بخلاف ما يحدث في كل بلاد الله، يتبجّح الحزب الحاكم في اليمن بقدرته على تحريك الشارع وإخراجه لمقارعة المعارضة، وتوجيه حركته لمؤازرة الحاكم فيما يريده رغماً عن أنف معارضيه الذين يتهمهم بالخوف من منازلته في الانتخابات والهروب منها نحو التأجيل! وبمجرد ما أعلنت أحزاب المشترك عن هبة غضب شعبية لرفض الإجراءات الأحادية للحاكم وبخاصة تلك التعديلات الدستورية المتعلقة بإلغاء فترة الرئاسة وما صار يُعرف بقلع العداد، هب المؤتمر الشعبي الحاكم لتعبئة الشارع وحشده وراءه، وساق الناس إلى مهرجاناته الاحتفائية بسطوة السلطة وقبضتها على وظائفهم، مستبقاً بذلك أحزاب المعارضة وملوحاً لها بذات السلاح التي لوحت به، ليبرهن لها على مقدرته اللعب بنفس الورقة التي ما زالت تدخرها له ولم يحن أجلها بعد. بالطبع يحاول الحزب الحاكم التذاكي على المعارضة ورجل الشارع معاً، وهو يخلط الأوراق ليلعب بها مجدداً وبخاصة مع المجتمع الدولي الذي يحاول إيهامه بأنه ما يزال يحظى بمشروعية شعبية، وأن الجماهير ما زالت متمسكة به، وأنها لا تعدل به بديلاً برغم ما تتجرعه منه! على كلٍ، لم يبق أمام المؤتمر إلاّ أن يُتوّج هبته الشعبية ضد أحزاب المعارضة بعصيان مدني يُسقطها بالضربة القاضية، ويقتلعها من الشارع كما فعل أحرار تونس بحكومتهم!! بين شارعي صنعاءوتونس ليس ثمة فرق يُذكر بين الشارعين اليمني والتونسي- والشارع العربي عموماً- من حيث شيوع الظلم والقهر وجنوح الحاكم نحو التفرد والاستبداد، وتزايد معدلات الفقر والبطالة وتصاعد لهيب الأسعار، لكن ومقارنة بما يعانيه الشعب اليمني يُعد التوانسة أفضل حالاً كونهم حظوا بخدمات أفضل بكثير مما هي عليه في اليمن، ونعموا بقدر من الأمن والاستقرار، وشهدت بلدهم طفرة تعليمية حازت إعجاب الجميع، ومع ذلك رفض التونسيون واقع الذل والقهر والتسلط، وحطموا قيود الظلم والاستبداد، وتمسكوا بحقهم في حياة حرة كريمة يكون الشعب صاحب الكلمة الأولى فيها، في حين أخفق اليمنيون في بلوغ ما يسمون إليه، على الرغم من أن الشارع اليمني(الحراك خصوصاً) يغلي منذ عدة سنوات! نجح الشارع التونسي لأنه حمل قضيه وطنية جمعت كل شتات الشعب ورائها في الداخل والخارج، تلك القضية لم تلطخها دعوة انفصالية ولا مناطقية، ولم تلوثها العنصرية والسلالية المقيتة، وكان مستعداً للتضحية وجاهزاً لسداد فاتورة حريته وكرمته، وقد برهن للعالم ولكل الخانعين المسكونين بهاجس الخوف والقلق الأمني الذين استمرأو استجداء مطالبهم من الحاكم أن الحقوق تنتزع ولا توهب. ونجح التونسيون لأنهم توحدوا حول هدف واحد ومشروع تغييري واحد، فلم تتنازعهم القيادات، ولم تفرقهم المصالح، ولم تتجاذبهم الولاءات الضيقة، فوقفوا صفاً واحداً وجهاً لوجه أمام غريمهم ولم يحل بينهم بينه شيء، وشرعوا في تصفية حساباتهم معه بشكل مباشر، فلم يصمد أمام إصرارهم وإرادتهم الجامحة في التغيير وفضل الهروب، ونجح النضال السلمي بالإرادة القوية وعدالة القضية ومظلوميتها، نجح