لم يقر لهدى قرار بعد خروج ذو يمن. ارتدت أجمل ما عندها من ثياب، تنتظر دخول الهادي غالب. قالت (وبين الكلمة والكلمة، مسافة): قلبها يحدثها بأنه سيدخل تريد أن تكون لوحدها معه. سألتها (سؤالا لاهثا، يرجو الإحسان): هل غيرت رأيك؟..رمقتني بنظرة لم استطع أن أميزها إن كانت ساخرة، أم عاتبة؟. لم يطل الانتظار صدق قلبها. لكن الانتظار كان طويلاً، ننتظر خروجهما من الغرفة المغلقة. فردوس ويمن تدعوان الله أن يصلح شأنها بالعودة إليه. زينب لا يعنيها الأمر إن بقت أسعدتها وإن ذهبت أسعدت نفسها. وأنا، سوف أدون ما جرى في الغرفة المغلقة..قالت هدى: - عانقها بحرارة، قال: بأنه مشتاق لها كثيراً. اعتذر لها، أقسم أن لا يدخل صنعاء إلا إماماً. أراد أن يشفي غليله، لن يشفيه إلا هي فيها يسكبه. صدته. ذكرته بأنه قد أقسم، بأنه لن يدخلها إلا إماماً، فإذا دخل الباشا وكان في قصر الخلافة، سوف يكون إماماً. حاول ن يقنعها بأنه الإمام، استفزته..قالت: - من أدخلك صنعاء قد لا يوافق..رد (منفعلاً): - بل سيوافق. - لكن إصرارك يجعلني أشك بأنه لن يوافق..خرج مسرعاً، كان يقول: سوف يوافق وإذا لم يوافق فأنت طالق. كانت سعيدة، واثقة بأن الباشا لن يوافق.تعرف زوجها مثله لن يُوافق عليه، وطبعه. عرفت كيف تجره إلى الطلاق. أرادت الإنعتاق من أسره وجرمه، كان السبب في موت (رقية). وجاء محسن معيض بعد خروجه. متخفياً وقلقاً، القلق الذي منع شنبه من القيام. قال: جئت لأستريح سوف يصل الباشا غداً. لن تدعني الناس أستريح. وعدني خيراً بعد دخول الباشا. وإذا سارت الأمور، كما يريد، سوف يقيم لذي يمن عرساً لم تعرفه صنعاء. أردت أن أعاتبه ردني عمري. أقترب من الستين إلا سنتان وهو أكبر مني بعامين. عذرته وكنت أواسي نفسي. سألني عن الهادي. لم أفصح البيوت أسرار، ولو كان زوجي..قلت: أتى للسلام عليها، وعدها بأنه سيأخذها إلى قصر الخلافة بعد دخول الباشا..رد (ساخراً): دعيه يحلم..قلت: وأنت..أطلق تنهيدة عميقة، ثم قال: ما يريد الباشا.
* * * * صفر، 1289ه. الهادي وابن معيض. الإمام والشيخ. التوابع من كان راجلاً، وراكبا على حصان والأعيان. خرجوا لاستقبال الباشا. كانت صنعاء وراؤهم، أسطح منازلها كتلة واحدة من لهب. عبر عن فرح المدينة، إلا بيت يمن. وعصر أمامهم، عصر نقطة اللقاء. عين الإمام والمظلة تدور كالمغزل على رأسه. الطبول تدوي، من حوله آل الإمام، والسادة وغيرهم. غيرهم: ابن معيض والأعيان. عيونهم محدقة إلى هناك، من هناك سوف يبزغ الباشا، فإذا بزغ استراحت عيونهم، ولن تستريح الطبول. في عام1265ه دخل تحت مظلة المتوكل فإذا سقطت المظلة ظهرت الحقيقة. خيانة المتوكل. ثارت صنعاء، طردت الباشا، وقتلت المتوكل. وفي هذا العام، بعد أربعة وعشرين عاما، دخل تحت مظلة الهادي و(عسيب) الشيخ. الحقيقة ظاهرة، خيانة الاثنين، ولم تثر صنعاء. ارتضت بالخيانة هروباً من الفوضى. لم ترض يوم كان المهدي حياً، وارتضت يوم أن كان ميتاً..قالت يمن (كانت واقفة على عتبة الباب، متكئة على عصا وبيدها الأخرى ورقة ترتعش..