د . سعيد الشهابي: في ظل الضغوط المتزايدة علي حكومة المملكة العربية السعودية، من الداخل والخارج، ما هي الخيارات المتاحة امامها لتجاوز هذه الضغوط التي ربما تكون الاخطر في تاريخ المملكة، والتي تهدد الكيان الاساسي للحكم والعائلة السعودية المالكة؟ لا شك ان المسؤولين الكبار في الحكم يتدبرون في الطرق المتاحة للخروج من الوضع الحالي الذي لا يستطيعون تجاهله، ولكنهم لا يرون طرقا سهلة للعبور منها. ويمكن تلخيص الوضع بالقول ان النظام الحاكم في الرياض واقع بين فكي كماشة، يمثل احدهما رغبة الحكومة الامريكية في الهيمنة علي ادارة ملف مكافحة المجموعات الارهابية التي انطلقت في الاراضي السعودية بشكل كامل، ويمثل الآخر خشية الحكم من ردة فعل عنيفة جدا من المجموعات المتطرفة تستهدف رموز الحكم وتحول المملكة الي ساحة مفتوحة للاعمال الارهابية كما يحدث في العراق. وثمة مصادر عديدة اخري للقلق ترتبط بهذين العاملين، لا تستطيع حكومة الرياض تجاهلها وهي تتدبر في صنع القرار الذي تعتقده صائبا. خيارات الحكم امام هذه المشكلة محدودة. فهي تخشي ان تستعجل في تبني خيار واحد وتضع ثقلها وراءه فتدخل في طريق مسدود يفاقم الازمة وقد يقضي علي المملكة السعودية بشكل كامل.وبالتالي فالقضية اليوم بالنسبة للحكم اصبحت مسألة وجود، ولربما هذه هي المرة الاولي التي يصبح الوضع فيها مستقطبا بهذا الوضوح. وقد ساهم في وصول الامر الي هذا المستوي عوامل من بينها طبيعة الحكم السعودي الذي يحاول الامساك بالعصا من النصف، ويتفادي ازعاج اي طرف معني بما يجري، ورفض الحكم كل المطالبات التي طرحت علي مدي العقود الاربعة الماضية لتطوير النظام السياسي، والتركيبة الهشة للمجتمع السعودي من حيث المكونات الاقليمية والمذهبية، وبلوغ رموز الحكم الحالي مراحل تتجاوز الشيخوخة المتعارف عليها، وما يسببه هذا الجمود من عجز عن اتخاذ القرارات الاستراتيجية عند الحاجة اليها. مع ذلك يسجل للحكم السعودي قدرته حتي الآن علي الابحار في بحر لجي بدون بحار ماهر، ومنع تبلور ما تسعي له الاطراف المتنازعة علي التأثير علي سياسة الحكم، سواء المنطلقة من الداخل ام الخارج. ولكن ربما اصبح الوضع السعودي اليوم يتحرك في الوقت الضائع الذي قد لا يدوم طويلا، وهو أمر لا بد ان رموز الحكم، خصوصا من الجيل الأقل شيخوخة، يدركونه جيدا. منذ قيام الحكم السعودي الحالي قبل اكثر من سبعين عاما، واجه النظام تحديات كثيرة، ولم يكن القضاء علي نفوذ آل الرشيد آخرها. ففي الاربعينات والخمسينات كان المد القومي يمثل هاجسا للحكم، وقد وصل ذروته خلال حرب اليمن في مطلع الستينات التي اعتبرت صراعا واضحا علي النفوذ بين مصر والسعودية. وكما عبر عنه احد الكتاب، فقد كان ذلك تجسيدا لصراع ايديولوجي آنذاك بين عروبة ثورية يجسدها جمال عبد الناصر، واسلام محافظ يمثله الحكم السعودي . يومها كانت العروبة الثورية جزءا من حركة التحرر الوطني في العالم التي تواجه الاستعمار، بينما كان الاسلام المحافظ احدي الوسائل التي تبناها الحكم السعودي، المدعوم امريكيا، لمواجهة المد القومي الذي كان في أوجه آنذاك. وقد انتهت الحرب ببقاء الوضع علي ما كان عليه، بدون ان يكون