قبل إيطاليا وجدت روما. قبل السعودية وجدت مكة. قبل الجمهورية اليمنية وجدت صنعاء، عدن، تعز .. المكلا. عبر التاريخ إجمالا وجدت المدن قبل الدول ، وأولئك الذين أهانوا المدن سيهينهم التاريخ في كل حين . لقد تطورت اليمن فعلا لكن نظرتنا للأشياء هي التي تراجعت إلى الحضيض . حضرت الفتوى بدلا عن التفكير، وصارت البندقية هي الرجولة، واللصوصية هي السبيل إلى الثراء! في عدن مثلا ، كان مجتمع المدينة حاضراً بامتياز، لم تكن تسمع من قبل أن أحداً اشتكى من أن جاره "يتكشف عليه" رغم أن البيوت متلاصقة جنباً إلى جنب، والعمارات متقابلة وجهاً لوجه، والبلكونات مفتوحة على بعضها والكل عيال حافة واحدة . لكن حرب صيف 94 وضعت أوزارها وثقافتها ونوافذها المغلقة أيضاً. توسعت الشوارع .. التجمعات السكانية توسعت هي الأخرى وضاقت بالناس الحياة . عدن الآن مبتهجة بالطرقات وبالبقالات وبمطاعم العصيد والسلتة وبالجنابي وبالمساويك وبالبراقع وبا أشرطة كاسيت نصفها تصدح للانفصال ونصفها الآخر يصدح للشجاع الأقرع! ذهبت فرقة السيرك وجاءت مكانها أسواق القات، وصارت العشوائية والبراقع وشهوة "البُقع" وامتلاك الأرض علامة فارقة بين نظامين مختلفين تعاقبا على مدن الجنوب . وبدل الاستفادة من السلوك المدني في عدن لبناء الدولة الحديثة، صرنا نسمع كل يوم أخباراً عن إلقاء القبض على جماعة مسلحة في خور مكسر! تصوروا ، مدينة "خور مكسر" التي لم تكن تعرف حتى صوت قوارح الطماش! وبدلا من نقل تجربة عدن المدنية إلى مدن الشمال، رحنا نركز لعدن شيخ مشايخ؛ يعني : هوذا الي كان ناقصهم .! خلال أكثر من عقدين على الوحدة، أعادت البلاد بناء نفسها لكن جيلاً عتيداً وبنظرة أحادية، لا يزال يرفض أن يموت أو أن يفتح دماغه ويعترف أن البلد بحاجة إلى إدارة الحياة وفق رؤية جديدة للحياة ، وأن ما كان يناسب جيل "أمينة رزق" لا يناسب جيل 22 مايو المجيد. كيف تستطيع أن تعيش التطور إذا كنت لا تعرف كم كلفك ؟ عشرات الآلاف من البشر خسرتهم اليمن في ثورتين و"شغمة" حروب أهلية . أولئك الذين ضحوا بطرق أو بأخرى على مذبح القانون لإيجاد بلد حقيقي، وفجأة يذهب كل ذلك داخل "قوطي" من ذهب لصالح مجاميع من العويلة ومن النهابة الكبار! وبالرغم التوسع العمراني الهائل في عدن ، إلاّ أن الفوضى عموماً هي الثمرة الصادقة والوحيدة للتطور في اليمن. الاحتقان وصل إلى حد مخيف ، وعبارة "دحابشة "صرت تسمعها تدق في كل زاوية كما لو أنها ساعة "بيج بن".كنت أتمشى في الشوارع وأشعر كما لو أنني محتل جاء لينهب بقعة أرض ويهرب. الواجب العام أن نحب بعضنا بعض، لكن ما العمل حينما يعتقد النظام أن الناس يمكن أن تحب بعضها بالقوة العسكرية أوبمسيرات تهتف للوحدة ومن ثم " يوسح " مطمئنا إن الوحدة بخير؟! هذا بحد ذاته هو الاختلاف في وجهات النخر . كل واحد صار يتحدث من مناخيره ، وفي رأيي أن هذا الاستقواء الغبي والسخيف هو تحديدا أكثر ما جعل الوحدة تغدو عليلة ومهيأة لأن تصير حدثا عابرا لا أكثر؛ أو.. مجرد ذكرى قديمة عن الحياة ، أكثر من الحياة نفسها. [email protected]