بصوت متعب): - من هو؟. شلني منظرها، إلا أن سؤالها بعثني. أسرعت إليها، لم تستعن بعصا من قبل..قلت: - من كان لم أرك هكذا يا أمي..ردت (مبتسمة، مثل وجهها المتعب): - قلتِ يا أمي..واصلت (حازمة، ما أشد الحزم!، حزم المسن المنهك): - قلت..من هو؟..رديت (صاغرة): - علي المهدي. - كيف؟ - ارتضت صنعاء بالباشا بعد موته..ردت (ساخرة): - لن تجد البديل إذا ثارت، فأرادت أن تموت مثله..كانت الفوضى هو، وهو كان الفوضى..فهل يفعلها الباشا؟ ما أتعسهم إذا فعلها، وما أتعسني يوم دخل الباشا..صمتت مطرقة وأنا مثلها، إلا أن عيني كانت على جبهتها. دار في ذهني حالها..يقال بأن التوقع أشد من الوقوع، إلا أن وقوع الباشا على يمن كان أشد. ليس كل ما يقال صحيح، فلكل مقام مقال. كانت مهمومة بالفوضى، إلا أن هَمَّ الباشا كان أشد. قطع ما بذهني وصول هدى..قالت (حائرة): - أبلغني الهادي بأنه سيأتي إلى هنا ويأخذني بعد صلاة الجمعة..ردت يمن (ضاحكة، ما أعذبها! ضحكة المسن الحبيب المنهك، أعادتها إلى حياتي): - يأخذك..اسمعا ما قاله صاحبي..قلت (مقاطعة..دهشة): - صاحبك. - تحسبين أنه لأسعد فقط..اسمعا، وأنت تكتبيه كما تريدين..قرأت ويدها ترتعش: (دخل الباشا قصر صنعاء، طافه وقد صار مهدما. عاد إلى المكان الذي اختاره لنفسه. كان يتلطف لمن خرج إليه. اختبرهم. علم أنهم لم يكونوا على شيء، وأهل صنعاء قوم غوغاء يتبعون كل ناعق)..سقطت على الأرض، صرخت، وهدى: أمي..أسرعت إلينا، زينب، وفردوس. كانت العصا مؤشراً. رقدت يمن مريضة. لم أتوقع أبداً، فكان الوقوع مفاجأة لم احتسبها. كنت أحسبها جبلاً. لا ترقد إلا نائمة. من آن إلى آخر كان يداهمنا المرض، إلا هي. فتر حماسي للكتابة، أكتب وذهني عندها. المريضة، والمتعافية. لم يعد هناك من يقف على بابي وينعش ذاكرتي، ويبعد عن نفسي تعب وملل الكتابة فكان لي أن أتوقف عن الكتابة..في اليوم الثالث فتحت عينها، كانت إذا فتحت تحدق في السقف للحظات، وعلى الحاضرات للحظات أخرى ثم تغلق عينها. وفي اليوم الثالث، قالت (وعينها بعيني): - ما أخبار الكتابة؟ - لم تحن بعد، مازال الباشا في بداية حكمه. - إلا إذا سألتك، تكتبين السؤال، والإجابة؟..رديت (وأنا أكاد أجهش بالبكاء): - سوف أفعل. - هل عادت هدى إلى زوجها؟ - لا. - أحكي قصتها. (لم يخرج الباشا للجمعة، وخرج الهادي بالعذبتين وعمامة الأئمة السابقين. اجتمع لرؤيته المتفرجين. خطب الإمام. ذكر الإمام والباشا، وخلعت الكسوة للخطيب، على رؤوس الأشهاد. وصل خبره إلى الباشا، نقله من حضر من الأتراك. لم يعجب الباشا. أمره بقطع العذبتين، وعينه عاملاً على عمران). - ومحسن المتوكل. - أخذ الزكاة التي جمعها وذهب إلى أرحب. - وهناك انكشح، وطوى. - نعم. نامت، عادت وسألتني بعد زمن، لا أدري كم هو، كأن الزمن قد توقف بعد مرضها..قالت : - هل قضى الأتراك على الفوضى؟ - مازال الوقت مبكراً. - وماذا فعلوا حتى الآن؟ - يزحفون على حاشد بعد أن انتهوا من الدفعي في شعوب، والعذري في أرحب. - بداية طيبة..ما أتعسهم! نامت، فإذا سألت لا تسألني إلا أنا. مرت سنة وبضعة أشهر، لم تسأل.