لم تعد المملكة السعودية العالقة بين مطرقة أصولية "الدولة الإسلامية" وسندان معاداة الغرب ومناهضة الصهيونية ل "الجمهورية الإسلامية"، كما كانت من قبل على مستوى التصوّر الإقليمي والواقع الاجتماعي على حدّ سواء؛ إذ خسرت تشدّدها وانغلاقها الأسطوري مع وزير دفاع لم يتجاوز عمره الثلاثين عامًا وولي عهد أربعيني وأكثر من 40 ألف سعودي ابتعثوا للدراسة في الخارج منذ عام 2010. ومن المؤكّد أن المملكة لا تزال حارسة العقيدة الإسلامية السنية في مواجهة إيران الشيعية، ولكنها شهدت تطورات عقائدية وسياسية كبرى. الطفرات الإسلاموية السعودية خلال السنوات ال 2000، قوّضت العقيدة السلفية الرسمية الموروثة عن محمد بن عبد الوهاب (1703 - 1792) من قبل الفكر الإسلامي المتطرّف والدعاية الجهادية لتنظيم القاعدة؛ إذ يعتبر مؤسسه السعودي أسامة بن لادن نفسه سلفيًّا وهابيًا، ولهذا اضطرّ التيار السلفي التقليدي -بجميع اتّجاهاته- أن يبرّر نفسه ويدافع عن قناعاته الدينية ومواقفه الأيديولوجية، واضطرّت جميع القوى السفلية -المؤيدة للنظام أو المعارضة له- إلى الانخراط في عملية التفكير والتبرير -السياسية في الأساس-، في حين أنّها اقتصرت في السابق على مسائل العقيدة الدينية وتوجّه المعتقدات الدينية. ثمّ تنامت هذه الأسئلة مع اندلاع الربيع العربي في عام 2011، ومرّت المجموعات السلفية بمرحلة حادّة من مراجعة المسألة الفكرية والفقهية المتعلّقة بالعلاقة بالحكّام، وبعد عقود من التعاون مع بعضهم والمواجهة بالنسبة لبضعهم الآخر، قامت هذه الجماعات بنقد ذاتي متشدّد لمواقفها؛ ممّا أدّى إلى العديد من الانقسامات الداخلية، بعضها بدافع من أزمات الهوية والبعض الآخر باهتمام حقيقي بالإصلاح. وفي الأساس تواجدت الجماعات السلفية والجهادية -كتيّارات صحوية- في طرف الحق اللاهوتي والسياسي، كما تميّزت علاقاتها مع الحكومة السعودية -على الرغم من طبيعتها الأصولية- بجدلية المدّ والجزر على حسب الأحداث الدولية. وهكذا، بعد أن تعهّد السلفيون الجهاديون بالولاء للنظام السعودي في السنوات ال 1980، لم يتردّدوا في إصدار فتاوى في السنوات ال 2000 تدعو إلى عزل القادة السعوديين بما في ذلك الملك شخصيًّا، وبعد استهداف المصالح الغربية في الأراضي السعودية، لم تتردّد القاعدة في مهاجمة النظام الملكي مباشرة على الرغم من أنّه قد عزّز الوهابية الّتي ينتمي إليها تنظيم بن لادن. أدّت عمليات الشدّ والجذب بين القاعدة والنظام السعودي إلى انقسام كبير داخل التيار السلفي الوهابي: من جهة، هناك "السلفيون الثوريون" الّذين يريدون النأي بأنفسهم عن النظام لاستعادة النقاء الأصلي للحركة السلفية، ونجد من جهة أخرى "السلفيين الشرعيين" المجتمعين حول شعار "لا للفتنة" ومن بين هؤلاء "العلماء الرسميون" الّذين يبرّرون دعمهم للنظام السعودية بحقيقة أنّ بإمكانه تجنّب الحرب الأهلية والفتنة داخل الأمّة، ويعتبر هؤلاء أنّ "السلفية الثورية" خطيرة وتأتي بنتائج مضادّة ولا يتردّدون في إدانتها ودعم الإجراءات القمعية الممارسة ضدّها من قبل النظام. على هامش هذه المعارضة المركزية، تطوّرت تيّارات خارجية ولكنّها سمحت بترجيح كفّة الميزان لهذا الطرف أو ذاك على حسب الظرف السياسي الداخلي للمملكة والوضع الجيوسياسي الإقليمي. ومن بين تيّارات التحكيم، نجد تيّار الجاميين أو المداخلة نسبة إلى العالمين الشيخ الجامي والشيخ ربيع المدخلي. ويدعو هذا التيّار السلفي إلى نقل السلطة السياسية إلى الدولة بمجرّد تنظيم الطقوس والدعوة إلى الصلاة، وبسبب هذا