أتاني خليل الرحمن، فإذا هو في واد غير ذي زرع، و مكان مُقْفِر من الناس، فأودعني زوجه و فلذة كبده الرضيع، ثم انتحى جانبا يبتهل ربه، و يدعو مولاه: "رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". سريعا ما تقبل الله دعاء إبراهيم؛ فلم يمض غير وقت قصير، استغرق ماء السقاء الذي كانت تشرب منه هاجر و وليدها؛ فإذا هي في هَمٍّ و كرب لنفاده، و خوف أشد على رضيعها، فراحت تسعى مهرولة؛ لترتقي تبّة مرتفعة عَلّها ترى ما يُغيثها، أو من ينجدها، فلم ترَ شيئا، و لا بَصُرت أحدا غير تبة أخرى مقابلة، راحت تهرول نحوها لعلّ منها ترى ما لم تره في الأولى.
و كملهوف ! راحت تهرول بينهما، فتارة تصعد هذه، و تارة تعتلي تلك، حتى كان سعيها السابع الذي وقفت فيه على المروة، و مِن عليها راحت تتأمل و تحد النظر، لعلها تجد حلا لكربها ، فإذا بها ترى نبعا ينبض بالماء الذي هو زمزم، و إذا هرولتها و سعيها بين تينك التبتين هو السعي الذي يسعاه الناس بين الصفا و المروة في الحج أو العمرة. و ليأخذ الناس أنه أمام الشدائد و المحن لا بد من العمل المتوكل على الله وحده؛ ليفعل الله مع بذل الجهد ما يشاء، فالأمر كله لله.
لقد فرج الله هم هاجر و كربتها،فنبع الماء، و آذن الوادي أن يكون محل إقامة و حياة : " وجعلنا من الماء كل شيئ حي".
و يأتيني إبراهيم الخليل مرة أخرى؛ مأمورا من ربه ببناء الكعبة البيت الحرام، التي شرفني الله بها، و كان يساعده في البناء ابنه إسماعيل.
و على ذكر إسماعيل، فقد صحوت يوما على نبأ هز جنباتي، و إبراهيم الخليل يجر وحيده، و يتله للجبين تنفيذ لرؤيا تخبره أن الله أمره أن يذبح ولده إسماعيل، لولا أن الله فداه بذبح عظيم. فجرت بذلك سنة الأضاحي.
و لما اكتمل بناء الكعبة أمره الله أن يعلن بالحج إلى البيت، و أن يؤذّن في الناس بالحج: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق...".
و امتلأت جنباتي بالساكنين بعد قفر، و راحت الافئدة تهوي إليّ من كل حدب و صوب، آمّين البيت الحرام، متضرعين لله، مُعْلِين راية التوحيد،لبيك اللهم لبيك.
و مضت عهود، و أزمان، ضعف معها الدين في الناس، و تسربت البدع و الخرافات، و ضلالات الجاهلية، و كان أشقى الناس عمرو بن لحي الذي حمل (هُبَل) إليَّ؛ لينصبه في جوف الكعبة، و تعددت بعده الأصنام التي زعموها أٓلهة تقربهم إلى الله زلفى ..!!
و عاد بي الحال إلى ماكنت عليه؛ وادٍ غير ذي زرع، و أفئدة تهوي إليَّ بغير هدى، و لا كتاب منير.
و ما أشقى الإنسان و هو يسير بلا منهج سديد، أو بهدى مبين أو كتاب منير !
و شهدتُ و عايشت تقول مكة يوم بلغ الشطط بقريش فزعمت لنفسها أفضلية على سائر العرب؛ فراحت تقرر لنفسها أن تقف في الحج بوم عرفه بالمزدلفة؛ لأنها داخل حدود الحرم، و أما بقية من يحج من سائر العرب فليقفوا بعرفات، التي هي خارج نطاق الحرم. و كان ذلك افتراء فرضته قريش.
هذا التميز، و ادعاء الأفضلية من القرشيين، يشبه ما تدعيه السلالة الحوثية من أفضلية على كل المسلمين، مُوَلّية ظهرها لقوله تعالى:" إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
و تقول مكة : و في خضم ذلك الضلال شهدتُ فيما شهدت بين جنباتي، فَتىً من الفتيان؛ يغشى الناس، و يخالطهم، و هو متميز فيهم خُلقا و سلوكا ، لم يقترب من صنم و لم يقدس وثنا، و لا تلطخ بأي خُلق سيئ من أخلاقهم، و كان من سُمُوّ أخلاقه أن أطلق عليه القرشيون : الصادق الأمين.
أعاد إليَّ هذا الفتى الروح، و بِتُّ على أمل أن ترجع إليَّ الحياة، و أن تعود إلى الوادي زروعه، و ثماره، و أفئدة الصدق التي تهوي إلى هذا البيت العتيق.
زاد من أملي فيه و تفاؤلي به، موقفه الفَذ عندما اخترطت عشائر قريش السيوف؛ ليقتتلوا فيما بينهم تنافسا على مَن سيضع الحجر الأسود في مكانه، و هم يعيدون بناء الكعبة التي صدّعها السيل.. و كان أن رجعوا إليه راضين؛ يحكّمونه في الأمر ، ففصل بينهم بحُكمه و حِكمته؛ ليقضي على فتنة كادت أن تعصف بقريش.
لم يمض غير وقت قصير حتى أُلْقِيَت البذرة( الكبرى) في الوادي الذي عاوده الجدب حملها جبريل، لينزلها على قلب النبي الكريم، في غار حراء، لِيخصِب الوادي من جديد ببذرة الزروع التي أفادت العالمين، و كانت البذرة : " إقرأ ". الرسالة المحمدية التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
و قالت مكة: " دعوني لأتوقف هنا؛ و لنكمل فيما سيتبع".