كانت تكتفي برسم ابتسامة عريضة.كنت خائفة من سؤالي عن ابن معيض. لم يزرني منذ دخول الباشا. وإذا سألتني، سوف أحكي لها الرؤيا. رغبة ملحة في أن أحكي. سيبعثها السؤال. أريد أن أنفس عن نفسي، لا أتنفس إلا ليمن. وأخاف من أن أثقل عليها، والحديث عنه. غيابه بعث عتبي عليه، والرؤيا بعثت شيئاً ما، كأنه الكراهية. إذا فتحت عينها، أنتظر، خائفة، ومتشوقة. وبعد سنة وبضعة أشهر أخرى، سألتني: - وأبن معيض. - رفع الباشا منزلته، (كلمته المقبولة النافذة)..رأيت رؤيا، هل أحكيها لك؟ - احكيها. - ولنا..ردين الثلاث بصوت واحد، جال نظري عليهن، ثم قلت: ( أمر الباشا بسجنه..هدده بالقتل إذا لم يدفع ما طلبه منه..كفل عليه تجار صنعاء بدفع ما طلبه منه، فأعاده إلى بيته..رأيته وهو يلقي بنفسه على فراشه، كان متعباً..ذهب في نوم عميق، إلا أن قرعاً عنيفاً أفزعه من النوم..هرع مسرعاً إلى الباب، فإذا الجنود ينتظرونه.أخذوه عنوة إلى الباشا..كان ينتظره، وقد نصب له (مشنقة)..قال له (منفعلاً) : - المال أو المشنقة يا ابن معيض..رد (فزعاً): - المال، أعيدوني إلى بيتي ولن يعود الجند إلا به. - أربعون ألفاً يا ابن معيض..ورأيت الجند، وابن معيض..كانوا يحملون المال وابن معيض واقف يتفرج عليهم، حتىإذا اختفوا خر على الأرض..أطلقت تنهيدة، طويلة، وأنا واقفة أمام جثمانه المسجى، ثم قلت(ساخرة..غير مشفقة): - نهاية تستحقها. انتهيت من حكايتي، وانتهت حكاية (يمن).كم كانت عظيمة في حياتها ومماتها. لم ترض أن تموت إلا بموت حكايتي. لم يخنها ذكاؤها. لازمها حتى النفس الأخير. أدركت حاجتي، تموت بعد أن أتممت المائة. مائة عام من الفوضى، بدأها جدي عام 1192ه، وأنهتها أبنته عام 1291ه. كانت تقترب من المئة إلا سنتين. لم تبتعد كثيراً كأنها لم ترد أن يكون عمرها وعمرها سواء. أرادت أن تميزها عنها، ذكاء العظماء إلى آخر نفس. أدركت بأني بحاجة إلى عنوان إن تساوى عمرها والفوضى، احترت في أن يكون: مئة عام من الفوضى، أم مئة عام من حياة يمن.كم أنا مدينة لها بحياتها ومماتها. لم تتركني حائرة كما كانت في حياتها. قررت أن يكون عنوان روايتي: مئة عام من الفوضى. سوف أسميها رواية أرجو أن تقرأ كذلك. وقررت أن أكتفي بقرن من الفوضى. ما أكثرها في اليمن! طغت، فضيعت سنوات الاستقرار. لم أجد غير ذي يمن. أعطيته الرواية. رجوته أن يحفظها في حدقة عينه. جهد مئة عام.كانت من الفوضى، الأئمة، أم الحيمي، أم أبن معيض، فماذا عن الباشا؟..سألني ذو يمن إن كان بإمكانه مواصلة الرواية..أجبته: ذلك شأنك..لم يقتنع بالإجابة كأن الأمر لا يهمني..عاد وسألني: إن كان يستطيع الإجابة على سؤالي: فماذا عن الباشا؟..أجبته: أتمنى أن تكون: مئة عام من الاستقرار، فمتى تكون لنا؟..لم يقتنع بالإجابة، كأني قد وافقت إذا كانت من الاستقرار. عاد وسألني: فمتى تكون لنا؟..وضعني معه في خانة واحدة، السؤال المحير..فمتى تكون لنا؟ انتهت، يليها الجزء الثاني من الرواية بعنوان ( سم الأتراك ) صدرت عن مركز عبادي عام 2012م.