الموقف البراغماتي، دعم هذا التيّار على نطاق واسع من قبل النظام السعودي وسرعان ما انتشر في صفوف السلفيين مع طمأنتهم فقهيًا وعمليًا، ولكن لم تتأخّر أطروحاته في توظيفها من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية" لتبرير إقامة الخلافة والدعوة إلى الجهاد ضدّ الفصائل الإسلامية الأخرى. ونجد أيضًا السروريين، نسبة إلى الشيخ محمد بن سرور زين العابدين الذي يجمع بين أفكار سلفية (في المسائل العقائدية) وأفكار إخوانية (في الممارسات اليومية)، ومكّنهم هذا الخليط من الحصول على هامش واسع للمناورة السياسية حتّى عام 2013، تاريخ الإطاحة بالإخوان المسلمين في مصر وبداية مطاردتهم في كلّ مكان تقريبًا في إطار "حرب دينية" داخلية في الطائفة السنية الّتي تمتدّ بالموازاة مع الحرب غير المعلنة بين السنة والشيعة في الخليج. واجهت هذه التيّارات جميعها تحديًّا كبيرًا في علاقتها مع الأنظمة العربية الاستبدادية الّتي أصبحت أكثر بوليسية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتعزّزت بالفوضى الّتي تلت الربيع العربي، ولكن استفادت بعض التيّارات من ردود الأفعال على الهجمات الإرهابية لتوسيع قاعدتها ولاسيّما مع أفكار توحيدية مثل "الهدنة" مع الحكومات العربية لتجنّب "الفتنة". وفي الواقع، خشيت العديد من التيّارات السلفية من "عرقنة" المملكة العربية السعودية إذا ما نمى التيّار السلفي الجهادي في المملكة. بدا من الواضح بعد ذلك أنّ المواجهة بين القاعدة المدعومة من السلفيين الثوريين من جهة والأنظمة العربية المدعومة من الولايات المتّحدة الأمريكية من جهة أخرى، لعبت دورًا كبيرًا في التغييرات الّتي طرأت داخل التيّارات السلفية في السنوات ال 2000. وظهر هذا من خلال الدور الّذي لعبه العلماء، مثل الشيخ سلمان العودة (المتواجد في نجد، معقل السلفية) والشيخ سفر الحوالي (المتواجد في الحجاز، معقل الجهادية) والشيخ محمد بن سرور زين العابدين (الّذي كان مستقرًّا في القصيم، معقل الإخوانية آنذاك). وقد تدخّل العودة والحوالي مع علماء سعوديين آخرين لتهدئة السلفيين الغاضبين جدًّا من الأنظمة العربية بعد عام 2001، وعملوا بمهارة على تقريب الشباب السلفي من النظام السعودي، حتّى إنّ العديد منهم قد سلّموا أنفسهم إلى السلطات طواعية بعد أنّ أُدرجت أسماؤهم في قائمة نشطاء القاعدة في المملكة العربية السعودية. وعلاوة على ذلك، شرع الشيخ سلمان العودة مع بعض الجماعات في تقريب الأفكار السلفية من المفاهيم الّتي كانت ترفضها صراحة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح والغيرية، ومن خلال الاستناد إلى تجربة بعض الحركات الإسلامية في العالم مثل تركيا والمغرب، برّر الشيخ العودة دخول الإسلاميين في العملية السياسية القائمة على مفاهيم غربية مثل الديمقراطية الّتي كان يرفضها مع علماء آخرين على خلفية عقائدية محضة. ومن خلال الاستلهام من حياة النبي محمّد، قبل "العودة" المشاركةَ في الانتخابات والدخول في تحالفات مع غير المسلمين، وكان الهدف من مثال النبي الّذي مارس السياسة وأبرم تحالفات في زمانه جعل الديمقراطية مشروعة وتقديمها كوسيلة لخدمة مصالح الإسلام والمسلمين، للحدّ من الظلم وضمان الإنسان حقوقه الّتي حرم منها ظلمًا. يعدّ الشيخ العودة مثالًا نموذجيًا للسلفيين الّذين تحوّلوا مبكّرًا ببراغماتية إلى الديمقراطية في نسختها الإسلامية (الشورى). ومن ثمّ عمل على تهدئة التيارات السلفية ونقل تدريجيًا تيّار المواجهة مع النظام السعودي من التيار الاجتماعي إلى