كتب/د.ناصر محمد ناصر جاء في مقال السيد مسدوس المنشور في صحيفة الوسط الأسبوع المنصرم نقاط كثيرة لن أتعرض لها، وما يهمني هنا هو التركيز على الاختلالات المنهجية والفكرية في تفكير الأخ مسدوس، والتي قادته إلى الخروج باستنتاجات لا تتسم بالمنطق ولا يمكن وصفها بالموضوعية، ويمكن مناقشة هذه الاختلالات وبيان عطوبتها والبرهان على زيف منطقها، ودون الانتقاص من أحد، وذلك على النحو التالي: 1- خلط مسدوس بين النظام وبين تكتل أحزاب اللقاء المشترك وبين أبناء المحافظات الشمالية، ووضع كل هذا الجمع المتباين في سلة واحدة، واتهم هذا الجمع بأنه قد تآلف على ابتلاع الجنوب، وهذا طرح لا أساس له من الصحة، فمسألة الابتلاع هي عملية سياسية وليست اجتماعية ولا حزبية تنظيمية، وكثير من الأطراف التي يضعها مسدوس في مربع المبتلِع، هي نفسها محل وموضع ابتلاع، وبرهاني على ذلك هو أن النظام هو الذي غرر ومن ثم ابتلع حزب الإصلاح قبيل حرب عام 1994م، ووظف هذا الابتلاع لابتلاع الحزب الاشتراكي اليمني بتوريطه في حرب لم يكن مستعداً لها، ومن ثم ابتلاع كل من المحافظات الشمالية والجنوبية معاً في إطار مشروع التوريث الذي تقوم به الأسرة، ولم يكن لأبناء المحافظات الشمالية قط دور في هذا الابتلاع، بل إنهم وقفوا مع إخوانهم أبناء المحافظات الجنوبية ضد سلطة ونظام الابتلاع، فقد كانوا طوال السنوات التي سبقت الحرب، مع الحزب ومع قيادة البيض تحديداً الذي رفع شعارات دولة النظام والقانون، ولم يتخلوا عنه إلا بعد أن اتجه هو وسالم صالح محمد عقب توقيع وثيقة العهد والاتفاق في الأردن إلى كل من السعودية والكويت، عندها تبين لهم أن البيض قد خدعهم، وأن ما كان يسعى إليه هو الانفصال وليس دولة النظام والقانون، وهو نفس موقف أبناء المحافظات الجنوبية الذين لم يؤيدوا موقف البيض الانفصالي والذين ظلوا منه في موقف المتفرج إلى أن سقط ولاذ بالفرار. فهذا الخلط هو في ذهن وأفكار مسدوس وحده ، ولغايات هو يريدها، وليس في الواقع، ولا في التاريخ. ومن عايشوا تلك الأحداث يدركون صحة ما أذهب إليه. وهي في كل الحالات أحداث ووقائع مدونة ويمكن الرجوع إليها. 2- اتهم مسدوس الحزب الاشتراكي اليمني بأنه لم يتبن ما أسماه بالقضية الجنوبية، وهذا طرح مجافٍ للواقع، فالحزب الاشتراكي ظل يثير وضع المحافظات الجنوبية وضرورة معالجة آثار الحرب منذ الأيام الأولى التي أعقبت الحرب، وكان موقفه هذا محكوماً بأطر أيدلوجيته الاشتراكية وتاريخه الوحدوي، ومجمل ظروفه المادية والتنظيمية التي أعقبت الحرب، والتي فرضت عليه أن يكافح من أجل البقاء، وعندما انخرط في تكتل أحزاب اللقاء المشترك ناضل من أجل أن تتبنى أحزاب اللقاء المشترك رؤيته حول الوضع في المحافظات الجنوبية، وحل قضاياها ومظالمها في إطار المشروع الوطني، وليس بوسعه أن يذهب أبعد من هذا، فليس من العقل في شيء أن يُطلب من حزب اشتراكي ذي تاريخ وحدوي أن يتبنى حلولاً مناطقية، فليس في هذا أقل من نهايته، سيما وأنه هو صاحب مشروع الوحدة، ومن ناضل وحارب سنوات طويلة من أجل تحقيقها، فكيف له أن يتنكر لتاريخه ويسعى إلى هدمها بعد أن أصبحت حقيقة ماثلة، وبصرف النظر عما لحق بها من تشوهات على يد النظام. 