استطلاع/ فاتن المحطوري - هيفاء المحطوري لأنه ورد في الأثر: أن إماطة الأذى عن الطريق أدنى شعبة من شعب الإيمان؛ لذلك تقرر أن يستلم العامل على إماطة الأذى عن الطريق، أدنى راتب، الذي يبلغ: اثني عشر ألف ريال(نصف دوام)، ويتعرض هذا المبلغ لرحلة شاقة، حتى يصل إلى يد عامل النظافة، وقد تم الاقتصار - في هذا الاستطلاع- على عمال النظافة بجامعة صنعاء؛ ليطّلع القارئ والمسؤول، على ما يجري في هذا الصرح العلمي. وفي ثنايا السطور الآتية أحداث الرحلة. ضآلة الراتب: بدأنا أحداث الرحلة بتوجيه سؤال لعدد من عمال النظافة بجامعة صنعاء: هل يكفيكم الراتب؟ فأجابت إحدى العاملات في كلية الإعلام، وقد ارتسمت على وجهها علامات الإحباط: الراتب لا يكفي، فأنا والله لا أستطيع أن أشتري منه حبة مليم، حيث أقوم بدفع الراتب كله لصاحب البيت (حق الإيجار)، وبقية المصاريف ندبرها من الديون، وقد تراكمت عليّ ديون، خليها على الله. وفي كلية الشريعة، أجاب أحدهم، بنبرةٍ حادة: كل شيء أسعاره ترتفع، إلا معاشاتنا تظل كما هي، ألا يرحمونا، نحن معنا أسر، معنا أهل نريد أن نرسل لهم ببعض المال، ولكن في ظل هذه الأوضاع نحن لا نستطيع أن نرسل لهم بشيء. أحد عاملي النظافة في كلية التربية أجاب على السؤال بأسلوب مغاير للمتعارف عليه وهو التعبير عن عدم الرضا بملامح وجهه العابس والمتبرم من سوء الحال.. ثم تركنا ومضى لعمله. تبعناه وأخبرناه أن الأمر مهم، والمطلوب منه أن يذكر معاناته، وبعد إلحاحنا، أجاب، والغضب بادٍ في وجهه: كيف يكفي؟? والشخص منا لا يعول نفسه فقط، بل يتحمل مسؤولية عائلة، تتكون من: أب، وأم، وإخوة، وأخوات. وقالت عاملة في كلية التجارة: الراتب لا يكفي؛ لذلك اضطر للعمل الإضافي من بعد الظهر إلى المغرب، بمبلغ (عشرة آلاف ريال)، وأشعر أني أضغط كثيراً على نفسي، ولكن لا بدّ لي أن أفعل ذلك، وإلاّ من أين أُدَبِّر بقية المصاريف، إذا كان إيجار البيت وحده يبلغ (أربعة عشر ألف ريال)، فالمبلغ الذي نستلمه لا يكفي حتى إيجار البيت? أما بعض العمال في جامعة صنعاء -عندما وجهنا لهم السؤال- فقد جاءت إجابتهم فيما يشبه التوبيخ: احسبوها أنتم، بالعقل: هل يكفي؟? وبناءً على طلبهم، قمنا بحساب المسألة بالعقل والآلة معاً، فكانت النتيجة كما يلي: لنفترض أن العامل مع العيال وأم العيال مجموعهم ستة أفراد، ونفترض أن هذه العائلة تطبق في حياتها اليومية قول المصطفى(ص): "بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه". وبناءً على ما سبق، سوف يكون نصيب الفرد الواحد في اليوم: ثلاثة روتي، أي أن الأسرة تنفق في اليوم الواحد على الروتي مبلغاً وقدره: مائتان وسبعون ريالاً يمنيا، وفي الشهر: ثمانية آلاف ومائة ريال. هذا بالنسبة للروتي. نأتي للإدام، ولنفترض أنه بيض، حيث يأكل أفراد الأسرة بيضتين في كل وجبة، أي أن الأسرة تنفق في اليوم على البيض: مائة وعشرين ريالاً، وفي الشهر: ثلاثة آلاف وستمائة ريال. إذن إجمالي ما ينفق