الاحتجاجات الجماهيرية على نتائج الانتخابات الإيرانية ورد الفعل العنيف للسلطات الإيرانية ضدها، وما صاحبه من قمع للمظاهرات واعتقالات وسقوط ضحايا، وفرض تعتيم إعلامي شامل وطرد للمراسلين وإسكات للإعلاميين، ثم اتهام الدول الغربية بالتدخل في الشأن الداخلي، وقيام السلطات باعتقال 8 من موظفي السفارة البريطانية بطهران، هذه الاحتجاجات كلها وذلك الأسلوب في التعامل من قبل النظام الإيراني يطرحان تساؤلات مهمة لدى المتابعين والباحثين في قضايا الإسلام السياسي، والشأن الديني عامة وعلاقته بإشكالية الحكم السياسي، ودور علماء الدين في السلطة السياسية، ولعل من أبرز تلك التساؤلات: 1- ما حقيقة الديمقراطية في ظل نظام سياسي ديني يهيمن عليه ولي فقيه يجمع بين يديه كل السلطات ويمارس قمعاً ضد الجماهير الرافضة لقراره؟ 2- هل يمكن إقامة نظام ديمقراطي ديني يسع جميع أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية والجنسية والسياسية، ويتمتعون فيه بالمساواة في الفرص والحقوق والحريات، في ضوء استبعاد النظام الإيراني لأكثر من 400 مرشح للرئاسة وقيام المرشد الأعلى للنظام، الذي يملك السلطات المطلقة، بالتدخل المبكر لمصلحة أحد المرشحين وتوجيه كل مؤسسات الدولة إلى خدمته ومن ثم عدم إمكان محاسبته أو الاعتراض على انحيازه إلا بالاحتجاج الجماهيري؟ 3- ما هي حدود الديمقراطية الدينية، وإلى أي مدى يمكن أن تتسامح مع المعارضة الجماهيرية ومع الخصوم السياسيين؟ 4- وأخيراً وهو التساؤل الأهم: ما مستقبل الدولة الدينية بعد الإخفاقات المستمرة والكارثية في كل الميادين التنموية وإهدار كل موارد الشعوب المهيمنة عليها؟ لقد كان منظرو فكر الإسلام السياسي في ما مضى يرفعون شعارات 'الإسلام هو الحل'، ويقصدون بالإسلام هنا رؤاهم السياسية للدين وتصوراتهم لنموذج الدولة الدينية المنشودة، والتي كانوا يراهنون عليها لتحقيق أهدافهم في أسلمة الدولة والمجتمع، وكانوا يتعللون بأن القوى الكبرى الغربية لا تسمح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة خوفاً على مصالحها، وكانوا يظهرون أنفسهم كضحايا للسلطات العربية الرسمية ومن ثم يبررون عنفهم وخطابهم الصدامي بأنه رد فعل للتعذيب الذي مورس ضدهم في السجون العربية، وكان كثير من كتاب الإسلام السياسي والمتعاطفون معهم يرددون في معرض المحاججة ضد خصومهم السياسيين ويقولون مستنكرين: كيف تحكمون على الإسلاميين ولم تجربوهم في السلطة كما جربتم البعثيين والناصريين والقوميين والشيوعيين؟ لماذا لا تسمحوا لهم بخوض غمار المعترك الانتخابي لإثبات جدارتهم في العمل السياسي وفي ممارسة السلطة؟ ولطالما ملأت طروحات الإسلام السياسي وتنظيراتها للحكم والسلطة والديمقراطية والشورى أرفف المكتبات العربية، سواء بوجهها السُنّي المتمثل في نظام 'الخلافة' أو بوجهها الشيعي المجسد في نظام 'ولاية الفقيه' ومَن يطلع على الكتاب القيم 'الديموقراطية في بلد مسلم' لأبرز المفكرين المستنيرين من الطائفة الشيعية وبتحرير من الدكتور توفيق السيف، يجد كلاماً رائعاً عن علاقة الديمقراطية بالنظام السياسي الديني، فمثلاً نجد الدكتور محسن كديور يلخص خصائص الديمقراطية الدينية كما يلي: أولاً: الديمقراطية الإسلامية، نظام قابل للتطبيق في المجتمعات التي تميل أكثرية أعضائها