كان في ال 9 من العمر، حين قادته أسرته إلى قلعة القاهرة، ضمن 12 رهينة اخذهم الإمام كضمان ولاء. ترك أحمد قاسم مساكن أسرته الكبيرة في منطقة النقيلين- إب، ليقضي جزءاً طويلاً من طفولته في القلعة المطلة على تعز، بين "القمل" والقيود. عاد إلى "النقيلين" شاباً في ال 18 من عمره، لا يجيد القراءة والكتابة. إلاَّ أن ابن الأسرة التي كانت تتزعم قبيلة بكيل؛ أُخضع لبرنامج تعليمي مكثف، وأصبح أحد أهم المثقفين اليمنيين. والثلثاء الماضي؛ تذكر أحمد قاسم دماج بألم تلك السنوات التي قضاها رهينة، ضمن اطفال آخرين ينتمون إلى المحيط المحسوب على الشيخ مطيع دماج، مات 10 منهم بسبب الأوبئة في قلعة القاهرة. يسير أحمد قاسم اليوم في عامه ال 70، وما زال يتمتع بحيوية وقدرة على شد انتباه الناس. يختار كلماته بدقة، ويتذكر كثيراً من الأحداث التاريخية الهامة. أغلب أسنانه غادرت فكيه؛ إلا أن روحه ما زالت شابة. يتحدث بإيجاز وعمق. والجلوس معه يعني الجلوس إلى مثقف وسياسي كبير لا يجلب الملل. لا نستطيع أن نقول إنه قصير، لكنه نحيف للغاية، وأب جيد لأبناء يتركون انطباعاً ايجابياً عنه وعنهم. جاء الأستاذ أحمد قاسم من أُسرة مشيخية كبيرة، استطاعت تقديم نفسها كأسرة حديثة تهتم بالثقافة والتعليم. شارك في معارك الدفاع عن الثورة، وفي يونيو 1965 عُيِّن أميناً عاماً لرئاسة الوزراء في حكومة السلال ثم حكومة العمري. قبل ذلك كان، عام 1962، سكرتير أول محافظة إب، ثم، بعد عام من ذلك، مديراً عاماً للإعلام والإرشاد فيها. كان صديقاً للرئيس إبراهيم الحمدي، الذي عينه مستشاراً في رئاسة الوزراء للشؤون الثقافية. بعد الوحدة صدرت 3 قرارات بتعيينه مستشاراً لرئيس الوزراء لوزير الثقافة.. ولكنه يقول إن تلك القرارات شكلية لم يلتحق بها. في هذا الحوار يتحدث الأستاذ أحمد قاسم دماج، بشجاعة، عن أحداث وقضايا بالغة الأهمية. حوار: نائق حسان وعلوي السقاف :: برأيك؛ ما أسباب هذه الأوضاع التي تمر بها البلاد.. على وجه الدقة؛ الاعتصامات والاحتجاجات في الجنوب؟ - سببها القرارات غير المدروسة وغير الواعية والحمقاء. ناس كانت الملكية الخاصة عندهم محدودة جداً، وكانت كل مصادر الثروة بأيدي حكومة كانت قائمة في عدن.. تصور؛ تأتي السلطة وترمي بفريق من هؤلاء دون أن تحسب حساباً لمصادر عيشهم! ما الذي تتوقعه في مثل هذه الحالات، إلاَّ أن يكون رد الفعل [بهذه الصورة الحاصلة اليوم].. ويبدو لي أن هؤلاء المعتصمين قد صبروا كثيراً.. القرارات غير المدروسة المبنية على الضغينة والأحقاد، أحقاد الصراع السياسي السابق في الساحة اليمنية عموماً، وفي الجنوب خصوصاً،.. استُخدمت كمنطلق لاتخاذ قرارات وإجراءات لم تحسب حساباً لا للإنسان ولا للأوضاع العامة، ذلك هو السبب الحقيقي لمثل هذه الأوضاع الحاصلة اليوم. :: الأزمة تطورت الآن من المطالبة بالحقوق إلى دعوات للانفصال.. ما سبب ذلك؟ وأين تكمن جذور هذه الأزمة؟ - أعتقد أن حكاية المطالبة بالانفصال فيها نوع من المغالاة، إلى حد كبير. لكن جذور هذه الأزمة في ما اتخذته السلطة من تدابير خلال ال 13 السنة المنصرمة. لم أنقطع عن زيارة الجنوب سنة كاملة طوال ما كان هناك حكومتان في الوطن. الناس في الجنوب كانوا أكثر إقبالاً على تحقيق الوحدة، وبشكل أكثر وعياً. مش ممكن تنقلب الأحوال رأساً على عقب؛ على أن هناك خطأً رئيسياً ارتكب في مسار ما بعد تحقيق الوحدة: السلطات المعنية اتخذت من دعاة الانفصال في الجنوب أنصاراً لها، وأهملت الوحدويين الحقيقيين ورمت بهم خارج الخط، ولهذا جاءت النتائج بمثل هذا القدر من السوء. الجميع يتحمل مسؤولية ما يجري :: من يتحمل مسؤولية ذلك؛ بشكل مباشر؟ - بشكل مباشر؛ السلطات تتحمل مسؤولية ذلك. وتبرئة الحركة السياسية عموماً [من تلك المسؤولية]، سيكون فيها أيضاً كلام غير عادل. الحركة السياسية القائمة مسؤولة، أيضاً، عن هذا التدهور، لأنها لا تمتلك، ولم تمتلك، مخططاً لمواجهة مثل هذه الأوضاع، ومواجهة السلطات بخطة واضحة قائمة على معرفة عينية وعلمية لما يدور داخل الوطن.. الكل شريك في هذه المحنة التي تواجهها البلاد. :: هناك، الآن، حوار بين الحزب الحاكم والأحزاب الممثلة في البرلمان.. وهناك من يرى أن ذلك محاولة للالتفاف على قضايا الجنوبيين.. هل تعتقد أن الأحزاب قادرة على وضع مخرج لهذه الأزمة وسط تبادل هذه الاتهامات وحالة عدم الثقة؟ - أولاً؛ أريد أن أسأل: هل هذا الاصطفاف يتمثَّل أهدافاً واضحة وواقعية؟ اسمح لي أن أتحول هنا إلى مكان الصحفي: هل واضح من خطاب المعارضة والسلطة أن لديها بالفعل أهدافاً واضحة، وتمتلك تحديداً دقيقاً للقوى والنهج الذي ينبغي أن تتبعه للوصول إلى مثل هذه الأهداف؟ :: المشترك يقول إن له رؤية لإصلاح شامل للأوضاع.. - (مقاطعاً) لنقل إن الإصلاح الشامل هو الهدف، لكن من هي قوانا التي ستحقق ذلك الهدف؟ وما هو النهج الذي سنتبعه؟ وما هي التدابير التي يمكن أن تُتخذ لكي نحول هذا الهداف من أمنية، إلى شيء واقعي يمارس يومياً في العمل السياسي؟ في حدود اطلاعي، وهو محدود، لم أكتشف لا في خطاب الحكومة ولا في خطاب المعارضة ما يوضح أن هناك، بالفعل، خطة عمل قائمة على معرفة عينية وعلمية تواجه مثل هذا التدهور المهول الذي يهدد كيان البلد. المسألة ليست قضية انفصال، أنا أخاف أن نتشظى فعلاً. كل مطلع على التاريخ اليمني يدرك أن الانحطاط والفساد حين يبلغ منتهاه في واقع اليمن، فإن البلد لا ينفصل، بل ينقسم ويتشظى. وهذا شيء خطير على مستقبل الناس وعلى حاضرهم. :: ويبدو أن الوضع الآن يسير نحو الانفصال، أو هكذا تتعزز القناعات لدى الجنوبيين.. السلطة لم تستوعب بعد مطالب الناس، وليست جادة في إحداث إصلاحات حقيقية، وذلك يُقابل باتساع غضب الناس بشكل يومي.. - غضب الناس يتسع نعم، لكن لا يبدو أن هناك خطة أو جهة تخطط لليمن. الذي يجري بالفعل هو أن أزمة المجتمع تقود وتندفع إلى التشظي، أقصد عودة السلطنات وإن كانت غير معلنة دستورياً، بحيث تصبح كل منطقة تُحكم بسلطنات وبمصالح خاصة لها، لأن قوى الانفصال غير منظمة حتى الآن، بقدر ما لا تمتلك قوى السلطة الحد المطلوب من أسباب الدقة والانتظام. في الجهة الأخرى هناك أيضاً تفكك. إن كنت أخشى أنا؛ فالحقيقة أخشى من المحيط، بأن يقود إلى عملية تقسيم. محيط لا ينظر إلينا، برغم كل الضجيج الإعلامي المرافق، بعين الرضا، لأننا شعب توحد في اللحظة التي تشظى فيها العالم. عام 1990، انهار المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، وتمزقت كثير من المناطق في العالم.. في هذا الظرف بالذات يتوحد اليمنيون. ألا ترى أن هذه خطوة مباغتة من التاريخ؟ :: يعني أنت تعتقد أن قوى المحيط الإقليمي يمكن أن تتدخل لدفع الأزمة الحاصلة نحو الانفصال؟ - أنا عندي حدس، في حقيقة الأمر، وإن كان ليس علماً، لكنه حدس.. بأنها تدخلت وستتدخل. :: يقال إن هذا التلويح بوجود قوى إقليمية ودولية تدفع البلد نحو الانفصال، مبرر للسلطة للتغطية، أو لعدم الاستجابة، للمطالب الحقوقية لأبناء الجنوب، وعدم القيام بأي إصلاحات.. والحقيقة أن القول بوجود قوى خارجية خلف الأزمة الحاصلة يقلل من شأن احتجاجات الجنوب. - دعني أعيد الاتهام: أنا أعتقد أن السلطة ضالعة مع المحيط.. :: (نضحك).. طيب يا أستاذ أحمد؛ هناك قطاع واسع، في الحركة الاحتجاجية الحاصلة في الجنوب، يعرف ماذا يريد بالضبط. وهناك قوى صعدت في الجنوب، على حساب حضور الحزب الاشتراكي.. هل موقفك من المسار الذي وصلت إليه هذه الاحتجاجات [الدعوة للانفصال]، لا يعود إلى خلفيتك الاشتراكية: أنت تخشى من صعود قوى جديدة على حسابكم أنتم كيساريين؟ - المطالب الحقوقية أنا معها. أي حركة انفصالية تحت كل الظروف وتحت كل المبررات، أنا ضدها؛ بحكم أني نشأت نشأة وحدوية وبحكم أني اشتراكي، ولكني لست في الحزب. أنا أؤمن بأن العدالة الاجتماعية هي أهم أهداف الثورة اليمنية بشكل واضح وقاطع. أعتقد أن اليمن الحقيقية لن تقوم إلا بعدل اجتماعي حقيقي، لكن هذا لا يعني أني أدعو إلى الانفصال، لأنه لا يحقق العدل الاجتماعي. كنا مقسمين 21 سلطنة وأعرف أنه كانت هناك مظالم لا حد لها.. وكنا حكومتين في وطن واحد وأعرف أن مسألة العدل الاجتماعي لم تتحقق ولا مسألة الحرية ولا مسألة صون الحقوق، فلماذا نُعلق على كتف الوحدة كل هذا الانهيار الذي قادت البلد إليه سلطة معلومة؟ :: يمكن أن يُقبل هذا الكلام من سياسيين تعشش مقدسات ودوغما في رؤوسهم، لكن أنت مثقف.. ألا تعتقد أن هذا الحديث سيؤخذ عليك، وسيقال، مثلاً، بأنك ضد مطالب وقناعات الناس؟ - (مقاطعاً) ديماغوجي وحدوي أفضل بكثير من عقلاني انفصالي. (نضحك). لا اصطفاف شمالي – جنوبي في اتحاد الأدباء :: اتحاد الأدباء نعرف كلنا أنه أول كيان وحدوي.. - (مقاطعاً) نشأ واحداً. مش وحدوي، الوحدويون الذين جاؤوا بعده، أما الاتحاد فقد نشأ واحداً. :: بالضبط، لكن ألم تلاحظ أنه كان هناك، في المؤتمر الأخير للاتحاد، اصطفاف شمالي- جنوبي.. أثناء الانتخابات؟ - لا. داخل اتحاد الأدباء، كان هناك اصطفاف حزبي، لكن لم يكن هناك اصطفاف شمالي- جنوبي. وأرجو ألا يريني الله أي اصطفاف بهذا الشكل. :: يلاحظ الآن أن الاتحاد أصبح فاقداً استقلاليته؛ بمعنى أنه أصبح تابعاً للسلطة أو قطاعاً تعبوياً ثقافياً، أو توجيهاً معنوياً، يتبعها ويدعم مواقفها.. - الأمر مبالغ فيه. الاتحاد فقد شيئاً من استقلاله.. نعم، لكنه ما يزال غير تابع بشكل كامل للسلطة.. :: (مقاطعاً) طيب ما الذي يحصل الآن: مؤخراً كانت قيادة الاتحاد في عدن، والتقت القيادة السياسية، وظهرت كما لو أنها تدعم السلطة في قمع الناس؟ - لا أعتقد أن قيادة الاتحاد قامت بتأييد السلطة ودعمتها ضد الناس. مهرجان الأدب اليمني [الذي أقيم مؤخراً في عدن وعلى هامشه التقت قيادة الاتحاد بالرئيس] مخطط له من قبل الأزمة الحالية. علينا ألا نُحمل القضايا فوق ما تتحمل، لكي نرى الأشياء كما هي عليه، وليس كما نهوى. الأزلام الذين يصنعون المستبد :: ماذا لو تطورت الأزمة الحالية إلى الانفصال.. - (مقاطعاً) أنا سأكون ضد.. تحت كل الظروف. :: طيب كيف تريدون إجبار الناس على الوحدة والنظام في الشمال لم يتغير، أو كما يقول الأخوة في الجنوب، بأنه ما زال نظام (ج.ع.