(1) عندما بدأت مصر تشهد أحداثا مؤسفة بعد التخلص من الرئيس السابق/ حسني مبارك؛ ظهر في القاموس المصري مصطلح (الطرف الثالث)؛ ويقصد به الجهة التي كانت الدولة (ممثلة بالمجلس العسكري الحاكم والحكومة) تلقي عليها مسؤولية أحداث الفوضى والاضطرابات التي شملت قتل متظاهرين ومعتصمين، وحدوث أزمات تموينية حادة لم تتوقف حتى اللحظة؛ بالإضافة إلى الانفلات الأمني غير المسبوق! (الطرف الثالث) هذا ظل مجهولا، ولم يستطع المصريون معرفة حقيقته رغم كثرة ما وجهت إليه من اتهامات رسمية بمسؤوليته عن كل شر فتحول اللغز إلى مصدر للنكتة على الطريقة المصرية المعروفة. وعندما نجح آخر رئيس وزراء للمخلوع مبارك في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والحصول على أكثر من 5ملايين صوت؛ ظهرت نكته مصرية تسخر من ذلك، وتحدد أن الطرف الثالث هو الشعب المصري ذاته الذي أنجح رمزا من رموز عهد الفساد والإجرام!
(2) خلال الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية للجولة الثانية من الانتخابات المصرية الرئاسية؛ لم يتردد (الطرف الثالث) عن كشف القناع عن وجهه بعد قرابة 15 شهرا فبان للمصريين أنه: المجلس العسكري الحاكم بشحمه ولحمه.. فهو الذي أدار الفترة الماضية بدهاء لمصلحة إعادة إنتاج نظام مبارك وإيصال رئيس وزرائه وأقرب المقربين إليه إلى كرسي الرئاسة من جديد.. بكل ما كان ذلك يعنيه من إجهاض ثورة 25يناير تماما! واليوم صار بالإمكان معرفة أن (الطرف الثالث) هذا هو الذي كان –على سبيل المثال- وراء عرقلة تشكيل اللجنة التأسيسية بواسطة لجنة شرعية منتخبة من أول برلمان مصري حر منذ ستين سنة لإعداد الدستور المصري الجديد وفقا لما نص عليه الإعلان الدستوري الذي حصل على موافقة الأغلبية في استفتاء شعبي. والاستدلال على دور العسكر هذا ممكن من خلال معرفة الجهة المتضررة بالفعل من صدور الدستور الجديد. واليوم نستنتج أن الخلاف الحقيقي حول تشكيل هذه اللجنة لم يكن أساسا حول عدم تمثيلها لكل طوائف الشعب أو أن هناك تيارا معينا يريد الاستحواذ عليها أو لعبة الدولة المدنية والدولة الدينية؛ فمثل هذه الأمور كان يمكن الاتفاق حولها وتجاوزها؛ خاصة إذا علمنا أن كل القوى السياسية والفكرية المصرية سبق لها أن وافقت ووقعت على (وثيقة الأزهر) التي تحسم الخلاف حول أخطر القضايا بما فيها قضية النص على كون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. والآن تأكد أن المعضلة أو العقدة التي أفشلت كل اتفاق تتعلق حصريا بوضع المجلس العسكري ودوره في المرحلة الجديدة، (علاقة الرئاسة والبرلمان به، واستقلاله عن البرلمان وجهات الرقابة في تحديد موازنته (أي تقديمها للبرلمان كرقم واحد لإقرارها دون نقاش)، وكيفية إنفاقها، وبالضرورة عدم محاسبته، واستقلاله في إدارة المؤسسات الاقتصادية والتجارية العملاقة التابعة له). فالعسكر كانوا يرفضون من وراء الستار أن يعودوا إلى معسكراتهم ويسلموا السلطة للمدنيين وتنقطع علاقاتهم بالحياة السياسية كما هو مفترض في أي مجتمع ديمقراطي.كذلك كانوا يطالبون بتوفير خروج آمن للعسكريين الذين حكموا دون أي مساءلة حول الأخطاء التي ارتكبوها ضد المواطنين وخاصة عمليات القتل والعنف ضد المدنيين.. وبإيجاز كانوا يريدون وضعا متميزا كالجيش التركي في عهد الأحزاب العلمانية! ولأن العسكر لم يريدوا أن يجعلوا مطالبهم هذه مبررا لإدانتهم بعد رفض القوة الرئيسية لها؛ فقد لعبوا من وراء الستار لإفشال عملية إعداد الدستور باستغلال كراهية بعض المجموعات السياسية للإسلاميين! يمكن أن نلاحظ أيضا كيف أن معظم محاكمات رجال الأمن المتهمين بقتل المتظاهرين أثناء أحداث الثورة وبعدها انتهت إلى تبرئتهم، وفي أسوأ الحالات كانوا يدانون بالحبس بضع سنوات فقط! ولم يعد في الأمر سر فما قدم للقضاء من أدلة كانت عبارة عن مهزلة بعد أن تقاعست الجهات المختصة في تقديم الأدلة المطلوبة بعد أن تم إحراق بعضها وإخفاء جزء آخر.. ولاحظوا فضيحة تبرئة ابني مبارك وأحد كبار الفاسدين من تهمة فساد كبيرة بحجة انقضاء الوقت القانوني لرفع الدعوة!
