فجأة سقط الكائن البشري المتصلب، الساكن في أعماق ذاتي المختالة، هوت الروح المتماسكة، اهتزت مشاعري المتثلجة، انهارت النفس المتصلبة، حدث هذا حين علقت عيني بمشهد" تقبيلك ثرى أبيك المغدور" رفعت الهاتف والتقطت صورة تدمي القلب، يدي المرتعشة أبت إلا أن تخلد تلك اللحظات الأليمة، طوقتني تلك الصورة أكثر، هزت جذور روحي المنكسرة، أصدقك القول: أن ذلك المشهد نحت صورة مؤلمة اوجعتني كثيراً، حاولت تمالك نفسي المنهارة ، كفكفت دموعي بصمت، أيقظت عقلي كي يثبتني في تلك اللحظة ، استجمعت شجاعتي، تظاهرت بالقوة والصلابة، فعاد الألم يعصر قلبي بشدة، لم أكن أتوقع أن يوماً ما سأفقد السيطرة على ذاتي بتلك الصورة! اليوم فقط أدركت هشاشة الممانعة الروحية للإنسان، مهما بلغ من نضج وشكيمة يبقى كائن مشاعري يتلاشى أمام منظر انتحاب فتاة على قبر أبيها، انسحبت بعيداً عن فتحة القبر؛ كي استعيد الوعي المفقود ، فتبللت روحي من الداخل ، شعرت بجفاف في مقلتي وكان نزيف داخلي يعبث بما بقى من أشلاء النفس المحطمة، لا أبالغ في شيء، ولا شك أن كل واحد منكم قد مر بمواقف صعبة كهذه ، عجز فيها عن البوح بالحركة الداخلية التي تعتمل في نفسه لحظة فقد السيطرة على السلوك... آلاء ، فتاة لم تربطني بها أي علاقة، ولم يسبق أن إلتقيت أباها، وربما صورتها الذهنية عني سيئة لسبب أو لآخر؛ لكن جزالة صورتها عند قبر أبيها، لم تستأذنني ، اجتاحتني بشكل مرعب، مزقت كل أسوار المقاومة النفسية، وقفت مصعوقا أمام دلالة تلك الصورة المزلزلة، أول مرة تهزمني فيها اللغة، لا اعترف أن هناك أحداث ووقائع ومواقف أكبر من الكلمات، كنت أسخر ممن يقول أنه عجز عن توصيف المشهد؛ لكنني اليوم آمنت بجزء من تلك المقولة ، دفنت الألفاظ بحفنة التراب التي أخذتها الفتاة من على قبر الأب المغتال ظلماً وبدم بارد، في تلك اللحظة تسائلت ماذا سيكون شعور جلال بلعيدي وقاسم الريمي لو وصلت إليهم تلك الصورة؟ هل ياترى ستحرك بقايا مشاعر نائمة؟ هل ستضيء ضمائرهم المظلمة ونفوسهم المتوحشة؟ هل بمقدور الإنسان غض الطرف عن مشهد كهذا؟ وللتؤ قفزت إلى ذهني الصورة الشهيرة للطفل محمد الدرة وهو يقتل في حضن أبيه، إبان انتفاضة الأقصى عام2000م عقدت مقارنةً خاطفة، بين الصورتين فكادت أن تتساوى الدلالة مع اختلاف في طبيعة الموقفين، تلك لطفل وهذه لفتاة، الدرة يتوسد حضن أبيه عله ينجو والثانية تحتضن التراب الذي يتوسده الأب، ذاك قتله الإرهاب الإسرائيلي وهذه قتل أباها الإرهاب "القاعدي" بالتأكيد تتشابه الصورتين في المعنى، مع افتراق في أن الأولى هزت الضمير العالمي، وعرت الإنسانية الجوفاء، والثانية حديثة العهد وقدر لها أن تكون في بلد تجمدت مشاعر أبناءه وأصبحت مظاهر الأسى عادية، ومشاهد القتل طبيعية، وجزء من الحركة اليومية للمواطنين، وزد على هذا أن الطفل محمد الدرة كان مرعوبا من القاتل المتوحش أما آلاء فقد تشربت الشجاعة والإباء من أبيها،ومع هول الفاجعة إلا أنها صعدت المنصة في ساحة التغيير وخاطبت الجموع برباطة جأش مبهرة، ووقفة أسدية اذهلتني رغم أني لم أسمع فحوى كلامها؛ لكن الوقفة تلك تشي بالمعنى العميق للروح المتأبية على الانكسار، وبالفعل لقد سقطت أحلام القاتل في إسكات الصوت الحر، وبزغت آلاء تؤكد مضيها على نهج أبيها الراحل، وبهذا تكون قد فوتت الفرصة عن لصوص الأرواح اللذين أرادو كسر القلم المزعج، ونسوا أن "الخيواني" مدرسة في الحرية تخرج منها الكثير ، وبالتأكيد فقد كان لابنته" آلاء" نصيب كبير من روح أبيها الممتلئة بالعزة والحرية والكرامة، وهما القيم الأساسية التي ينتصب بها الإنسان ويصبح كامل الأهلية ومؤهلا للابداع والانطلاق نحو فضاءات حلم المستقبل الذي ينشده الجميع وكان في طليعته أبوها الذي خطفته قوى الرجعية والتخلف المعادية لقيم الحضارة والمستهترة بقدسية الإنسان...