إليه، بمعنى أنه لا يوجد فرض للديمقراطية الدينية على المجتمع. ثانياً: في ظل هذه الديمقراطية يتمتع كل أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والسياسيه بالمساواة في الفرص والحقوق، بمعنى أنه لا يمتاز الشيعي على غيره ولا الفقيه على سواه، فالمواطنة رباط جامع للجميع وفوق كل الانتماءات. ثالثاً: إرادة الشعب هي المصدر الوحيد لشرعية الممارسة السياسية وكل قرار لا يشارك الشعب فيه فهو باطل ولا اعتبار له. رابعاً: تطبيق الأحكام الشرعية في المجال العام بعدما تلبس ثوب 'القانون' من قبل الهيئة التشريعية، هذا بالنسبة إلى الآراء الفقهية التي يرجع فيها إلى الفقهاء، أما بالنسبة للموضوعات المتعلقة بالأمور التنظيمية والمباحات، فإن المرجع فيها هو 'العقل الجمعي' أي عامة الشعب. خامساً: من أبرز الفوارق بين الديمقراطية الدينية وغيرها، هو التزام المجتمع بأخلاقيات الدين وتعاليمه وقبولها كأساس للقانون العام، سادساً: تدير الدولة الموارد العامة بصفتها وكيلة عن الشعب، وتتحقق هذه الوكالة عبر الانتخابات العامة، وليس لأي مسؤول صلاحيات مطلقة أو غير خاضعة للرقابة الشعبية. وفي تصوري أنه لا يسع أي منصف إلا أن يرحب بهذا التنظير الجميل للديمقراطية الدينية ويؤيده، ولكن التجارب السياسية للإسلاميين وعلى امتداد 3 عقود وحتى اليوم تناقض تماماً هذه كل الطروحات التنظيرية، سواء على مستوى تجربة الدولة الدينية كما في إيران والسودان و'طالبان' والصومال، أو على مستوى تجربة الدويلة ك'حزب الله' و'حماس'، أو على مستوى تجربة الأحزاب السياسية كالإخوان في مصر، وحزب مقتدى الصدر في العراق، والحوثيين في اليمن، والجماعات الدينية في باكستان وغيرها من الدول، هذه الممارسات والتجارب أثبتت فشلاً ذريعاً سواء في نطاق الممارسة الديمقراطية على مستوى السلطة أو الحزب، أو في احترام إرادة الجماهير وعدم مصادرتها. وليس هذا فحسب، بل إن الدولة الدينية والحزب الديني مارسا قمعاً عنيفاً ضد الخصوم السياسيين، وكذلك ضد أبناء النظام السياسي نفسه وضد أتباع الحزب لمجرد مخالفتهم توجهات المرشد الأعلى أو زعيم الحزب، وهذا غير خطابات التخوين والتشكيك والاتهام بالعمالة تجاه كل المعارضين، وهذا تماماً ما فعله القوميون والشيوعيون عندما مارسوا السلطة على امتداد ستينيات القرن الماضي، ولكن الفارق بين الحكم القومي والحكم الديني أن الأول يعتقل خصومه ويعذبهم ويعدمهم باسم الشعب، بينما الثاني يفعل كل ذلك ولكن باسم الإله، هذا على المستوى الديمقراطي، أما على المستوى التنموي فقد فشلت تجارب كل السلطة السياسية الدينية في تقديم 'نموذج تنموي' يحتذى به. وها هي الثورة الإيرانية أقدم تجربة سياسية دينية تكمل عامها الثلاثين ولم تستطع أن تحقق أي إنجاز تنموي، علماً بأن إيران أغنى دولة حباها الله بكل الإمكانات والموارد والطاقات والثروات المادية والبشرية المتعلمة، لقد أخفقت الثورة الإسلامية في إيران في تحقيق كل الوعود التي وعدتها للشعب الإيراني غداة الثورة، الشعب الإيراني اليوم وبعد 30 سنة من الثورة يعيش وضعاً اقتصادياً صعباً، يعاني فيه معظم الشباب البطالة والتضخم، يرى الشعب الإيراني ثروات بلاده وهي تتبدد في الخارج في تمويل جماعات وأحزاب موالية للثورة، ويرى الموارد تهدر في شراء أقلام وصحف ومنابر