العالم الافتراضي، من خلال الدعوة إلى الاستخدام المكثّف لتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات للوصول إلى الجماهير والعناية ب "توعيتهم" عوض المواجهة مع الأنظمة القائمة. وشكّلت "دمقرطة" الرسالة السلفية من خلال توظيف وسائل الإعلام الحديثة (الفضائيات ووسائل الإنترنت) نجاحًا لا يمكن إنكاره، وجعلت من الشيخ العودة واحدًا من النجوم الإعلاميين للسلفية السعودية. سمحت هذه التغطية الإعلامية بانعكاس التغيير الاجتماعي الجاري على المستوى الأيديولوجي وقبلوه من قبل عدد كبير، ولئن لم تكن المملكة العربية السعودية في منأى عن الصراع بين الجيلين القديم والجديد من السلفيين؛ حيث ينادي الأوّل بالالتزام بالتراث الإسلامي، في حين ينادي الثاني بالإصلاح؛ فإنّ نوعًا من التوازن قد ساد بعد الربيع العربي، باعتبار أنّ النظام السعودي الرافض لمفهوم الثورة -المرادف بالنسبة له للفوضى والفتنة- سار إلى جانب القوى الإسلامية السلفية الّتي تريد التغيير بالإصلاح في الدول العربية. وهكذا، في حين دعمت قطر تيّار الإخوان المسلمين في مصر، دعمت المملكة العربية السعودية السلفيين المصريين الّذين دعموا بعد ذلك الانقلاب العسكري في عام 2013، واستبعدوا من التطهير الّذي يقوم به النظام المصري بشفاعة السعودية. كشفت وفاة السعودي بن لادن في الربيع العربي يوم 2 مايو 2011، عن مفارقة غير متوقعة؛ فلئن قوّض تنظيمه (القاعدة) أمن الدول الإسلامية بداية من المملكة العربية السعودية فإنّه قد جعلها أكثر صرامة على المستويين السياسي والفكري، باعتبار أنّه قد أجبرها -في بداية تعثّر شرعياتها- على التشدّد على جميع المستويات ولاسيّما من خلال اختراق السلفيين والتيّارات الثورية بذريعة مكافحة الإرهاب. فرزت الأنظمة العربية القوية بدعم الشعب الّذي يخشى الإرهاب والفوضى النشطاء السلفيين للقضاء على بعضهم ونفي بعضهم الآخر أو الاستعانة بعناصر أخرى لتكون مفيدة لها؛ ولهذا ضعفت التيّارات السلفية المعادية للأنظمة العربية، بما في ذلك الأكثر ضراوة ومن بينها: التيار السلفي الجهادي. وعلى الرغم من المظاهر، سرّعت حالة عدم الاستقرار المزمن في العراق بداية من عام 2003 من هذا الضعف؛ ممّا دفع مقاتلي هذا التيّار إلى العنف، ممّا عزلهم تدريجيًا عن الشعب. وهكذا، تمّ انتشال الفكر السلفي ودمجه في الجسم المذهبي وفي الخطاب السياسي الرسمي للمصالحة الوطنية. ولكن في أواخر عام 2013، كشف بروز تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" لصالح الحرب في سوريا إلى العالم بأسره ثمرة جديدة للتيّار السلفي الجهادي، وهي ثمرة ذات طبيعة إسلامية جامعة باعتبار أنّها تدّعي إعادة إقامة الخلافة الّتي ألغيت في عام 1924، وتطالب بالعودة إلى حدود ما قبل سايكس بيكو (1916). وانتهى تنظيم الدولة الإسلامية بواسطة طموحاته الإقليمية ومشروعه لتوحيد المسلمين تحت سلطة واحدة دنيوية وروحية (الخليفة)، بجمع جميع القوى الإسلامية ضدّه بعد انضمامها إلى التحالف التولي لمحاربته عسكريًا وأيديولوجيًا. وتحوّلت المملكة العربية السعودية بعد أنّ دعمت السلفيين الجهاديين في صراعهم ضدّ النظام السوري إلى طليعة الكفاح ضدّ "الخطر الإرهابي" الّذي بات على أبوابها. وللقيام بهذا، استخدمت جميع الوسائل المتاحة من القوّة العسكرية الخامّ إلى وسائل الإعلام العربية، مرورًا بجمعيات العلماء على المستويين الوطني والدولي. وبغضّ النظر عن نتيجة المواجهة، من غير المؤكّد أن تخرج منها المملكة العربية السعودية سالمة. ديبلو واب - التقرير