الذين شاركوا في الحوارات والمباحثات خلال الأزمات يدركون الصعوبات التي يواجهها المتحاورون، خاصة إذا ما ارتفعت خطورة الأزمة والتوقعات واحتمالات انفجار الوضع.. واليوم تعيش اليمن وضعًا تتجاذبه صراعات سياسية يغلّفها المذهبي والمناطقي والشخصي، مما أدى إلى قتامة الوضع وخلط الحق بالباطل والمبدئي بالمصالح الشخصية. في مثل هذا الوضع تتعدد احتمالات النتائج وما يترتب عليها، خاصة إذا ما تدخلت قوى خارجية بأجنداتها إما لتحقيق مصالح لها في اليمن أو لنقل بؤر الصراع إليها ضمن مخطط الحروب بالوكالة, وتستغل في ذلك ظروف الشعب اليمني الصعبة المتمثلة في الفقر والبطالة اللذين يشكلان أرضية للاستقطاب والتجنيد لتلك الأجندات والحروب. في هذا الوضع المعقّد تضع القوى السياسية اليمنية اليوم رهانها على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية للخروج من هذا المأزق, وما أوصلت إليه من نتائج وتوصيات مؤتمر الحوار الوطني، وما أسهمت به قرارات وبيانات مجلس الأمن وجهد مستشار الأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر في دعم المبادرة.. إلا أن كل هذه الجهود لن تُخرج اليمن من أزمتها إذا لم يكن لدى اليمنيين أنفسهم الإرادة والقدرة على إيجاد الحلول لأزمتهم وإخراج اليمن من النفق المظلم الذي تعيش فيه. من المؤسف أن اليمنيين أغفلوا خلال مؤتمر الحوار الوطني مجموعة من الحقائق، منها أن الوسطاء مهما حسنت نواياهم وحرصهم على اليمن فإن هذا الحرص لن يفوق حرص اليمنيين على وطنهم, ولكن مشكلة القادة السياسيين في اليمن هي الشكوك والمخاوف التي تسيطر على تفكيرهم وتنأى بهم عن الوفاق.. كما أن بعضهم - للأسف - أصبحوا تحت تأثير ضغوط خارجية إما فكرية أو مادية، لا يستطيعون الانفكاك منها. ومما زاد الأمر تعقيدًا تخلّي الحكومة عن دورها في إدارة الأزمات المتعاقبة إما لتهميشها أو لعجزها، خاصة تلك المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والأمنية مما ضاعف من وتيرة الأزمة, خاصة أن الحكومة ظلت رهينة لمواقف الأحزاب المشكّلة منها بدلاً من بناء علاقات تضع مصالح اليمن أولاً، وتؤسس لمصالحة وطنية حقّة. بالرغم من التوافق حول مخرجات الحوار الوطني التي وضعت المعالجات لكثير من القضايا ولرسم صورة اليمن الجديد، إلا أن بعض المكونات كانت لديها بعض التحفظات التي ما زالت قائمة حتى اليوم.. كما أن بعض التوصيات - للأسف - تحمل في طياتها بذورًا لأزمات قادمة، خاصة إذا ما تم تجاهل الضوابط التي وضعت لتنفيذ المخرجات.. لقد نبّه عدد من المشاركين في مؤتمر الحوار صعوبة تنفيذ العديد من التوصيات؛ لأنها لم تؤسس عل منهج علمي وعملي وإدراك لتبعاتها وتكلفتها الاقتصادية وآثارها الاجتماعية, وتجاهلها وتعارضها في بعض التوصيات لأسس ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان التي أكدت عليها في توصيات أخرى.. وبما أن بعض القوى عمدت إلى إيجاد هذه التناقضات إما لتعيق تنفيذ مخرجات الحوار أو لعدم الخبرة فإنه يصبح من اللازم على الهيئة الوطنية لمتابعة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ولجنة صياغة الدستور أن تقفا أمام هذه التناقضات واستبعادها حتى لا يصبح الدستور الجديد محل نقد الخبراء الدوليين، بل - وهذا الأخطر - أن يكون محل رفض اليمنيين؛ حيث لا يمكن قبول دستور يؤسس لسياسة الإقصاء أو الانتقام أو هيمنة طرف من الأطراف حتى لا يؤدي إلى إعادة إنتاج أزمات الماضي. في ظل هذا الوضع تقع على فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي مسؤولية قيادة المرحلة الخطرة المتمثلة بصياغة الدستور الذي يجب أن يعكس طموحات الشعب اليمني، ومعالجة التوصيات التي لا تتماشى مع المبادئ المتعارف عليها في صياغة الدساتير.. لذلك فإن صياغة الدستور هي عصب ترجمة مخرجات الحوار الوطني.. والذي سيضع اليمن على أعتاب مرحلة جديدة, وعلى فخامة الرئيس والهيئة الوطنية للرقابة أن يتابعوا صياغة الدستور لضمان نجاح الاستفتاء عليه من خلال استبعاد أية مواد أو نصوص تثير المخاوف أو تؤسس للإقصاء, وأن توجّه الطاقات قبل الاستفتاء على الدستور نحو تحقيق مصالحة وطنية شاملة وعدالة تصالحية تطوي صفحة صراعات الماضي وتؤسس لبناء اليمن الجديد. أُدرك أن هذه الأفكار قد لا تلقى قبولاً من بعض القوى التي دفعت بالأمور نحو التشدد أثناء مؤتمر الحوار الوطني, إلا أنه يُعد ضرورة وطنية طرح وجهات النظر مهما اختلفت حينما يكون الأمر متعلقًا حول قضايا لها علاقة بمستقبل الوطن من باب حق الجميع في التعبير، وبالذات من شارك في نقاشات داخل هذا المؤتمر، وكان أحد أعضائه ما دام ذلك بعيدًا عن الاتهامات والتشكيك بالنوايا.. وسنترك لفخامة الرئيس بحكمته وضع الأمور في إطارها الدستوري والقانوني الصحيح؛ حرصًا على الوصول إلى معالجات سليمة وعملية ودائمة وممكن تنفيذها، وبالتالي تمنح فخامة الرئيس المكانة التأريخية التي يستحقها. • وزير الخارجية السابق