حتى الآن لم يحدد الحوثيون رؤيتهم لهوية الجماعة التي يرفعون لوائها ويعتنقون أفكارها ويكافحون لبلوغ أهدافها, وما إذا كانت جماعتهم دعوة دينية إحيائية مذهبية, أم حركة تجديد إصلاحية شاملة, أم تنظيم سياسي يحمل رؤية وطنية جامعة. كما لم يقدموا لنا تفسيراً لماذا بزغ مشروعهم التوسعي مع اندلاع ستة حروب متتالية, وتحولهم من ثمّ إلى متمردين وجماعة مسلحة خارجة عن النظام والقانون؟ ولماذا غدا مشروعهم لصيقاً بالقوة والعنف وتكديس السلاح وممارسة أعمال تتنافى بالكلية مع الدعوات الإصلاحية وتُصادم بطبيعة الحال العمل السياسي السلمي؟ وبرغم كونهم يُصرون على رفض تشكيل أي حزب سياسي لتقديم أنفسهم من خلاله, إلاّ أنهم مع ذلك منخرطون في العمل السياسي دون أن يحددوا بالضبط ملامح هويتهم السياسية وبرنامجهم السياسي! تناقضات الحوثيين في ميدان العمل السياسي كثيرة, بالنظر إلى حداثة تجربتهم وقلة خبرتهم, وربما أيضاً نتيجة محاولتهم الإسراع في قطف ثمار جهودهم واستعجالهم الوصول, وهذا شأنهم على أي حال. من تناقضات الحوثيين, مطالبتهم بإسقاط الحكومة الحالية, ودمغها بالعمالة لأمريكا رغم مشاركتهم فيها! وعلى الرغم من أنهم يبدون معارضتهم الشديدة للمبادرة الخليجية المدعومة دولياً, ويعدونها مؤامرة أمريكية سعودية للإلتفاف على الثورة الشعبية, إلاّ أنهم كانوا سباقين في تقديم مندوبيهم ال35 لمؤتمر الحوار الوطني الذي هو أحد مخرجات المبادرة التي يرفضونها جملة وتفصيلاً كما يزعمون. حتى شعارهم, الموت لأمريكا, قالوا بأنهم لا يعنونه حقيقة وإنما يعنون فقط الموت لسياسة أمريكا, وإذاً فالمعنى الحقيقي في بطن الشعار وليس في ظاهره, لكنهم لا يفصحون عن ذلك لأتباعهم, بل يُفرطون في تعبئتهم بأن أمريكا محتلة لليمن ويجب جهادها وجهاد الحكومة اليمنية العملية التي سمحت لهم باحتلال اليمن مقابل بقائها في السلطة. وهم مع ذلك يشاركون في هذه الحكومة (العميلة) ولا يفكرون بالإنسحاب منها في الوقت الحالي. بيد أن أغرب تناقضات جماعة الحوثي, معارضتهم واستيائهم الشديد لما جاء في رؤى الأحزاب السياسية المقدمة لمؤتمر الحوار حول هوية الدولة اليمنية, والتي أتفقت جميعها- عدا حزب البعث والحوثيين- على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع القوانين. ومبعث الغرابة والدهشة أن الحوثيين الذين يتباهون بأنهم أصحاب ما يسمونه بمشروع الثقافة القرآنية الذي سيجدد الدين, كما يزعمون, ويعيد الشعب إلى ساحة الإسلام, ويجعل منه مرجعية شاملة لهم, إذا بهم يرفضون وبشدة النصّ في الدستور على أن تكون الشريعة الأسلامية مصدر القوانين جميعا!! وطالب بعضهم بحذف هذه المادة نهائياً من الدستور, والإكتفاء بالمادة الثانية التي تقول أن الإسلام دين الدولة, وبعضهم اقترح إدخال تعديل على تلك المادة لتصبح, الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع, بحجة أن هناك كثير من القوانين المخالفة لروح الإسلام, وعلينا أن نكون واقعيين ولا نغالط أنفسنا فنزعم أننا نطبق كل ماجاء في الشريعة, بينما يقول الواقع خلافه!! بمعنى أنه طالما وأن ثمة خروقات وخلل في تطبيق روح الشريعة ونصوصها فعلينا التخلي عنها, أوإشراك قوانين وضعية إلى جانبها لنكون واقعيين ولكي لا نشعر أننا متناقضون مع أنفسنا, وبالتالي نستطيع التخلص من عقدة الذنب ووخز الضمير فتستقر نفوسنا وتتعايش مع الواقع بهدوء واطمئنان. هذا مايريدون قوله. ولن نكون مبالغين أو متحاملين في ما قلناه عن نظرتهم تلك الرافضة للشريعة كمصدر وحيد للتشريع, فهذه رؤيتهم, التي سنعرض لها, عن هوية الدولة التي قدموها لمؤتمر الحوار الوطني تفصح بجلاء عن موقفهم الرافض للشريعة. فهي تقول إن الدولة في اليمن لم تُبنَ على أساس الإسلام, ولا جميع التشريعات خضعت للتشريعات الإسلامية, وخصوصاً التشريع الدستوري, وتضيف الرؤية: يمكن القول أن الدولة بُنيت على أساس حكم المادة (4) من الدستور التي تنصّ على أن " الشعب مالك السلطة ومصدرها..." وعلى حكم المادة (5) التي تنص على أن " يقوم النظام السياسي للجمهورية على التعددية السياسية والحزبية وذلك بهدف تداول السلطة سلمياً" وعلى حكم المادة (6) التي تنص على أن " تؤكد الدولة العمل بميثاق الأمم المتحد والإعلان العالمي لحقوق الإنسان...". وتضيف الرؤية (المقدمة لمؤتمر الحوار) أن المواد الثلاث الأخيرة (وهي 6,5,4 سالفة الذكر) هي التي تم الاعتماد عليها في وضع البناء القانوني للدولة وفقاً للأنظمة الوضعية المعاصرة, وبالتالي تم القفز على أحكام الشريعة الإسلامية في فقهها السياسي كلية, وأصبحت مضامين المواد الثلاث الأولى من الدستور- وهي المادة (1) الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية, المادة(2) الإسلام دين الدولة, المادة (3) الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات- ذات العلاقة بهوية الدولة ميتة, على حد تعبير الرؤية. وتأسيساً عليه, تذهب رؤية الحوثيين إلى القول: نرى أن الدولة هي شخص معنوي, والشخص المعنوي ليس له دين, فالدين هو للأشخاص الطبيعيين الذين يتكون منهم الشعب, ومن ثمّ الدين للشعب. والدين الإسلامي يقوم على مذاهب متعددة, ومن ثم يجب النصّ على هوية الشعب الإسلامية بما يكفل الاعتبار لجميع المذاهب الإسلامية وعلى وجه الخصوص المذاهب المتواجدة في اليمن. أ.ه وهكذا لا يرى الحوثيون أهمية النص في الدستور على أن تكون الشريعة مصدر القوانين جميعاً, بقدر ما يهمهم النص على الهوية المذهبية للشعب, أي التحديد صراحة أي المذاهب الإسلامية هي دين الشعب ومرجعيته, تماماً كما ينص الدستور الإيراني في المادة الثانية عشرة منه فيقول "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنى عشري, وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير". وطبقاً لهذه المادة, فالمذهب الإثنى عشري وحده هو أساس التشريع, بل هو وحده عنوان الدولة المسلمة والشعب المسلم. وهذا ما يريده الحوثيون حين قالوا في رؤيتهم " يجب النصّ على هوية الشعب الإسلامية بما يكفل الاعتبار لجميع المذاهب الإسلامية وعلى وجه الخصوص المذاهب المتواجدة في اليمن" أي محاكاة نصّ المادة (12) في الدستور الإيراني. بيد أن الحوثيين كانوا أكثر شططاً وتطرفاً من إخوانهم في إيران, فهم يعتبرون الدولة شخص معنوي لا دين له, وطبقاً