على الروتي والبيض شهرياً، يقدّر ب: أحد عشر ألف وسبعمائة ريال. يبقى من الراتب: ثلاثمائة ريال. في ماذا ستصرف ياترى؟? في الماء.. أم في إيجار البيت.. أم... ؟? تأخير صرف الراتب: في دراسة علمية قام بها عدد من اختصاصيين علم النفس: جاء فيها أن السعادة تكون أقوى عندما يحصل العامل على أجره عند نهاية عمله، أي في نفس اليوم، بدلاً من تأخيره إلى نهاية الشهر. والحاصل عند عمّال النظافة، كما أفاد بذلك عدد منهم: أنهم لا يستلمون رواتبهم عند نهاية الشهر، بل يظلون بعد نهاية الشهر أياماً من الانتظار والمعاناة. فإذا كانت سعادة العامل أقوى ما تكون عند استلام أجره في نفس اليوم، وتقل عند استلامه في نهاية الشهر، فكيف هي الحالة النفسية لعمال النظافة الذين لا يحصلون على أجورهم إلا بعد أيام من نهاية كل شهر؟? قالت إحدى العاملات في كلية الإعلام: إنني آتي إلى العمل مرغمة، فعملنا لا توجد به امتيازات، مثل بقية الموظفين؛ فالراتب لا نستلمه إلا بعد أسبوع أو أسبوعين من نهاية كل شهر، والإجازات ممنوعة، حتى وإن أحضرنا تقارير طبية، يتم رفضها، وإذا ما غاب أي واحد منا، يخصم من راتبه -على اليوم الواحد- ثمانمائة أو ألف ريال. وقالت عاملة في كلية التجارة: أقل مدة للتأخير خمسة أيام، وأقصى مدة خمسة عشر يوماً، والتأخير حتى ولو ليوم واحد يقلقنا ويزعجنا؛ لأنه لا يوجد لدينا مصدر آخر -غير الراتب- نُدَبِّر به أمورنا. أمّا زميلتي فهي ساخطة على هذا الحال، وخاصةً هذا الشهر، فقد غابت يوماً واحدا من شهر ديسمبر المنصرم؛ لذلك خصموا من راتبها ثمانمائة ريال عن ذلك اليوم، وعندما احتجت، كان الجواب: أن غيابها استمر لمدة ثلاثة أيام(الخميس، والجمعة، والسبت)، مع العلم : أن الخميس والجمعة إجازة رسمية? تقسيط الراتب: بالإضافة إلى ما ذكر عن الرحلة الشاقة التي يمر بها راتب عامل النظافة، تم تقسيط راتب شهر نوفمبر 2009م ، فقد أفاد عدد من عمّال النظافة: أنه تم اجتزاء مبلغ أربعة آلاف ريال من راتب شهر نوفمبر؛ ليكون بمثابة ضغط على العمال، لكي يداوموا بعد عيد الأضحى مباشرة، وقد تم وعدهم بتسليمه مع راتب شهر ديسمبر. وعندما استلم العمال راتب شهر ديسمبر لم يُسلم لهم ما تبقى من راتب شهر نوفمبر، فأرادوا أن ينظموا إضراباً جماعياً، فتم تهديدهم بالفصل. ويتم استخدام الفصل من العمل كعقاب تأديبي لكل من يتجرأ ويطالب بحقوقه المكفولة له شرعاً وقانوناً.. في ختام هذا الاستطلاع نحط رحالنا، وراتب عامل النظافة لم يحط رحاله بعد. رسالة: لكل مسؤول عن تحديد أجور العاملين وصرفها لهم(سواءً أكان في جامعة صنعاء، أو في الشركة المتعاقدة معها الجامعة) : تخيل أنك أنت من يستلم بعد نهاية كل شهر اثني عشر ألف ريال، وأنك أنت من يعاني تلك المعاناة، فإذا استطعت أن تتخيل، فراقب نفسك كيف ستكون ردة فعلك. وإذا لم تستطع أن تتخيل، فتكفي عبرة أن عقلك يشمئز من تخيل المعاناة، وأن نفسك تتأفف من تقمصها في الخيال، فكيف إذا كان واقعاً معاشاً؟?