(3) حصول الإسلاميين على الأغلبية في البرلمان ثم ما بدا من إمكانية فوز مرشح الإسلاميين (د.محمد مرسي) في الانتخابات الرئاسية؛ دفع العسكر إلى المسارعة لترتيب الوضع قبل ظهور النتائج؛ وكانت البداية: دفع المحكمة الدستورية العليا إلى البت السريع جدا في دعوى عدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات البرلمان؛ مع أن العادة في المحكمة جرت أن مثل هذا الأمر يأخذ زمنا طويلا يصل إلى عامين. ولم تكتف المحكمة (من مخلفات عهد مبارك) بالحكم بعدم الدستورية كما هي مهمتها؛ بل هرولت إلى تحويله إلى (قرار) واجب التنفيذ فورا، وبعد ساعات قليلة –ليلا بالتحديد- كانت الجريدة الرسمية تنشر نصه لقطع الطريق على أي اعتراض أو مطالبة برد الأمر إلى محكمة النقض لتقرر كيفية التصرف مع الحكم باعتبارها هي الجهة المسؤولة عن ذلك وهي التي أصلا أحالت دعوى عدم دستورية بعض القانون إلى المحكمة الدستورية العليا! المجلس العسكري الحاكم هرول هو الآخر لقطع الطريق على المرشح الإسلامي في حالة فوزه؛ وأصدر إعلانا دستوريا رتب فيه أوضاعه ومنح لنفسه الحصانة، وأهدى لنفسه حق سن التشريعات وبعض الحقوق التي تجعله فوق رئيس الجمهورية المنتخب؛ بل وأصدر قانونا بتشكيل مجلس الدفاع الأعلى! ومن حسن حظ المصريين التواقين للتغيير؛ ومن سوء حظ العسكر وفلول نظام مبارك؛ أن هذه الإجراءات المتسارعة والغريبة قد عملت على إزاحة الغطاء عن حقيقة الطرف الثالث، وعرف المصريون -بعد أن انقشعت غشاوة التزييف الإعلامي- حقيقة الحملات الشرسة التي استهدفت تشويه صورة ثورة 25يناير وتنفير الناس منها بتحميلها مسؤولية كل شر حدث، والإساءة لأول مجلس تشريعي ينتخبه المصريون بحرية في العهد الجمهوري والتقليل من شأنه، وكذلك الإساءة لحزب الحرية والعدالة وحركة الإخوان المسلمين الذي كان العسكر والفلول يرون فيها –عن حق!- أنها القوة السياسية الوحيدة المنظمة والشعبية القادرة على منع إعادة إنتاج نظام مبارك وإفشال الخطة الموضوعة لذلك والمعروفة إعلاميا باسم (آسفين يا ريس)! وهكذا.. وفي خلال أيام قليلة أفسدت الهرولة وعمى البصيرة مخطط (آسفين يا ريس) الذي استمر أكثر من عام وهو يعيد بناء المسرح وتلميع الوجوه مستغلا انغماس القوى السياسية في خلافاتها حول الدستور والدولة الدينية والدولة المدنية وغيرها من الخلافات التي ضعضعت الصف الوطني الثائر وكادت تنجح في مخططها لولا أن القناع انكشف، وتنبه المصريون لحقيقة ما يراد بهم!
(4) إذا لم يركب العسكر رؤوسهم، وتؤدي لجنة الانتخابات الرئاسية دور الانتحاري اليأس، وتفجر نفسها وتعلن اليوم الخميس فوز الفريق/ أحمد شفيق بمنصب رئاسة مصر رغم أنف حقيقة أنه خسر وأن الذي فاز هو د. محمد مرسي.. إذا لم يحدث هذا فإنه يمكن القول إن مؤيدي مبارك الذين ينشطون إعلاميا تحت لافتة (آسفين يا ريس) قد خسروا معركتهم المصيرية وعليهم أن يتخذوا لهم شعارا آخر مثل: (باي.. باي يا ريس)! ويمكن القول أيضا أن مصر ما تزال تواجه أخطارا أشد كون المجلس العسكري الآن صار مركز قوة يريد دورا سياسيا ما بعد تسليم السلطة للمدنيين يجعله يزاحم الرئاسة والبرلمان إن لم يكن يتمتع باستقلال ذاتي وبوضعية دولة داخل الدولة!
(5) ظواهر عديدة كشفتها الانتخابات الرئاسية المصرية وخاصة في جولتها الثانية: فالبعض داخل صف الثورة نسي نفسه وتحول إلى بابا ثوري يمنح صكوك الثورية والبراءة لنفسه ولمن لا يخشى من شعبيتهم على طموحه السياسي! والبعض صارت الثورة عنده أن يفوز في الانتخابات وإلا انقلب على عقبيه ولو صار سندا لمشروع إعادة إنتاج نظام مبارك بغبائه السياسي وأنانيته وحماقته! والبعض ظهر على حقيقته أنه مجرد طابور خامس اندس في صفوف الثورة لإشغالها وتشتيت جهودها وتمزيق الحد الأدنى من توافقها كلما تحقق أو لاح أنه يمكن أن يتحقق! ما يهمنا نحن اليمنيين أن ما هو موجود في مصر من مشاكل وإثارات إعلامية وشطحات ثورية لا يستفيد منها إلا النظام السابق، ومحاولة إعادة إنتاج نسخة معدلة منه تحت لافتات: الدولة المدنية وتوازن القوى لكيلا يستأثر حزب بالأغلبية ولو كانت شرعية.. كل ذلك موجود عندنا مع اختلاف المسميات ونوعية الأقلية، وحتى الانفجار الإعلامي الملحوظ في تأسيس صحف ومواقع إلكترونية معادية للإسلاميين تحديدا من قبل بقايا النظام والثوريين الجدد المتماهين معهم.. حتى هذا يعمل بالطريقة نفسها في صنعاء والقاهرة تحقيقا لمقولة: مصر واليمن.. حتة واحدة!