لرؤيتهم تلك, لا حاجة للنص في الدستور على أن: الإسلام دين الدولة, فالدولة, من وجهة نظرهم, شخص معنوي ليس له دين!! في حين أن المادة (12) من الدستور الإيراني سالفة الذكر تنص في بدايتها على أن: الدين الرسمي لإيران هو الإسلام. وبالطبع فالمقصود هنا ب (إيران) الدولة والشعب معاً, إذ لا يمكن الفصل بينها والقول بأن لفظة (إيران) تعني فقط الشعب الإيراني ولا شأن لها بالدولة والنظام الحاكم. وفي حين تؤكد المادة (4) من الدستور الإيراني على أنه: يجب أن تكون الموازيين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والإقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها, وهذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقا وعموماً(أ.ه). وهي كما ترون تحمل دلالات صريحة بأن الإسلام مصدر جميع القوانين, وإن كانوا حصروه في المذهب الجعفري الإثنى عشري, إلاّ أن الحوثيين يطالبون بعدم النص في الدستور اليمني على أن دين الدولة الإسلام, كونها شخص معنوي, والشخص المعنوي ليس له دين, كما تقول رؤيتهم لهوية الدولة. وثمة ذريعة أخرى يقدمها بعض الحوثيين الذين يحاولون التدثر بالمدنية والتقدمية لرفض النص على أن تكون الشريعة مصدر القوانين جميعاً, وهي أن ذلك سيؤدي حتماً إلى قيام دولة دينية لا مدنية!! وهنا نسأل, أين هي تلك الدولة الدينية المرعبة التي تأسست في اليمن عقب ثورة سبتمبر وتشكيل حكومتها الجديدة بإشراف جمال عبدالناصر نفسه, الذي رضخ لإلحاح الشهيد الزبيري وكتب بخطه, الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعا؟ ثم هل كانت حكومات الثورة المتعاقبة منذ السلال والإرياني والحمدي وصالح دولة دينية لمجرد أن دستورها نص على الشريعة كمصدر وحيد للتشريع؟ وهل تغيرت دولة الوحدة وصارت دولة دينية بعد أن جرى تعديل النص الدستوري ليعود كما كان؟ وهل كان علي صالح على رأس دولة دينية؟ وهل خرج الشعب اليمني في ثورة شعبية رافضاً الدولة الدينية المزعومة أم رافضاً الحكم الوراثي المستبد الموغل في الفساد والظلم؟ ثم أين هؤلاء المزايدون من أشياع إيران الذين يضجون من الشريعة فيما يزعمون الإنتساب إليها والعمل على رفعتها, لماذا يصمتون على حكم الآيات والملالي الذين يحكمون دولة دينية حقيقية في إيران؟ فعلى سبيل المثال, تنص المادة (57) من الدستور الإيراني على: السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية, وتمارس صلاحياتها تحت إشراف ولي الأمر وإمام الأمة. وتنص المادة الخامسة على: في زمن غيبة الإمام المهدي تعتبر ولاية الأمر وإمامة الأئمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر. ألا تكّرس هذه النصوص دولة دينية أشد فضاعة من دولة الكنيسة؟ لكن أشياع إيران في اليمن يهتفون لدولة دينية هناك, ويُزايدون علينا بدولة دينية هنا, لا وجود لها سوى في مخيالهم وفي مشروعهم (القرآني) الذي يُروجون له باسم الولاية لآل البيت واصطفاءهم من دون الناس للتسلط على رقابهم بتفويض من السماء. تلك هي الدول الدينية بالفعل التي يريدونها لنا ونرفضها نحن, فقد عشنا وسنظل مع الشريعة أحرارا. [email protected]