بلد يعاني اقتصاده من جملة عثرات لا تنتهي. وباتت هذه الجمعيات والمنظمات أكثر نشاطا من الأحزاب السياسية نفسها وتلقى قبولا في الأوساط الشعبية وتجاوبا عندما تدعي لإقامة أو تنظيم أي اعتصام، أكثر من الاستجابة لدعوات الأحزاب. ومنذ ثلاث سنوات عاد الدكتور عبد الباقي شمسان، حاملا شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من الجامعة التونسية التي درس ودرس فيها بعد تخرجه، على أمل الحصول على عمل في إحدى الجامعات اليمنية، ونقل ما تعلم إلى الأجيال المقبلة غير انه صدم بواقع آخر ولم يتمكن من ذلك، وأصبح عاطلا عن العمل، مما اضطره إلى تشكيل أول تجمع فعلي للعاطلين عن العمل في اليمن وهو «تجمع دكاترة عاطلون عن العمل» الذي أجهض في طور التكوين. يشرح شمسان ل«الشرق الأوسط» مشكلته والمشكلة بصورة عامة فيما يتعلق بحملة الشهادات العلمية العليا في اليمن ويقول «هاجرت من بلدي لأكثر من ست عشرة سنة للدراسة في تونس، وعدت بشهادة علمية كبيرة وجوائز في مجال تخصصي وقد درست في جامعات خارج البلاد وكنت في شوق للعودة إلى بلدي ورد جميلها علي بصرف مبالغ كبيرة من العملات الصعبة خلال سنوات الدراسة، ولكني وجدت واقعا غير الذي كنت اعتقد أو أتصور ولم احصل على وظيفة في الجامعة». ويضيف أن هناك «شروطا أخرى غير أكاديمية للالتحاق بالجامعة في اليمن، ولم استطع أن استوعب شروطا غير أكاديمية، إلا بعد فترة طويلة، ان هناك وساطات وحسابات سياسية وغيرها في التوظيف في الجامعة، بينما كنت قد تعلمت أن المقياس الأكاديمي هو المقياس المحدد والفاصل». ويردف: «عندما أسست تجمع «دكاترة عاطلون عن العمل»، لم يكن الهدف سياسيا، وإنما كان مطلبيا وذلك بالاستفادة من التجربة المغربية، وهدفنا إلى إيصال مطالبنا للخيرين والنخب الحاكمة في البلد لننبه إلى المشكلة التي نعاني منها، وهي أننا أكاديميون عاطلون عن العمل، في الوقت الذي فيه البلد بحاجة إلينا وإلى أمثالنا، وهذه القدرات في الوقت الذي يوجد فيه الكثير من الأكاديميين الأجانب العاملين في البلاد، بغض النظر عن المواقف الإنسانية التي اتخذت من اجل بعضهم». ويعتقد الأكاديمي اليمني العاطل عن العمل أن المشكلة تكمن في «عدم وجود رؤية استراتيجية تربط بين المخرجات التعليمية والاحتياجات التنموية والتكوين، كان يفترض الربط بين احتياجات البلد من المدرسين الجامعيين وبين احتياجاتنا المستقبلية، لكنْ الآن هناك خلل، مثلا في الآداب هناك تدريس جامعي كبير جدا يفوق احتياجات البلد، هناك خلل في التخصصات العلمية، وخلل في عدم وجود إحصائيات عن عدد الدارسين في الخارج واحتياجاتهم وكيفية استيعابهم». ويرى شمسان ضرورة وضع «حلول ودراسات لكيفية استيعاب الكفاءات اليمنية». كما يرى أن هناك تأثيرات سلبية كبيرة وخطيرة على اليمن جراء الوضع القائم وابرز هذه التأثيرات هي هجرة العقول اليمنية ويقول «هذه العقول تكونت على مدى سنوات على نفقة الدولة بملايين الدولارات وهم يحبون بلادهم، ولهم آمال يسعون لتحقيقها، والآن الهجرة بدأت ليست فقط من قبل العاطلين عن العمل أيضا من قبل الكفاءات التي تعمل