لأي من الطرفين غلبة حاسمة. تزامن مع ذلك تشكل بعض التنظيمات وفق الخطوط الفكرية السائدة في تلك الفترة، الشيوعية والبعثية والقومية، وكلها يتحدي الحكم السعودي ويعتبره امتدادا للحقبة الاستعمارية، او تجسيدا للارادة الغربية عموما. وقيل الكثير عن اساليب تعامل الحكم مع المناوئين، ورويت اساطير من بينها رميهم من الطائرات في الربع الخالي. لكن التحدي الاكبر جاء في السنوات الاخيرة من الطرف الديني الذي اعتقد الحكم السعودي انه استطاع تحييده بالتحالف مع المدرسة الوهابية وكسب قطاع علماء الدين الذين توافقوا مع الحكم لمواجهة التوجهات العلمانية التي كانت تستهدفه. وتمثل حادثة جهيمان العتيبي في 1979 باكورة المواجهات الدموية بين الحكم والمجموعات الدينية المناوئة، وبداية الشرخ داخل التحالف السياسي الديني بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية. مع ذلك استطاع الحكم تجاوز تلك الازمة بعد تدخل القوات ا لفرنسية لقمع حركة جهيمان داخل البيت الحرام، وقتل اغلب المتمردين. كان علي الحكم ان يعي مدلولات تلك الانتفاضة ويبدأ في اصلاح حقيقي لمنع الاحتقان الذي سيحدث لاحقا.. ففيما استمرت حالة الهدوء النسبي في الثمانينات لظروف ترتبط بالحرب العراقيةالايرانية وتربع الملك فهد وهو في اوج قوته علي كرسي الحكم بقبضة حديدية، كانت الامور تعتمل تحت الستار بشكل لم يتوقعه السعوديون والامريكيون، بل انهم شجعوه بالمال والموقف السياسي والخبرات العسكرية. فقد جسدت الازمة الافغانية آخر حلقات المنازلة في الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي. واذا كانت تلك المنازلة قد حسمت لصالح واشنطن بلا منازع، وذلك بانهاء الاحتلال السوفييتي والقضاء علي النظام الشيوعي في كابل، فانها في الوقت نفسه اسست لأكبر تهديد مستقبلي لأمن كل من الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية. الازمة القائمة حاليا تحاصر الطرفين معا. والحرب ضد الارهاب التي اعلنتها واشنطن لم تحقق حتي الآن انجازا كبيرا، بل ربما ساهمت في تقوية الجبهة المعارضة للسياسات الامريكية عالميا. وتنظيم القاعدة الذي بدأ مستهدفا للنفوذ الامريكي، اصبح يتحرك باتجاه الحكم السعودي تدريجيا. ولربما ساهمت المفاوضات غير المعلنة بين الرياض والتنظيم في ابعاد شبح التهديد الامني عن السعودية بشكل مؤقت، ولكن يصعب كثيرا منع ذلك التهديد. فحتي لو التزمت القاعدة (وهذا لم يحدث) بعدم استهداف الحكم السعودي، فان المجموعات الاخري التي تفرعت عن ذلك التنظيم، واعتمدت ثقافته ووسائله واهمها العمليات الانتحارية، سوف تستهدف بشكل مباشر المصالح السعودية، خصوصا اذا اصبح استهداف المصالح الامريكية امرا صعبا بسبب الاجراءات الامنية الصارمة التي تنتهجها واشنطن. ففي العراق مثلا، بدأت القاعدة ومجموعة الزرقاوي نشاطهما ضد القوات الامريكية، ولكنهما اصبحتا الآن تستهدفان المدنيين بعبثية وعشوائية غير معقولتين. وقد بدأت تلك المجموعات استهدافها المنشأت العسكرية الامريكية في الجزيرة العربية، ولكنها اصبحت الآن تستهدف المجمعات السكنية والمنشآت النفطية، الامر الذي تصعب السيطرة عليه او منعه. والسؤال هنا: هل بامكان الحكم السعودي تجاوز الازمة التي تبدو هي الاخطر منذ قيامه؟ ليس هناك ازمة تستحيل علي الاجتياز، ولكن ذلك مرهون بمدي قدرة المعنيين بها علي تبني اساليب عملية فاعلة لاحتوائها. المشكلة ان آلة القرار السعودي معطلة بشكل يكاد يكون شبه كامل لعدد من الاسباب: اولها شيخوخة الرموز الاساسية في الحكم بحيث اصبح من الصعب جدا اتخاذ القرارات عند الضرورة، فمنذ حوادث 11 ايلول (سبتمبر)، لم تكن السياسات والمواقف السعودية سوي ردود فعل ازاء التطورات، فيما ظلت ارادة اتخاذ القرار غير موجودة. وثانيا ان الحكم السعودي يشعر بالتزام تاريخي تجاه القوي الدينية التي ارتبطت تاريخيا بالحكم وارتبط بها، وبالتالي فهو يخشي ان تؤدي خسارة اولئك الحلفاء الي اضعاف موقف العائلة السعودية في مقابل التيارات الاجتماعية والسياسية النامية، وتطلعات الاقاليم التي تشكل الكيان السعودي لدور اكبر في ادارة البلاد. وثالثا ان النظام لم يحسم امره تجاه مسائل الحكم واشكاليات التحديث، فهو يرفض المفهوم العصري للديمقراطية بحجة انها لا تتناسب مع روح الاسلام، فيما اصبح النظام يتعرض للهجوم من قبل المجموعات التي تعتقد ان النظام تخلي عن الاسلام كعقيدة للنظام السياسي، وهو يتحدث عن احترام حقوق المرأة بينما لم يستطع تجاوز ابسط العقبات في هذا الطريق، ولم يسمح للمرأة حتي الآن بقيادة السيارة. وهو يتشبث بمقولة الشوري في مسيرته السياسية، بينما اصبح مستهدفا من المجموعات التي انطلقت من تحت عباءة النظام عندما دعم المجاهدين في افغانستان. يومها كان النظام يعتقد انه يساهم في المشروع الامريكي الذي يستهدف الشيوعية من خلال الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، ولكنه لم يكن يعتقد ان المجموعات الاسلامية الجديدة ذات المنحي القوي نحو التشدد، سوف تنقل الثورة من افغانستان الي الاراضي السعودية.فماذا عمل النظام حتي الآن؟ ليس هناك الكثير مما يمكن تقديمه للاجابة علي هذا التساؤل. فقد التزم الحكم السعودي بسياسة الانتظار والتحرك البطيء البعيد عن الاضواء، علي امل ان لا يزعج احدا. وقد دأب الحكم السعودي علي عدم اغضاب الآخرين، والسعي لارضائهم عن طريق الدعم المالي. واليوم يواجه الحكم السعودي ازمة شديدة وهو يواجه الغضب الاسلامي العام ازاء السياسات الامريكية بسبب سياساتها التي تعتبرها الشعوب العربية والاسلامية عدوانية ومنحازة بشكل كامل للاحتلال الاسرائيلي. النظام السعودي ما يزال ينظر الي الاسلام كمخرج له من الازمات، او لنقل انه يري في الاسلام عاملا ايجابيا في صياغة امنه الداخلي، وجانبا من امنه الخارجي. ولكن هذا الخيار ليس مضمون النتائج ما لم يكن مشفوعا بسياسات داخلية وخارجية مقنعة للآخرين، وقادرة علي اقناع الرأي العام الاسلامي بجدية النظام علي انتهاج سياسات مستقلة خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الكبري التي تهم المسلمين. ولربما كان لبعض المنظمات والجهات التي دعمها الحكم السعودي في السبعينات والثمانينات دورها في توفير قدر من الدعم السياسي للنظام، ولكن الوضع الآن اصبح اكثر استقطابا، بحيث لم يعد بالامكان الاستمرار في نمط التعامل كما كان في السابق. حدث