3- الخلاصة التي وصل إليها مسدوس هي أن مصير الوحدة ينبغي أن يتحدد إما بناءً على شرعية دولية متمثلة في قرارات مجلس الأمن التي صدرت عقب الحرب، أو بناءً على ما أسماه بشرعية شعبية متمثلة حسب وجهة نظره فيما سماه بحق تقرير المصير، وكلا هذين الطرحين زائف ومجاف للمنطق، فمسدوس يذهب إلى أن الحرب قد ألغت الوحدة، ولكنه عندما يبحث عن شرعية الحل فإنه لا يبحث عنها إلا فيما ترتب على الحرب، وليس فيما سبقها، علماً بأن ما سبق الحرب هو الأساس الصلب الذي يمكن أن تنهض عليه أي حلول أو معالجات، سيما إذا كان ذلك السابق هو المنشئ للقضية موضوع الاختلاف وليس اللاحق لها، فالوحدة هي الأصل والحرب مسألة عرضية، والوحدة قامت بناءً على دستور، وذلك الدستور خضع لاستفتاء شعبي، وأيده وقتها كل من أبناء المحافظات الشمالية والجنوبية، وبنسبة تكاد تناهز ال90%، ولم يطعن حينها في صحة ذلك الاستفتاء أحد بمن فيهم مسدوس نفسه، وإبان الأزمة السياسية التي سبقت الحرب توصل كل من الحزب والمؤتمر وكافة القوى الوطنية إلى وثيقة العهد والاتفاق التي كانت محل إجماع كل الفاعلين السياسيين، وقبل الوثيقة والدستور كان هناك اتفاقيات دولة الوحدة التي قامت على أساسها دولة الوحدة، وكلها تصلح أسساً يمكن العودة إليها للخروج من المشكل الراهن، وليس ما يسمى بالشرعية الدولية أو الشعبية، فالوحدة أساساً لم تقم بناءً على شرعية دولية، وإنما على إرادة ونضال أبناء اليمن، عبر تاريخ استمر عشرات السنين سقط فيه مئات الآلاف من القتلى والجرحى، الذين لا يسعنا تحت أي ظرف التفريط في دمائهم، سيما وأن الرأي العام -أي الشرعية الشعبية كما يعرف ويعي ويدرك الجميع- هو عبارة عن حقيقة متغيرة ومتبدلة، فالذين يعترضون على الوحدة اليوم هم أنفسهم من حاربوا من أجل قيامها، ومن شاركوا في صناعتها بالأمس ومنهم مسدوس نفسه، وهم الذين سيؤيدونها ويدافعون عنها غداً، إذا ما تغير النظام الذي أساء توظيفها، أو إذا ما وصل إلى سدة الرئاسة شخصية من المحافظات الجنوبية. 4- ختم مسدوس مقاله بثلاثة أسئلة أعتبرها الفيصل في البرهان على وجود دولة الوحدة، واعتبر الإجابة عليها بالنفي أساساً صالحاً وصلباً لنهوض مشروع الانفصال، وهذه الأسئلة هي: هل الوحدة موجودة بعد الحرب؟ وهل العلاقة بين الشمال والجنوب علاقة وحدة سياسية بين دولتين؟ وهل الجنوب بعد الحرب ملك لأهله؟ وبإمكاني أن أبرهن هنا والآن بأن هذه الأسئلة لا تصلح لا مقياساً ولا أساساً لما ذهب إليه مسدوس، فعطوبتها وزيفها يمكن أن يفضحه طرح الأسئلة التالية: أ- هل كان كل من شمال اليمن وجنوبه قبل الوحدة موجودين كدولتين، أم أنهما كانا ملكاً لأسرة في الشمال، وقبيلة في الجنوب؟ وهل اليمن اليوم شماله وجنوبه وشرقه وغربه ملك لأهله، أم انه بات ملكاً لأسرة بعينها؟ ب- ألا توجد شعوب كثيرة في العالم ابتداءً من كوريا الشمالية وحتى كوبا مروراً بحالات كثيرة في العالم العربي وفي أفريقيا لا تعد ملكاً لا لأهلها ولا لشعوبها وإنما لأسر بعينها؟ فهل الحل الناجع لهذه الدول يكمن في تصحيح أوضاعها أم في تجزئتها وتمزيق أوصالها؟ وبناءً على ما سبق وتأسياً عليه يمكن الاستنتاج وبدرجة عالية من الثقة بأن القضية ليست مرتبطة لا بشمال ولا بجنوب، ولا هي خصوصية يمنية ولا حتى عربية من حيث الأساس، وإنما هي آلية قانون تطور الاجتماع الإنساني، فالشعوب والمجتمعات في هذا الطور من النمو تحكمها العلاقة الشرطية التالية: 1-أن قدراتها التكنولوجية والتحويلية محدودة ومتأخرة، ومن ثم فإن اقتصادها زراعي وليس صناعياً، وعليه لا بد أن تكون ثقافتها قدرية ماضوية وليست عملية ولا عصرية. 2- لأن القاعد الإنتاجية التقليدية لهذه الشعوب لا يمكن أن تنهض عليها طبقة وسطى حديثة وعصرية، تستطيع بناء مؤسسات الطبقة الوسطى التي تكون بمثابة القوة المحركة للأنظمة السياسية في الدول والمجتمعات الصناعية. 3- أن هذه الشعوب التي لا توجد بها طبقة وسطى عريضة، لا يمكن أن توجد بها نخب سياسية عريضة ومتباينة، تجعل من المستحيل على النظم السياسية احتواؤها أو التفكير في إمكانية السيطرة عليها، فالنخب في هذه المجتمعات محدودة، وقد برهنت الكثير من التجارب على أنه يمكن شراء أقطابها بالمال والمنصب العام، ومن ثم إحكام السيطرة عليها، وترهيب وتهميش وإلغاء من يقاوم هذه السيطرة. إن التمساح الذي يصل وزنه إلى ثلاثة أرباع الطن لا يزيد حجم دماغه عن حجم ضرس واحد من أضراسه، أي حجم بوصة واحدة تقريباً، ومن ثم فهو حيوان حسي لا يدرك وجود محيطه ولا علاقته به ولا تأثيره عليه، والإنسان ينبغي أن يكون غير ذلك، فهو صاحب أفق يتجاوز ذاته وخصوصيته إلى محيطه والى عالمه، والى الكون اللامتناهي والى معنى الوجود. والرسالة التي أريد إيصالها هنا هي أن علينا أن نناقش مشاكلنا وخصوصياتنا، ولكن علينا أن ندرك ونحن نفعل ذلك أننا بكل مشاكلنا وخصوصياتنا هذه جزء من عموميات أكبر واعم وأشمل، وأن تطورنا السياسي والتاريخي لا يجري بمعزل عن العالم الذي نعيش فيه وننتمي إليه، فقد سبقتنا في مضمار هذا التطور أمم وشعوب، ونحن نسير في هذا المضمار اليوم مع أمم كثيرة غيرنا، فلا ينبغي أن ننظر إلى أنفسنا بمعزل عن الآخر، فنسقط في دوامة الفعل والفعل المضاد التي لا تنتج ولا تولد سوى التطاحن والدمار، علينا أن ننظر ونحن نعالج مشكلاتنا إلى واقعنا، والى العالم، والى ماضينا كشعب وماضينا كجزء من المجتمع الإنساني، وأن ننظر إلى المستقبل، والى وضعنا في إطار التطور المستقبلي للبشرية، وأن نجترح الحلول لمشاكلنا في إطار معطيات واقعنا وفي إطار رؤيتنا الشاملة وموقعنا في هذا العالم، إن الخطأ المنهجي الفادح الذي يتكرر في كل كتابات مسدوس، والذي يتولد عنه كل هذا الخلط، هو تحليله للظواهر السياسية بمعزل عن جذورها الاجتماعية وأبعادها التاريخية، ولكني هنا لا أوجه نقدي لمسدوس، فمسدوس يكتب انطلاقاً من خلفيته الثقافية التي لم تستوعب القوانين الحاكمة لتطور الاجتماع الإنساني والبشري، وأنا لا ألومه في هذا فهو سياسي ولا يمكن تصنيفه كمفكر ولا حتى كأكاديمي، ومن ثم لا ينبغي أن نطلب منه فوق ما لا يطيق، وأنا لم أكتب هنا بهدف النيل منه، وإنما بدافع مناقشة وجهة نظره وبيان حقيقتها للناس. [email protected]