في غضون عقود التحالف "الإخواني السلطوي الحميم" الممتدة منذ انقلاب نوفمبر 1967م الذي مثَّل نهاية لحضور مصر الناصرية في شمال اليمن وبداية قوية لتغوُّل النفوذ السعودي، كان الهاشميون "من غير آل حميد الدين" يعيشون كرعايا من الدرجة الثالثة قياساً بكبار الشيوخ والعسكر، حتى مع حصة النفوذ القَضَوِي المخصصة لهم بموجب "المصالحة الجمهورية – الملكية" التي تبنتها المملكة السعودية مطلع سبعينيات القرن الفائت.. لقد كان الهاشميون بطبيعة الحال بمثابة قوة نظرية ناعمة ملحقة برموز المشيئة السعودية الناهضة في اليمن ومجردة من كل أسباب البأس، وعدا "توزة و قاوق مهيبين وفولكلوريين" ما من شيء يدل عليهم.. وفيما كانت الكليات والمعاهد الأمنية والعسكرية مشرعة أمام كوادر "الإخوان المسلمين – مشائخ وقبائل وطلاباً" كانت الزيدية والشافعية تنحسر وتخمد مراكز إشعاعها لحساب تغوُّل "الوهابية السياسية" بأربطتها ومراكزها ومعاهدها الزاحفة على شمال الشمال وجنوبه..؛ وكان حلم بناء دولة المواطنة –في الأثناء- يذوي ويضمر بتنامي نفوذ قوى الظل التي كان الأداء الحكومي انعكاساً لإرادتها وتعبيراً مباشراً عن مصالحها، في معظم مراحل الحكم في الشمال وحتى اللحظة الراهنة.. إن الإقرار بغياب دولة المؤسسات القائمة على مبدأ المواطنة، هو إقرار بحضور مراكز القوى المستحوذة على وظائف الدولة بصفة غير شرعية والعاملة لمصلحة فئة أو جماعة أو طبقة بعينها بمنأى عن المصلحة العامة للغالبية، وهكذا فإن قوة الحضور السياسي لجماعة ما تساوي تماماً مساحة حضورها في غياب الدولة، فيما تتلاشى إمكانية نشوء أحزاب بالمفهوم الحديث لصالح تنظيمات "مافوية" تعمل على تكبيل الرعايا كقطعان وتقديمهم قرابين على مذبح مراكز القوى باستغلال حاجاتهم الدنيا وهذا هو الدور الذي لعبه تنظيم الإخوان وبرع فيه طيلة عقود الحكم التالية لثورة 1962م. إن "الإخوان" كتنظيم "مافوي مليشي مسلَّح" ترعرع وتصالب عوده، بالتَّخَنْدُق التاريخي في السلطة ضد خصومها من مكوِّنات الحركة الوطنية المناضلين في سبيل بناء دولة حديثة بعقد شراكة عادل، عاجزون اليوم وبالقصور الذاتي عن الانتقال إلى موقع نقيض للموقع الذي تخندقوا فيه تاريخياً، وعاجزون عن الاصطفاف الصادق مع المطالب العادلة والمشروعة لغالبية الناس.. إن مثل هذا الانتقال والاصطفاف مستحيل –بالنسبة إليهم- استحالة أن تقايض قصراً بهيجاً بكوخ من القش، إلا على افتراض أن يبلغ "الإخوان" درجة السمو التي جعلت "بوذا" يغادر حياته المترفة إلى شظف العيش متشرداً. إن معركة "الإخوان" مع "صالح" التي ركبوا لها ظهر الاحتجاجات الشعبية العام الفائت، لم تكن –بالإمعان فيها- معركة شارع في مواجهة سلطة غاشمة، بل معركة مركز قوى ضد مركز قوى آخر داخل السلطة ذاتها، بهدف تقاسم مكاسب محدثة راكمها "صالح" خارج رضا أطراف التوافقية التاريخية الحاكمة؛ بيدا أن "صالح" الذي احتمى بوحدات عسكرية نظامية واضحة للعيان، كان –كما تأكد لاحقاً- بمثابة الحلقة الأضعف في معادلة الحكم قياساً ب "الإخوان" المدججين بترسانة عسكرية باطنية في الظل ويسعون حثيثاً اليوم لتفكيك ما تبقى من وحدات نظامية وضمِّها كقوة بَرَّانِيَّة مضافة إلى ترسانتهم.. قال "صالح" في 2006:لقد استخدمت الإخوان كورقة...و قال "اليدومي" في 2012: للقناة الإخبارية ذاتها إن "صالح " كان مجرد ورقة بيد الإخوان..و قبله أكَّد "علي محسن" أنه كان "الرجلَ الأول" في كل عقود حكم "صالح"...و هي سجالات تكشف طبيعة الحكم في الشمال عموماً.. إن تفكيك جيش نظامي ضخم أهون من السيطرة على مليشيات شعبية عقائدية صغيرة تختبئ في الجحور وتنشط في الظل، و افتقارنا في اليمن لجيش مؤسسي منضبط في مقابل وفرة الألوية الشعبية العسكرية العاملة بالمعيَّة والمليشيات العقائدية هو العقبة التاريخية الأبرز في طريق نشوء الدولة الحديثة وتحقيق شراكة سياسية بمكونات متكافئة..و لا أعتقد بأن "المجتمع الدولي!" سيقدم شيئاً لنا على هذا المستوى كما يراهن كثيرون. إن المستقبل السياسي للبلد –في واقع كهذا- ترسمه الجماعات الأكثر تسلُّحاً لا الأحزاب الأكثر جماهيرية فهذه الأخيرة غائبة في المحصلة بغياب الدولة، والكفة المثقلة بالذخائر هي من سيكتب لها الرجحان في مؤتمر الحوار المفترض القادم... إنه حوار الفوَّهات لا حوار الأفواه......