التحول بعد ازمة الكويت، وادي الي اعادة رسم التحالفات بين الحكم السعودي والكيانات الاسلامية وفق خطوط جديدة املتها التطورات الاقليمية، وفرضتها المشاعر المعادية للسياسة الامريكية في الشرق الاوسط. وشيئا فشيئا وجد النظام السعودي نفسه محاصرا بين قوتين كان يحتمي بهما في السابق: امريكا والمجموعات الاسلامية المناهضة لها. ويمكن القول ان الثلاثي الذي استطاع التعايش علي مدي اربعة عقود، انتهي الي صراع دموي لم تشهد المنطقة له مثيلا. وشهد العقد الاخير مساومات كثيرة بين الحكم السعودي والتنظيمات المتطرفة التي كان قد شارك في بنائها ودعمها في السابق. هذه المجموعات وضعت الحكم السعودي امام خيار صعب: فاما فك الارتباط التاريخي مع امريكا او الدخول في حرب طاحنة مع المجموعات المتطرفة. ثلاثة محاور عمل النظام السعودي في الفترة الاخيرة من خلالها في محاولة لتغيير ميزان القوي الراهن. اولها انه بدأ مجددا في التحالف مع قوي اسلامية اقل راديكالية من المجموعات السلفية ذات القناعات الوهابية، ويلاحظ ذلك في دعمه لمشروعين مهمين: الوفد الاسلامي العالمي الذي تشكل مؤخرا، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وثانيها: انه عمد الي تبني بعض المظاهر الاصلاحية ومنها السماح بهامش لحرية التعبير، والسماح باول انتخابات بلدية في وقت لاحق من هذا العام منذ اكثر من اربعين عاما، والتصدي بشكل قوي للمنظمات المتطرفة وذلك بالتعاون مع بعض الدول الاقليمية ذات الوزن العسكري والامني مثل ايران وباكستان وتركيا. وقد تسلمت في الايام الاخيرة عددا من مواطنيها الذين ارتبطوا بالمجموعات المتطرفة من هذه الدول. وهذه الدول لها مشاكلها مع تنظيم القاعدة وبقية المجموعات المتطرفة. ويبدو، بالاضافة الي ذلك، ان الرياض قررت حسم موقفها تجاه حليفيها القديمين، امريكا والمجموعات الاسلامية المتطرفة، واصبحت اكثر استعدادا للتعاون مع امريكا. ففي الجوانب الامنية، سمحت لاجهزة الاستخبارات الامريكية بالعمل بشكل اكثر حضورا علي الساحة السعودية، وتعاونت مع واشنطن بشكل وثيق في مجال النفط وذلك بهدف خفض أسعاره. هل سيتغير الوضع جوهريا بهذه الخطوات؟ الأمر المؤكد أن السعودية ما تزال تبحث في خياراتها الاستراتيجية، ولكنها تتعرض لضغوط كبيرة من أمريكا لتقديم المزيد من التنازلات والتعاون، برغم السياسات المتشددة من جانب امريكا تجاه السعودية، وتهديد الكونغرس بقطع التعاون والدعم الاقتصادي الأمريكي للسعودية. الرياض ليست في موقع تحسد عليه، ولكنها أصبحت الآن أكثر تحركا وانفتاحا علي الواقع مما كانت عليه من قبل. والسؤال هو: هل تستطيع الرياض الصمود بوجه العواصف العاتية التي بدأت تهب من الداخل والخارج، متحدية الحكم السعودي للقبول بمنطق الإصلاح أو مواجهة مصير لا يرغب فيه. الواضح ان كلا من الرياضوواشنطن ما تزالان تبحثان عن مخرج لسياستيهما، ليس بطرق علمية ومنطقية، بل بممارسة أسلوب التجربة والخطأ وهو أسلوب غير مضمون النتائج، بل ربما ادي الي نتائج كارثية. ان من الصعب القول بان النظام السعودي دخل مرحلة العد التنازلي، والأصعب من ذلك، الاعتقاد بقدرته علي تجاوز الأزمة بسهولة في ضوء ما تقدم.