكثر من محاولة بحث عن طوق نجاة لا أقل ولا أكثر, هذا ما يستطيع صالح فعله الآن, فمعركته الرئيسة في الوقت الراهن لم تعد هي إقصاء الخصوم أو الحفاظ على بقائه في السلطة بقدر ما صارت الضغط باتجاه توفير ملاذ آمن وتحسين شروط الرحيل, ووسيلته في ذلك التلويح بالقوة, وتأزيم الوضع السياسي, لإرهاب الأطراف المعنية في الداخل والخارج بفزاعة الحرب الأهلية, وإثارة المخاوف بشأن تعطيل الانتخابات الرئاسية المقبلة لتبقى البلاد في دوامة الأزمات. وبالطبع فالرجل ما يزال يحتفظ ببعض أوراق اللعب المناطقية والطائفية والمذهبية وحتى الأمنية, وهو ما يزال يحتفظ كذلك بالمليارات- من أموال الشعب- لإنفاقها في خدمة أغراضه الشيطانية وتعزيز تحالفاته المدمرة لأمن البلد واستقراره. لكنه ربما بسبب حالة الهستيريا والإرباك التي أصابته نتيجة تخلي حلفاؤه عنه, لا يدرك أنهم يضعونه تحت مجهرهم, وهم لن يسمحوا له بتهديد مصالحهم والإضرار بها, وبخاصة حينما يتعلق الأمر بتحالفاته المشبوهة مع القاعدة وبعض الجماعات الأصولية المتطرفة المسلحة, التي أخذت في التوسع على حساب سلطة الدولة وهيبتها, وهو ما يهدد بالتأكيد أمن واستقرار المحيط الإقليمي الذي كثيراً ما زايد صالح عليه, فيما هو يعمل جاهداً لتوجيه طعناته له من الخلف. [email protected]