تعود الشارع اليمني ان يسمع من الرئيس السابق/علي عبد الله صالح خطابات كثيرة، لكن على الاقل في مناسبات وطنية وقومية ودينية معروفة، وكان صالح يبدو في تلك الخطابات مركزا على قضايا بعينها وكانت طروحاته اكثر وعيا وادراكا لطبيعة ما يجري من متغيرات سياسية، او على الاقل كانت خطاباته منطقية نوعا ما. وفي الفترة الاخيرة التي تلت تسليمه السلطة للايادي الامينة التي اختارها هو بنفسه، بدأ صالح يلقى الخطابات لجماهير الشعب اليمني كما لو كان ما زال هو رئيس الجمهورية واطلق على نفسه لقب الزعيم وهي نادرة الحودث ان يطلق شخصا على نفسه القابا يتوجها بالقابه كما قال البردوني في قصيدته الشهيرة "الغزو من الداخل". لم يستيطع صالح تحمل بقائه خارج السلطة او الصبر على الوضع الجديد الذي هو فيه كرئيس مخلوع او معزول كما يصفه معارضيه او رئيس سابق كما يصفه انصاره ومريديه، فكان يطل من حين الى اخر يلقي خطابات نارية يتهم فيها خصومه السياسيين بالخيانة والعمالة والفشل والفساد والتخريب والتامر، ليوحي للاخرين انه القائد الوطني الاوحد والاحرص على مصلحة اليمن، والغريب انه في الخطابات الاخيرة اصبح يتباكى على المواطنين واحوالهم المعيشية المتردية بسبب ما يزعم سياسات معارضيه الفاشلة متجاهلا ان الاقتصاد اليمني تضعضع في عهده وتدهور سعر صرف العملية اليمنة من اربعة ريالات لكل دولار في بداية حكمه لليمن الى 215 ريال لكل دولار في نهاية حكمه لليمن الذي ما زال صالح يحكمه حتى الان. في الخطاب الاخير لصالح والذي يعد خطابا من غير مناسبة ومفاجئ للجميع، ظهر صالح فيه متخبطا وغير منطقيا في طرحه للقضيا السياسية وفي تناوله لطبيعة الخلاف السياسي بينه وبين معارضيه، حيث اتهم معارضيه ببيع اليمن وبتوقيع عقدا مع اعداء اليمن لضربه وتدميره وقتل شعبه مقابل ما زعم صالح السلطة، التي رددها كثيرا في خطابه لدرجة انه عكس حالته النفسية ونظرته الخاصة ومفهومه الخاص للسلطة التي يعتبرها صالح حقا اصيلا له وحده فقط دون غيره من ابناء الشعب، كاشفا اللثام عن فلسفته السياسية المتعلقة بالسلطة التي يعتقد صالح انه وحده في اليمن من يمنح السلطة لمن يشاء من الناس وبالقدر الذي يشاء. التخبط والتناقض في الخطاب كان هو اللغة المهيمنة على محتويات ومضمون الخطاب، حيث بدأ صالح بكيل التهم بالعمالة والخيانة لخصومة السياسيين مجرما التحالف مع جارتنا المملكة العربية السعودية معتبرا استدعائها لضرب اليمن جريمة كبرى وخيانة عظمى ضد الوطن، ناسيا نفسه انه كان متحالفا مع السعودية يستجديها الدعم المالي جاعلا منها بقرة حلوب تدر الى وعائه الخاص، ونسي صالح انه اول من استدعى السعودية لضرب اليمن في حروبه المسرحية مع الجماعة الحوثية التي كان يصفها بالاثناعشرية الفارسية المجوسية العميلة لايران. لقد تخبط صالح كثيرا في خطابه الاخير الى درجة انه كان يدين نفسه ولا يشعر بذلك مطلقا، حيث اعتبر التحالف مع الجيران جريمة كبرى والعلاقات الوثيقة معهم خيانة عظمى، ونسي نفسه انه متحالفا مع ايران الفارسية سواء كان ذلك سرا او علانية، فعلاقاته الوثيقة مع ايران لم تعد خافية على احد وان كانت مبطنة من خلال حلفائه الجدد، الحوثيين، فصالح في تخبطه الغير معتاد ادان نفسه بجريمة الخيانة العظمى من خلال مدحه للحركة الحوثية وتمجيده لايران وللشعب الايراني، معتبرا التدخل الايراني في اليمن امرا جيدا ومباحا ولا بأس به طالما هذا التدخل يصب في مصلحته الخاصة. لقد اعلن صالح في خطابه الاخير رفضه الحوار مع اطراف العمل السياسي اليمني، مشترطا حوارا مباشرا مع المملكة العربية السعودية، ناسيا ان الحكومة الشرعية هي من تملك الحق في رفض الحوار معه ومع جماعته الحوثية الانقلابية كونهم لم ينفذوا قرار مجلس الامن 2216 والقرارات الاخرى ذات الصلة والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني الشامل التي اعاقها صالح واعلن الحرب على حكومة الكفاءات وعلى الرئيس هادي بالتنسيق والتحالف مع ايران والحوثيين، معتقدا انه سيكرر سيناريو عام 1994م، ناسيا المثل الشعبي اليمني القائل مش كل مرة تسلم الجرة. تحدث صالح عن خصومه السياسيين كثيرا وصافا اياهم بالمرتزقه الباحثين عن السلطة كما لو كان صالح ملاكا طاهرا لا يبحث الا عن الزهد والتقوى والورع والتعبد والتضرع الى الله كالراهب في صومعته او الفقيه في زاويته، والحقيقة ان صالح وحلفائه الحوثيين اكثر الناس طمعا في السلطة واكثر من في الارض شراهة للنهب والفساد والاستيلاء على المال العام اموال الشعب، وهكذا استمر صالح في تخبطه طيلة خطابه الاخير ليدين نفسه عدة مرات ولعل ابرز ادانة هي تلك التي ذكر فيها انه اخرج خصومه السياسيين من البلاد متوعدا من تبقى منهم انه سيخرجهم من اليمن او يقبض عليهم ويقدمهم للمحاكمة، وبهذا المنطق السياسي الغبي اثبت صالح للجميع انه سبب الفوضى والحرب في البلاد كونه غير مستعد للحوار والتعايش السلمي مع الاخرين والعمل مع الجميع بروح وطنية صادقة. لقد طغت على الخطاب الاخير لصالح، لغة التهديد والوعيد والتحدي لخصومه السياسيين، في وقت نحن في امس الحاجة لخطاب يهدئ النفوس ويلطف الاجواء السياسية المتشنجة، لكن للاسف سعى صالح في خطابه الاخير الى شحن الاجواء واغلاق ابواب الحوار والسلم، مطلقا العنان للسانة في اطلاق عبارات الحرب والصراع والخراب والدمار، متوعدا الشعب اليمني انه سيعديهم الى العصر الحجري والى الحياة البدائية البسيطة التي كان يعيشها الناس في عصور ما قبل عصر الصناعة، فبدلا من ان يعد الشعب بالرخاء والرفاهية والتطور والازدهار، بشر صالح الشعب بالفقر والمعاناة والحرمان من ابسط الحقوق الانسانية الى درجة انه توعدهم بالكي في اجسادهم والجوع، وحرمانهم من تكنولوجيا العصر من خلال العودة الى استخدام الحمير والبغال والجمال كوسائل للنقل والمواصلات، والخلاصة ان خطاب صالح كان فعلا خطاب من غير مناسبة وكلام لا ينطقة حتى المجانين.