إعلامية خارجية بهدف الدعاية وتمجيد النظام وإخفاء سلبياته وخطاياه، الشعب الإيراني يشاهد ثروات بلاده تذهب سدى في مشاريع غير ذات جدوى، كتكديس السلاح، وإقامة الترسانات الحربية، وتخصيب اليورانيوم، وكل ذلك بهدف مناطحة أميركا! إيران حتى اليوم عجزت عن تحقيق أدنى مستوى مقبول للتنمية والإنتاج يحافظ على كرامة الشعب الإيراني ويحميه من التشرد والاغتراب والبحث عن لقمة العيش في دول الخليج وأوروبا وأميركا، إيران حتى اليوم عاجزة عن بناء معمل لتكرير البترول، وهي أغنى دولة بترولية، ومازالت تشتري منتجات البترول من الخارج وتوزعها بنظام الكوبونات! الشعب الإيراني يعيش وضعاً بائساً مع أنه يملك أعظم ثروات العالم، أوضاعه المعيشية متردية مع أنه صاحب حضارة راقية وعريقة يفاخر بها حضارات العالم، حريات الشعب الإيراني مكبلة مع أنه شعب أبي لا يستكين للظلم أبداً، يرى الشباب الإيراني نظامهم يعاني عزلة عالمية مع أنهم منفتحون ومتواصلون مع شباب العالم، يعاني الشباب الإيراني الذي يستخدم شبكة الإنترنت والموبايل ويتفاعل مع أحداث العالم وضعاً ازدواجياً حاداً، وهم أبناء الثورة الإيرانية إذ يرون تناقضاً كبيراً بين أفكارهم ومشاعرهم وآمالهم في دولة عصرية متقدمة وطروحات وممارسات وأوضاع الدولة الدينية التي يعيشون فيها، تلك الدولة التي تريد عزلهم عن العالم وتصوير المجتمع الدولي بأنه لا هدف له إلا استهداف إيران ومن ثم تعبئتهم عبر الشعارات والخطب العنترية لمعاداة المجتمع الدولي، هذا الوضع المأساوي هو العامل الأساسي المحرك للاحتجاجات الجماهيرية ضد النظام، الآن: ما هي الدروس المستفادة من تجربة الدولة الدينية في إيران وغيرها؟ لقد أتيح للإسلاميين أن يمارسوا السلطة وأن يشاركوا فيها على امتداد 3 عقود، وكانت المحصلة النهائية لهذه التجربة هي الإخفاق الذريع في كل الميادين التنموية، لقد فشل الإسلاميون تماماً سواء على مستوى البناء والتنمية والإنتاج والديمقراطية، وكذلك على صعيد تحقيق المواطنة والتعايش والتآلف بين التيارات والمعتقدات والأطياف السياسية بين أبناء المجتمع الواحد، لقد عمَّقوا الانقسامات الدينية والمذهبية وكرسوا التوجهات التعصبية في بنية المجتمعات الإسلامية، وتشكل الجماعات الدينية المسلحة كلها شوكة دامية في ظهر مجتمعاتها، كما أنها تمثل مشاريع انفصالية تريد خلق كيانات خاصة منسلخة عن الدولة الوطنية والأمثلة على ذلك كثيرة: 'حماس' في غزة، و'الحوثيون' في اليمن، و'طالبان' في أفغانستان وباكستان، و'حزب الله' في لبنان، والمتمردون في الصومال، والجماعات الدينية في العراق إلى آخره، كما أن بعض هذه الجماعات جلبت الكوارث إلى أوطانها بسبب مغامراتها غير المحسوبة. وبعد هذه التجارب الفاشلة للإسلاميين في السلطة، وعلى إثر انكشاف النظام السياسي في إيران، نستطيع أن نقرر وبكل ثقة: أنه لا مستقبل للدولة الدينية، لأنها تجمِّد الحياة وتشل المجتمع وتقتل الإبداع وتميت الفرحة والبهجة وتورث الكآبة والبؤس لأفراد المجتمع، ولأن الدولة الدينية نمط من الحكم الشمولي الذي يحمل بذور فنائه في نفسه تماماً مثل النظام الشيوعي والنظام النازي والفاشي، وأخيراً لأنها ضد روح العصر الساعية إلى التواصل بين البشر وإزالة الحواجز بينهم. كاتب قطري [email protected] المصدر الجريدة الكويتية