بالحجر والصدر العاري والصرخة المدوية الشجاعة، وانطلقت صفارة البدء في هبة شعبية غاضبة وانتفاضة عارمة، وفي أقل من شهر تمكنت من اقتلاع أعتا نظام عرفته المنطقة العربية. المثير للاهتمام، أن الشارع التونسي ثار بتلقائية، دون أن يكون للنخب السياسية المعارضة أي فضل أو تأثير عليه، وتمكن بشكل مذهل من انجاز مشروعه التغييري في وقت وجيز، وهو أمر ربما لم تكن المعارضة تراهن على حدوثه بمثل هذه السرعة، والحق أن المعارضة تتحمل مسئولية تخلفها عن ركب الشارع الذي سبقها بمراحل، وبالتالي فإذا ما تم التحايل على منجز الشعب أو جرى الالتفاف عليه من قبل طغمة النظام وزمرته التي مازالت ممسكة بمفاصل السلطة وتحاول ركوب الموجة لتحقيق مآربها ومشروعها الخاص على أنقاض العهد البائد، فإن وزر هذا القصور والتقصير يقع بدرجة كبيرة على النخب المعارضة التي وقفت عاجزة طيلة الفترة الماضية من حكم بن علي وفضلت عوضاً عن تحمل مسئوليتها التاريخية تجاه الشعب التونسي إما مهادنة النظام ومداراته، وإما الهجرة خارج الوطن تاركة الشعب لوحده في مواجهة طغيان الحاكم واستبداده. وحين تغيب المعارضة أو تفضل الانزواء وتميل للمدارة وَتقْصُر همتها عن قيادة الشارع وتختار طريق السلامة كما هو حال كثير من النخب السياسية المعارضة في بلداننا العربية، ساعتها تنقلب الصورة وتتبدل قواعد اللعبة السياسية، إذ تستقوي النظم الحاكمة وقتئذ بالشارع نفسه لترهيب معارضيها كما هو الحاصل اليوم في اليمن! لقد أسقط الشارع التونسي فرضية " عدم المراهنة على الشارع"، وأثبت باقتدار خطأ المراهنة على غيره، وقدم دليلاً ساطعاً على إمكانية إحداث التغيير المنشود بمعزل عن القوى السياسية التي غالباً ما يكون لها حساباتها وطريقتها الخاصة في الوصول إلى ما تنشده من تغيير. إلى أين تتجه الأزمة اليمنية في اليمن ما زال الحزب الحاكم يكابر ويقامر، ويستميت في الظهور بشكل متماسك وكأن الأزمة التي تعيشها البلاد لا تعنيه، أو كأنها أزمة المعارضة وليست أزمة النظام، وهو يحاول خلق انطباع بأنه غير مكترث بما يقوله حلفائه الدوليون أو بما يريدونه منه حتى وإن كانوا الأمريكيين أنفسهم، وإن كانوا مجموعة أصدقاء اليمن الذين يتهيئون لمحاسبته في مؤتمرهم المقبل في الرياض مطلع مارس القادم، في الوقت الذي يمعن في تجاهل المعارضة ويقلل من قدرتها على فعل أي شيء، بدليل أنه عقب سقوط نظام بن علي مباشرة أعلن عدم صلته بمبادرة الشيخ محمد أبو لحوم لاستئناف الحوار مع المشترك، وقال بأنها لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد، وزاد مكابرة عبر رسالة بعث بها إلى أحزاب المشترك يُعلِمُهم فيها وبطريقة متعالية أن الانتخابات النيابية (27 أبريل 2011) أصبحت في طور التنفيذ ولم تعد موضوعاً للحوار، كل ذلك ليقول للمشترك أن المجتمع الدولي مهما كان تأثيره على اليمن فلن يذعن الحزب الحاكم لمطالبه، أما ما جرى في تونس فهو أمر لا يهمه، ولن يثنيه عن تغيير سياسته، وبالتالي فمن الخطأ التعويل عليه، فاليمن تظل دائماً استثناء من كل شيء. والواقع أن الحزب الحاكم بات في مأزق شديد، وصار صعباً عليه أن ينزل عند مطالب المعارضة أو يتراجع تحت ضغوط شركائه الدوليين، خاصة بعدما أبداه من تشدد غير مسبوق تجاه معارضيه بما في ذلك تعبئة الرأي العام المحلي ودفعه صوب انتخابات أحادية، في حين يعلم جيداً أنه لن يكون باستطاعته تمرير انتخابات أحادية الجانب مهما فعل، لذا فهو بحاجة إلى من يُخرجه من ورطته بما يحفظ ماء وجهه، ويبدو أنه وجد المخرج من الأزمة من خلال معاودة فتح ملف صعده واللعب مرة أخرى بهذه الورقة، ويتبدى ذلك من خلال اتصال الجانب اليمني بالوسيط القطري والشكوى من عدم تنفيذ الحوثيين بنود الاتفاق، وتصعيد صحيفة الثورة في اتجاه من أسمتهم حفنة التمرد، متسائلة إلى أين تسير هذه الشرذمة التي أدمنت الإجرام والحرب والفتن والتلذذ بسفك دماء الأبرياء، على حد تعبير الصحيفة، مهددة في الوقت نفسه جماعة الحوثي بأنها ستتحمل كافة المسئولية والنتائج المترتبة على عدم الامتثال لما أعلنت التزامها بتنفيذه، وأنها ستكون في مواجهة مع أبناء محافظة صعده وحرف سفيان، بل وكافة مناطق اليمن الذين لن يسمحوا لها- أي لجماعة الحوثي- بإعادة استنساخ الفتن أو إعادة محافظة صعده إلى نفس المربع الأول. (الثورة نت 13/1 ) التصعيد المتبادل بين السلطة والحوثيين، وتبادل الاتهامات بخرق الاتفاق والهدنة التي فرضتها الوساطة القطرية الأخيرة، ينذر بتجدد المواجهات بين الجانبين، خاصة وأن كل طرف قد استعد للآخر خلال الفترة الماضية، وعلى الأرجح أن جولة جديدة من المواجهات في صعده ستكون كفيلة بإيجاد المخرج المناسب من المأزق الذي تمر به السلطة سواءً على جانب الانتخابات أو التعديلات التي لاقت ممانعة داخلية ورفضاً خارجياً صريحاً. وفي حال نشبت الحرب مجدداً فسيكون ذلك إذاناً بترحيل الأزمة برمتها إلى أجل غير مسمى، وبذلك يستطيع الحزب الحاكم التملص من تعهداته بإمضاء الانتخابات في موعدها المقرر، كما يستطيع الهروب من الإصلاحات السياسية والانتخابية وحتى الدستورية التي يطالبه به معارضوه وشركائه الدوليون، كما ستثير الحرب الجديدة- في حال تفجرها- مخاوف شركاء النظام من احتمال انهياره تحت وقع ضربات الحوثيين وتصاعد الحراك السياسي في الجنوب وتنامي نشاط القاعدة في ظل أجواء محفزة، وهو ما يعني – وفقاً لما يؤمله النظام- تدفق المساعدات الخارجية عليه لإنقاذه من المخاطر التي تحيط به، على اعتبار أنه ما زال يمثل الضمان الوحيد لحماية مصالح شركائه كما يعتقد. ومهما يكن الأمر، فسيناريو كهذا وإن كان متوقعاً إلاّ أنه لن يكون مضمون العواقب بالنسبة للسلطة، بل ربما يؤدي إلى نتائج كارثية ليس أقلها فقدانها للمزيد من الأراضي، وتقلص سيطرتها إلى أضيق حدود، وبالنسبة للمعارضة فإن ذلك لن يحول دون مضيها صوب مؤتمر الحوار الوطني الشامل للخروج بقرارات تاريخية من المتوقع أن تعمل هذه المرة على تغيير الواقع السياسي وصناعة تاريخ يمني جديد.