ي). - (مقاطعاً) النظام القائم الآن مش حق الشمال ولا حق الجنوب. النظام الآن، نظام منحط يمني بشكل كامل، لأنك لو تشوف الأزلام الذين يصنعون المستبد، ستجد أنهم من صنعاء بقدر ما هم من عدن وحضرموت.. هؤلاء الأزلام الذين يدعمون الانحطاط القائم الآن هم من كل مناطق اليمن. :: لكن النظام القائم هو، بالأساس، نظام شمالي. - هذا غير صحيح، لأن هذا نظام تجمعت فيه رواسب صراع أطراف الثورة اليمنية، إن صح التعبير. من أحداث أغسطس في صنعاء، عام 1968، إلى أحداث يناير في عدن عام 1986؛ تجمعت النفايات هذه كلها وشكلت هذا النظام. :: أنت مع الوحدة ضد الانفصال. والجنوبيون تعبوا من الوحدة ويسير كثير منهم نحو الانفصال. طيب؛ كيف يمكن الخروج من هذا المأزق: كيف يمكن لكثير من الجنوبيين أن يكونوا وحدويين مثلك؟ - أنا حتى الآن لا أعتقد أن الإخوة في الجنوب انفصاليون.. هذه الظواهر سابقة لقيام الوحدة: كان هناك تنظيمات سياسية تتحدث باسم اتحاد الجنوب العربي، كان هناك الجمعية العدنية، وكان هناك صف طويل عريض من الأسماء التي لا تقر بأن اليمن واحدة حتى تاريخياً. لا أريد أن أعود إلى مثل هؤلاء، لكن لماذا لا نقلب السؤال أنا وأنت: من هي القوى الأكثر دقة ومثابرة وانتظاماً..؟ قوى الفساد والتخلف في بلادنا هي القوى الأكثر دقة ومثابرة وانتظاماً. القوى الأخرى التي تدعي أنها تقاوم الفساد لم تبلغ، حتى الحد الأدنى، من الانتظام والدقة والمثابرة، ولم تضع لليمنيين نهجاً واضحاً، قائماً على المعرفة العينية، ويخلو، من "الدحك" السياسي، إن صح التعبير. هذا هو الخلل القائم في واقعنا، والأحداث الحالية التي تشهدها البلاد، ليست، في تقديري، إلاّ نتائج لهذا الخلل. :: ما الحل؟ - أن يخرج القائمون على الأمر في الحركة السياسية، من حيز ردود الأفعال والارتجال إلى حيز العمل الأكثر انتظاماً ودقة ومثابرة، وإلا فإن الواقع اليمني سيفرز جهة أخرى تلم هذه القوى المهدرة داخل المحيط اليمني وتضعها حيث ينبغي. أمامي التاريخ المنظور، وأنا أعرف أن الناس كانوا يقولون إن بعد عودة الإمام أحمد من روما عام 1959، وضربه لكل تلك القوى بما فيها المحيط القبلي، الذي كان درعه، نهاية المطاف بالنسبة للحركة السياسية. وكان رأي آخر يقول بالعكس: ضَرَب الإمام آخر قلاعه، والآن ستُبنى قوى حقيقية. واتضح أنه لم تمر إلا 3 سنوات وقامت الثورة. أعتقد أنه إذا لم يفطن الزملاء، سواء في "المشترك" أو في غيره من الأحزاب السياسية الحقيقية، أنهم مطالبون بأن يحرزوا الحد الأدنى من الدقة والانتظام والمثابرة، فإن الواقع اليمني سيتمخض عن بديل لهم وللسلطة في وقت واحد. جاءت الوحدة محملة بالتشققات التي حصلت داخل الصف الوطني :: متى بدأت أزمة يمن ما بعد 1990؛ هل كانت حرب 1994 هي المشكلة التي راكمت الأزمة الحالية، أم أن المشكلة كانت، من الأساس، في "الوحدة" ذاتها؟ - إذا سألتنا سؤالاً آخر: الوحدة ليش جاءت محملة بالمشاكل؟ على فرض أن هذا السؤال صحيح. الوحدة جاءت محملة بالتشققات التي حصلت، أحياناً، نتيجة لغياب الوعي الحقيقي، في صفوف قوى الثورة اليمنية.. وخلفت هذه التركة الهائلة من الانشقاقات، من مؤتمر عمران 1963، حتى يومنا هذا والتشققات تتم داخل الصف الثوري الوطني. ليس الحال مختلفاً عما رافق حركة النضال ضد الاستعمار في الجنوب؛ من الصدامات بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، مروراً بالصدامات والتشققات داخل الجبهة القومية، ثم الصدامات داخل الحزب الاشتراكي.. هذه الصدامات والانقلابات، التي حدثت داخل صنعاءوعدن؛ مسؤولة عن هذه التركة الثقيلة التي يواجهها الشعب اليمني، لأن الحركة السياسية والسلطة تعيش على الهامش أو مستفيدة من هذه الأزمة، ووحدنا الذين نعاني من تبعات هذه الأزمة ووطأتها الشديدة. جذور تحول حركة القوميين العرب إلى الماركسية :: معروف أنك كنت في حركة القوميين العرب.. هل بالإمكان أن تخبرنا كيف تأثرت بهذا الفكر وكيف انتظمت في حركة القوميين العرب؟ - أولاً الفكرة القومية لم تكن غائبة عن المحيط الذي نشأت فيه، أو عن الرجل الذي تولى تعليمي وتربيتي، مطيع دماج، الذي كان على وعي كبير بضرورة أن تكون الأمة العربية أمة واحدة، وأن يزول الشتات الذي خلفه الاحتلال العثماني والاستعمار الغربي.. هذا هيأني لأن أُستقطب في حركة القوميين العرب، على أنها الوحيدة التي وقفت ضد الانفصال، الذي حدث في الجمهورية العربية المتحدة.. :: رافقت هاني الهندي حين جاء إلى صنعاء في الستينيات. - هاني الهندي أتى إلى صنعاء، ودخل بجواز مزور كمان، لمناصرة الثورة اليمنية، وكان المرافق الرئيسي له، في 1963، عبدالحافظ قائد وأنا. :: متى تم تسمية الحركة في الشمال بالحزب الديمقراطي الثوري؟ - بعد مؤتمر الأعبوس، في 1967. :: فكر الحركة قومي، وكان، في بداية تشكله، مناوئاً، إن لم نقل معادياً، للماركسية. الحركة، سواء في المركز في لبنان أو هنا أو الجبهة القومية، كيف تحولت فجأة، بقياداتها وقواعدها، إلى الفكر الماركسي؟ - الحقيقة أن تحولها لم يكن فجأة، وخليني أتحدث عن فرع الحركة في اليمن. القضايا بدأت إرهاصاتها مع قيام الثورة في 1962. كان النقاش يدور داخل خلايا الحركة، بما فيها القيادية والشعب وقيادة الإقليم كما كنا نسميها، حول القضية السياسية والقضية الاجتماعية. وكان النقاش يقود إلى ضرورة أن تحتل قضية العدل الاجتماعي مكاناً بارزاً في خطط العمل القومي، وليس العمل في اليمن، وأن هذا الغياب هو الذي لم يمكن الحركة القومية من أن تحقق بالفعل، أو تنجز، مهامها في القيام بعملية تغيير تمس كل الأقطار. هذا النقاش بدأ من وقت مبكر في اليمن، ولم يكن طفرة، ولم يأت مؤتمر الأعبوس قبله. كثير من مثقفي المركز، ذوي المراكز القيادية في الحركة، وبالأخص، محسن إبراهيم وجورج حبش ومن على شاكلتهما.. بدأت المسألة أيضاً تأخذ حيزاً في تفكيرهم. في مؤتمر الحركة، عام 1965 في بيروت؛ بدأت القضية تأخذ طابعاً واضحاً كتيار داخل الحركة: أنه لا بد من أن نأخذ المسألة الاجتماعية بعين الاعتبار، كما هو الحال بالنسبة لقضية الوحدة العربية، وإلا فإننا سنُغفل المجتمع بهمومه ومشاكله. في اليمن بدأت القضية مبكرة جداً. كان البحث عن اشتراكية تمتلك منهجاً، ولهذا الحركة لم تكن تقول بأن هناك اشتراكية عربية. كانت تقول بأن هناك اشتراكية علمية قائمة على منهج، ونظرية كاملة، وهذه هي الاشتراكية التي ينبغي أن يُؤخذ بها، وما عداها يكون ضرباً من السفسطة التي لا معنى لها. :: هل نكسة 1967 عززت هذه القناعات؟ - في اليمن عززت [ما كنا نعتقده]: بأن الخلل في قوام التنظيم، وفي قوام الدولة القطرية، وأن الدولة القطرية هي أساس النكبة. العدو قوي، ولديه اصطفاف آخر قوي، لكن ما كان بمقدوره تحقيق هزيمة لنا بذلك الحجم، لو أن هناك الحد الأدنى من الانتظام داخل الدولة القُطرية في البلاد العربية. رسخت قناعة، وكانت قائمة على فهم حقيقة الأمر ومعرفة، بأن كثيراً من الأنظمة التقليدية الرجعية، دعنا نسميها كما كنا نسميها يومها، كانت فيلق من فيالقاً الغزو، الذي استهدف الجمهورية العربية المتحدة، كما كنا نسميها، وسوريا، الشق المنفصل منها. ترسخ يقين بأن السعودية كانت من أكثر الجهات دعماً وتمويلاً لحرب 67، وأن هذا الخلل يجب أن يُزال. نكسة 67 عززت الهوية الاجتماعية داخل الحركة، لكنها لم تستحضرها؛ لأنها كانت حاضرة قبلها. أحداث أغسطس :: طبعاً كان واضحاً في أحداث أغسطس أن هناك صراعاً بين الحركيين وبين قوى جمهورية تقليدية؛.. الشيخ عبدالله يقول، في مذكراته، إن الجمهوريين انتصروا على اليسار.. ما تعليقك؟ - أولاً أنا، للأسف الشديد، لم أقرأ الكتاب حتى الآن، لكن إذا كان قد قال هذا، فهو قال وجهة نظره كشخص كان طرفاً في الصراع. بالعكس، أقول، انهزم الجمهوريون أمام دعوة المصالحة، لأنه بعد أحداث أغسطس جاء الملكيون ودخلوا القصر الجمهوري، وأصبحوا أعضاء في المجلس الجمهوري، ولهم تمثيل في الحكومة وفي الدولة. الصراع في أحداث أغسطس كان ذا هوية اجتماعية وتقدمية واضحة. بين القوى الجديدة التي خلقتها ثورة 26 سبتمبر، وبين القوى التقليدية، التي كانت ضمن قيادة الثورة، حتى لا ندخل في حيز تعصب كما قلت إن الشيخ عبدالله قال إنهم كانوا جمهوريين، طيب واليساريون أيش كانوا؟! دعني أقرأ الكتاب وربما يكون هناك لقاء كي أعلق عليه. لا يعجبني البت في قضايا قبل أن أطلع عليها. :: ما الذي حدث بالضبط في أحداث أغسطس.. هل صفقة السلاح تلك كانت هي السبب..؟ ماذا حدث؟ - الذي حدث أن القوى التقليدية في الصف الجمهوري كانت متحسسة من النمو الهائل الذي أحدثه حصار السبعين في قوى التقدم داخل المجتمع اليمني، وبالأخص داخل المؤسسة العسكرية. في مارس 1968 ضُرب مقر المقاومة الشعبية في الحديدة بالدبابات، ونزل الفريق العمري بنفسه للإشراف على ذلك الضرب. :: يقال إن عبدالرقيب عبدالوهاب كان صديقك، والوحش أيضاً،.. ما الذي حدث بالضبط في عملية تصفية عبدالرقيب..؟ - عبدالرقيب عاد [من الجزائر] ووصل إلى كتيبة الصاعقة، التي كانت متمركزة في عيبان، وذهب إليه كثير من المشائخ، وبعض الضباط الكبار، وأقنعوه بالنزول إلى بيت الفريق العمري. وصل بيت الفريق العمري، وأحس بأنه مستهدف للتصفية. كان يعتقد أن علي سيف الخولاني ربما خارج نطاق المخطط من أجل تصفيته، فهرب إلى بيت علي سيف الخولاني، وأمام بيت علي سيف الخولاني قُتل. :: ما الذي حدث للحركيين بعد أحداث أغسطس؟ - أغلب قياداتهم دخلت السجن، ولكن قوامهم التنظيمي كان منتشراً في البلاد، وداخل المؤسسة العسكرية والأمنية. صاحب تعز الذي دافع عن صنعاء ثم سُحل فيها :: ما أسباب الموقف ضد عبدالرقيب كي يتم تصفيته بتلك الطريقة؟ - كان قائداً فذاً. أيام الحصار هرب الذين قتلوا عبدالرقيب، وبقي عبدالرقيب وصحبه، وتولوا مسألة الدفاع عن صنعاء وأفلحوا فيها. هل تعتقد أن هذا ليس كافياً لأن يقولوا: هذا النقيب؛ يوم يهرب الناس، الذين هم مكلفون، على الأقل بحكم التقليد العسكري، بأن يكونوا قادة، ويتولى وحده، برتبته العسكرية الصغيرة، الدفاع عن صنعاء. هو رفض الترقية، قَبِل قيادة الأركان، ولكنه لم يقبل الرتبة، وظل يقود المؤسسة العسكرية. هذا ولَّد ضغائن كبيرة، أضف إلى أن الحس الاجتماعي عند الطرف الآخر كان حاداً: ما الذي يريده هذا؟ من أين جاء؟ وكيف نشأ؟ وكيف احتل مثل هذه المكانة، وطنياً وعربياً وعالمياً؟ هذا حشد كل القوى التقليدية في المعسكر الجمهوري ضد عبدالرقيب عبدالوهاب. :: للقضية جذر مناطقي؟ - هذه كانت ترويجات دعائية ضده؛ لأن هذا صاحب تعز مات وهو يدافع عن صنعاء. مش كان بمقدوره أن يسحب الصاعقة والمظلات وينزل معاهم إلى سمارة؟ لماذا أصرَّ على أن يبقى في صنعاء؟ القضية المناطقية استُخدمت لتحشيد العوام، كان يستخدمها فريق واسع من السياسيين التقليديين في المعسكر الجمهوري، لكي يثيروا الوسط القبلي، وكانت استثارتهم يومها محدودة، ولكن كانت الإمكانيات محدودة عند الطرف الآخر، والجو المحيط غير مواتٍ لأن يحقق [أي انتصار ضد المعسكر التقليدي]. هل تعتقد أنه كان صعباً على عبدالرقيب أن يستولي على السلطة؟ كان من السهل عليه أن يخرج مع عساكره، و"يجزع" المجلس الجمهوري، والوزارة، ويشكل وزارة. لكنه كان ينظر إلى مسافة أبعد: هل بمقدوري، بعد ذلك، [تحمل] تبعات هذا الاحتشاد التقليدي؟ وهل يمكن لحركة من هذا القبيل، أن تدفع التقليديين من المعسكر الجمهوري إلى الانضمام إلى المعسكر الآخر؟ هذا الشعور بالمسؤولية أبعده، وكان يستطيع الاستيلاء على السلطة، ببساطة، ودون أن تُراق قطرة دم. حصار صنعاء والشيخ عبدالله وحاشد :: المقاومة الشعبية؛ كانت معكم؟ - المقاومة الشعبية نحن شكلناها، ما فيش كلام. القوى التقدمية انتظمت وشكلت المقاومة الشعبية، والمؤسسة العسكرية، باعتبار أنها كانت وليدة النضال دفاعاً عن النظام الجمهوري وعن الثورة، تشكلت كلها تشكيلاً تقدمياً، فكان لدى الطرف الآخر، ببعد نظر، وربما بنضج أيضاً، موقف تجاه ذلك باعتباره خطراً يتكون على وجوده كقوى تقليدية، فبدأ الصراع حتى في أثناء حصار صنعاء. حاول هذا الطرف أن يقوم، عن طريق سلاح المدرعات، بانقلاب، فاكتشف أنه إزاء كمائن عسكرية مواجهة له، ستجعله، هو وسلاح المدرعات، هباء بعد دقائق.. بعد ساعات، دعني أتفاءل. فتراجع هذا الطرف.. حتى والحصار مطبق كان لدى أفراد هذا الطرف شعور طبقي واضح: أن هذه القوى الجديدة، التي تنشأ، تحتل هذه المكانة، وهي لم تحتل مكانتها بحكم حجمها، بل بحكم أنها هي التي بادرت، وقالت، حتى والجيش المصري ينسحب، ستكون كفيلة بالدفاع عن النظام الجمهوري وعن الثورة. حينها رفعت الحركة شعاراً، ينبغي أن نعود إليه ببعد نظر ودقة: "الجمهورية أو الموت". كان بعض أصدقائنا في المحيط العربي والعالمي يعتقدون أن الدفاع عن النظام الجمهوري بغيابهم أمر مستحيل، وجاءت تلك القوة، رغم محدودية قوتها وإمكانياتها، وحققت ذلك: صد الحصار عن صنعاء. تفاجأ [الجميع] بأن هذه القوى الشعبية محدودة الجهود في الواقع، لكنها كثيفة الفعالية. يومها كنا قليلاً، لكننا كنا أكثر دقة وانتظاماً ومثابرة. :: لكن الشيخ عبدالله يتحدث، في مذكراته أيضاً، عن قبيلته حاشد، باعتبارها القوة الأساسية التي تولت الدفاع عن الثورة وحمايتها. - دعني أفرق بين أمرين: كون حاشد كانت أحد القيادات الفعالة في الدفاع عن الثورة، فهذا أمر لا خلاف عليه. كون أن عبدالله كان يقودها.. عبدالله كان في السجن. :: قادها بعد خروجه من السجن. - أنا عارف، لكن أول شخص من حاشد دخل يقود 800 مسلح دعماً للثورة بعد قيامها مباشرة، كان شاعراً، تصور، اسمه يحيى البشاري، وكان من بين عساكره مجاهد أبو شوارب والمشائخ الكبار [في حاشد]. :: كان البشاري حركياً؟ - مش حركي.. هذا وطني.. شاعر قضى حياته وهو ماسك على جمرته.. مات قبل عامين. :: الشيخ عبدالله خرج من السجن، ثم استدعاه السلال.. - (مقاطعاً) خرج هو وأتى إلى هنا [صنعاء] وكُلِّف أن يخرج إلى ريدة، ويستدعي بقية القبائل، لأن عمه غالب بن ناصر الأحمر كان قد جاء بحشد كبير من حاشد إلى حرف سفيان، قبل خروج عبدالله. فرق بين المصالح التي يمثلها عبدالله، وبين نضال الإنسان في حاشد واصطفافه مع الثورة وهذا لا خلاف عليه. :: لكن بمجرد خروج الشيخ عبدالله كان هو الذي يقود حاشد بشكل فعلي. - لم يكن يقودها.. لا. كان في علي شويط وقاسم القطيش وآخرون. :: هؤلاء كانوا تحت قيادته. - هؤلاء كانوا يقودونه أولاً، وبالأخص عبده كامل، وهو شخص استشهد في 1965، هو والشيخ عبدالله من قبيلة واحدة، لكنه ذو أفق تقدمي مستنير.. اسمه عبده كامل، وينبغي أن تبحثوا عن هذه الأسماء لأنها هي التي قادت حاشد. :: وأنتم تتحدثون عن التيار الجمهوري في حاشد يقال لدى بعض اليساريين إن شويط وعبده كامل كانا في الحزب الديمقراطي الثوري. - كانا مستنيرين. وشويط بالفعل كان في الحزب الديمقراطي الثوري. :: من أسس المقاومة الشعبية..؟ أبرز المؤسسين. - الأسماء لا تحضرني كاملة، إنما كان من أبرز مؤسسيها؛ مالك الإرياني، عمر الجاوي، فتح الأسودي، سيف أحمد حيدر، ومن على شاكلتهم من هذا القبيل وهم صف طويل. هؤلاء استشعروا أن انسحاب القوات المصرية سيترك فراغاً، وأنه إذا اعتمدنا على المؤسسة العسكرية الوليدة وحدها فإنها لا تكفي، وعلينا أن نشعر الطرف الآخر بأنه لن يواجه الحرب في صنعاء فقط، وإنما في كل شبر في اليمن، ولهذا فالمقاومة الشعبية انتشرت إلى كل الأرض اليمنية، وكانت حيث لا توجد معارك عسكرية، تقود المعركة الاقتصادية، معركة التمويل، معركة الدعاية الإعلامية.. كانت مهمتها على الجبهات الأربع: العسكرية، والثقافية، والاقتصادية والاجتماعية. :: الأسماء الذين ذكرتهم ينتمون كلهم إلى اليسار؛ هل أنت متحيز أم أن الحقيقة هي أن اليسار هو الذي شكل المقاومة الشعبية؟ - الحقيقة أن اليسار هو الذي شكل، وحده، المقاومة الشعبية. :: ما هي القبائل التي كانت تعتمد عليها المقاومة الشعبية أو اليسار. - ذو محمد وأصحاب العواضي كانوا على علاقة وطيدة باليسار. :: من صاحب شعار الجمهورية أو الموت؟ - اجتماع الهيئة القيادية في أول تشكيل لها طرحت هذا الشعار، ولم يكن شعاراً لشخص. :: يشبه شعاراً لثورة أخرى. - نعم، الثورة الجزائرية، ولم نكن بعيدين عنها. لا تنس أن المسؤول الوطني الوحيد الذي زار صنعاء أثناء الحصار هو الشريف بالقاسم من الجزائر؛ صحح لنا المفهوم وقال، في خطاب في صنعاء وهي تُقصف، ما دمتم رفعتم شعار الجمهورية أو الاستشهاد فإنكم ستنتصرون. العمري كان نزقاً وعنفه فيه نوع من التظاهر :: أيش كان جذر الخلاف مع العمري؟ - العمري شخصية إشكالية، والحديث عنه وحده يحتاج إلى مقابلة أخرى لأن الاعتقاد بأن ليس لديه نوايا وطنية خطأ، لكن هل عقله ومداركه ومجموع ما لديه من مؤهلات فكرية، يتسع لأن يستوعب الدلالة العميقة للنظام الجمهوري المغاير للنظام الكهنوتي الإمامي؟ عقليته لم تكن تتسع لهذه الأشياء، وكان رجلاً نزقاً. ::... وعنيفاً. - عنفه كان فيه نوع من التظاهر، وفي تقديري الشخصي ضيق أفقه ومحدودية تفكيره ونوازعه هي التي دفعت به للخلاف معنا. :: أثناء القتال بين الجمهوريين والملكيين يقال تدخلت السعودية بغير الذهب؛ بجنود اشتبكوا مع الجمهوريين. - نعم، في حرض سنة 1964؛ تدخلوا بالجيش الأبيض فحصلت لهم مذبحة. :: لكن السعودية أسرت أفراداً من الجمهوريين. - لا، الذين أسروا من الصف الجمهوري أسرهم إخواننا الملكيون؛ زي الشيخ قائد منصر حكم ناجي محمد أبو راس وفيصل مناع.. جلسوا في السجون في نجران إلى أن تم الصلح.