داخل المؤسسات الجامعية، لأن الفضاء الجامعي لم يعد فضاء يحمل المقاييس الجامعية العلمية، أصبحت الجامعة في اليمن الآن لا تحمل قيم التغيير، بل نقلت ثقافة المجتمع إلى داخل الجامعة، وغاب الأستاذ الحقيقي وهاجرت العقول الممتازة، وهذه أزمة حقيقية يعاني منها اليمن». وشكلت الجمعيات التي أسست في المحافظات الجنوبية مؤخرا «مجلس التنسيق الأعلى لجمعيات الشباب والعاطلين عن العمل في محافظات الجنوب». وقال رئيس المجلس فادي باعوم، إن الهدف من إنشاء هذه الجمعيات هو «الرفض للمظالم والحرمان والتهميش وإغفال الشباب وبالأخص في المحافظات الجنوبية، وعدم توفير الوظائف لنا وإعطاؤها لأشخاص من غير مناطقنا». ويضيف مؤكدا أن «تأسيس مثل هذه الجمعيات جاء لتوحيد ورص الصفوف من اجل مطالبة الدولة بإيجاد وظائف لهؤلاء الشباب، وان يكون لهم دور في العمل وبناء الوطن، فمن حقهم التوظيف والتعليم والتطبيب المجاني». ويشير باعوم في تصريحات ل«الشرق الأوسط» إلى انه في محافظة حضرموت التي ينتمي إليها وهي محافظة نفطية «هناك قرابة عشرة آلاف خريج بدون عمل في الوقت الذي هناك أكثر من عشر شركات نفطية عاملة في المحافظة، وللأسف فإن نحو 90% من العاملين في هذه الشركات هم من غير أبناء المحافظة». وينفي فادي باعوم أن تكون هذه الجمعيات مسيسة، ويقول إنها قامت بشكل جماعي وطوعي » وهؤلاء الشباب يطالبون بحق من حقوقهم وهو التوظيف والعمل». وفيما يعتقد البعض أن بروز مثل هذه الجمعيات يعد انتكاسة لدور الأحزاب السياسية اليمنية لعدم تبنيها لمطالب هؤلاء، يؤكد باعوم فعلا أن الأحزاب السياسية «مقصرة جدا في حق الشباب»، لكنه في الوقت ذاته يرى ضرورة الابتعاد عن الأحزاب «كي لا تستغل بعضها الشباب بطريقة أو أخرى ولذلك أعلنا مباشرة استقلاليتنا عن الأحزاب، وهذا ليس هروبا منها، ولكننا نرى أن للأحزاب أجندات خاصة ولا نريد أن نحسب على أي منها». ويقول علي عبد الرب، رئيس جمعية الشباب العاطلين عن العمل في محافظة الضالع ل«الشرق الأوسط» إن الشباب يعانون من «ممارسات المتنفذين الذين يسطون على الوظائف الحكومية ويوزعونها لذوي القربى»، وان هذه المشكلات بدأت منذ ما بعد حرب صيف ،1994 وان حلها مرتبط بحل لما سماه «المشكلة الجنوبية»، وان هناك في محافظته نحو 3500 خريج جامعي، وأكثر من 7000 آلاف خريج ثانوية عامة بدون فرص عمل». ويشير إلى أنهم في هذه الجمعيات يلاقون حتى الآن «مماطلة من قبل السلطات الحكومية المحلية في الاستجابة لمطالبهم في توفير فرص العمل للشباب، وهو ما أدى إلى الدعوة إلى الاعتصامات» والى أن «جمعياتنا مستقلة ولا تتبع أي جهة سياسية أو غير سياسية، وهي جمعيات حقوقية لا أكثر ولا اقل». ويتحدث عبد الحافظ معجب رئيس اللجنة التحضيرية لجمعية الشباب العاطلين عن العمل في محافظة عمران المتاخمة شمالا للعاصمة صنعاء، عن أوضاع الشباب في المحافظة والدواعي التي حفزتهم إلى تأسيس هذا الشكل النقابي. ففي هذه المحافظة ذات الطابع القبلي هناك قرابة 50 ألف شاب وشابة من خريجي الجامعات والمعاهد والثانوية العامة، عاطلون عن العمل إضافة إلى أعداد كبيرة أخرى من غير المؤهلين علميا لا يجدون عملا أو يعملون في أعمال بسيطة «لا تؤكل عيشا» بحسب وصفه. وقال معجب ل«الشرق الأوسط» إن من ابرز القضايا التي أنشأت الجمعية للعمل على معالجتها هي «المتاجرة بالدرجات الوظيفية في مكاتب وزارة الخدمة المدنية، وهو ما يؤدي إلى حرمان الشباب من الوظائف» وانهم سيعلنون خلال الأيام المقبلة كما هو الحال في محافظات أخرى عن سلسلة من الفعاليات الاحتجاجية والاعتصامات. وان أهداف الجمعية الرئيسية هي «مطالبة الجهات الرسمية بحقوق الشباب وحل مشاكلهم بطريقة منظمة من خلال مخاطبة الجهات المعنية والعمل الاحتجاجي السلمي لتوضيح المشكلة والمطالبة بالحقوق، وهي طريقة من طرق الضغط للحصول على الحقوق». واعتبر الدكتور طه الفسيل أستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء، أن القضية مرتبطة بالبطالة وأن الأخيرة ليست في اليمن وحدها، إنما في مختلف دول العالم وبحسب بيانات منظمات العمل العربية، فإن هناك حوالي 20 مليون عاطل عربي عن العمل.. في اليمن بالذات النظر إلى مشكلة البطالة من أوجه أو أبعاد مختلفة، البعد الاقتصادي، والبعد التعليمي، والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني . مشيرا إلى أن قضية التعليم وهي الأساس «فمع الأسف فإن النظام التعليمي في اليمن لا يواكب متطلبات السوق هذه إشكالية كبيرة جداً بمعنى أن خريج الجامعة، لا يكون قادرا على العمل في غير المجال الحكومي، حيث انه لا يمتلك المهارات الأساسية مثل لغة أجنبية أو استخدام الكمبيوتر» . ويعتقد أستاذ الاقتصاد أن «برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تطبقه الحكومة اليمنية منذ عام 1995، لا شك انه اثر أيضا على أوضاع الشباب، من حيث توظيف العمالة في القطاع الحكومي فقد قل بشكل كبير، السياسات الانكماشية أدت إلى انخفاض الطلب وانخفاض الإنتاج، إضافة إلى أن القطاع الخاص لم يستطع استيعاب ما كان مخططا له من العمالة في الخطط الخمسية، أو غيرها وهذا القطاع بالطبع يحتاج إلى مهارات خاصة في توظيف العمالة، مشكلة أخرى أن لدينا عزوفاً عن بعض الأعمال مثلا خريج الجامعة لا يقبل بأي عمل إلا الذي يرضاه هو، وليس الذي يتطلبه السوق، أيضا فإن منظمات المجتمع المدني والخيرية منها على وجه التحديد تركز فقط على الجانب الخيري فقط وكان يمكن أن تساهم مع القطاع الخاص والبنوك وغيرها في توفير أعمال لهؤلاء العاطلين» . وأعرب الفسيل عن أمله ألا يكون تنظيم الشباب العاطلين عن العمل لأنفسهم في جمعيات فقط لمجرد المطالبة بالعمل، وإنما أيضا لإيجاد حلول وتقديمها بالاشتراك مع الآخرين «وعندما توجد هذه الجمعيات الحلول، فستكون في الطريق الصحيح، أما إذا استمرت أنشطتها احتجاجية فقط فلن نصل إلى حلول أبدا» . تجدر الإشارة إلى أن الشرق الأوسط «حاولت الاتصال بعدد من المسؤولين في الحكومة اليمنية، لأخذ وجهات نظرهم بشأن ظاهرة جمعيات الشباب العاطلين عن العمل، إلا أن الجميع رفض التجاوب لأسباب كثيرة، وتجنب البعض الإجابة عن أسئلة الصحيفة بحجة أن الموضوع سياسي أكثر منه اقتصادي أو مطلبي.