على الرغم من الخطأين الصادمين المشار إليهما في الحلقة الأولى، فإننا بالتمعن في طريقة هندسة آلية الحوار فإن اختفاء الطابع الوطني للحوار يبدو جلياً من ناحيتين، الأولى في طريقة إعداد جدول الأعمال لقضايا يفترض أنها محك اختبار سلامة السير باتجاه تجسيد المادة السادسة وترجمة نصوص المبادرة وصهر مكونات الحوار الوطني لإنجاز مهمات حُددت بثمان نقاط.. بيد أننا حين نتصفح جدول الأعمال في المادة (12) نجد أن الترتيب لا يتسق مع بنود النقاط الثمان، حيث تبدو القضية الجنوبية وصعدة أهم القضايا وتقفز في الترتيب ضمن سلم الأولويات، الأمر الذي يجعلنا على يقين أن المادة (12) قد استهدفت الإطاحة والتنكر للمادة (6)، فإذا كانت نقاط مهمة كصياغة الدستور وقضية تحديد هيكل الدولة والاتجاهات الجوهرية المرتبطة بالنظام السياسي والوصول إلى وفاق نحو بناء نظام ديمقراطي شامل قد مهدت الدروب الضرورية سياسياً لمعالجة القضية الجنوبية في النقطة الثالثة، ورابعاً التوتر في صعدة فإن إعادة هيكلة القضايا في المادة (12) يُشم منها رائحة الدفع نحو التأزيم، وكأن القضية الجنوبية لا تعني اليمنيين من زاوية ارتباطها بالقضايا الأخرى وهي قضايا حقوقية بدرجة رئيسية إذا ما اتفق الفرقاء على حلول طويلة الأجل في موضوعات الدولة والنظام السياسي فإن 80% من القضايا الجنوبية تكون قد حُلت. إن المادة (12) إجراء غير متبصر إذا ما تكامل مع إشارات مبعثرة هنا وهناك، تراكم الامتيازات، ففي المادة (8) تمنح الجنوب (50%) من 565 عضواً، وكما لا تغفل الإشارة حين تستثني الحراك والحوثيين وتلزم بقية المكونات بنسبة ال50% للجنوب، وفي المادة (9) الخاصة بلجنة التوفيق يفوز الجنوب أيضاً بذات النسبة، وفي المادة (11) وكل المواد الأخرى تتشكل صورة الحوار وكأنه حوار بين شمال مبعثر وجنوب متماسك. هذه الامتيازات تدفع إلى الاعتقاد أن تشجيعاً مضمراً للنزعات الانفصالية قد تأسس بإقرار هذه اللائحة، وتوحي بأن الجنوب ليس جزءاً من قضايا الوطن بل هو كيان معنوي وكتلة سياسية بالإضافة إلى تصعيدها إلى المرتبة الأولى من الهموم التي تحتاج حسب هذه اللائحة كل قضية منها إلى 90% من الوفاق حتى تُقر، فكيف يمكن لأحد أن يوصل مؤتمراً هُندس فيه الحوار أن يكون فئوياً وجهوياً ليواصل المجموع الوطني إلى اتفاق حول أي قضية من القضايا ناهيك أن جميع الفرقاء الذين تمت الإشارة إليهم بالتمثيل بالنسبة المحددة قد استثنت الحراك والحوثيين، فهل ذلك كان زلة قلم؟!، أي لا يوجد في الحراك تعبير جنوبي، كما لا يحتضن التيار الحوثي في داخله جنوبيين، إنه لعمري غموض يمكن أن يُفسر على أن المؤتمر سيكون بالإضافة إلى 50% للجنوب+85% ممثلين للحراك ليصبح الحراك بقوام إجمالي (282) عضواً، أي أنه يتجاوز الثلثين، وهنا يمكن للعقل أن يتخيل السيناريوهات المحتملة والتي بدأ اختبار بعض تجاعيدها القاسية من خلال أداء ممثلي الأحزاب من المحافظات الجنوبية، فإذا انتزعوا في اللائحة هذه الامتيازات فهل سيصنعون دستوراً يلائم مزاج هذا الجيل من الجنوبيين.. إن جدول الأعمال والامتيازات الاستثنائية كلاهما كمين خطر ومجازفة سياسية لا بد من التوقف أمامها، إنهما أشبه بكمائن الضمانات التي تريد إدخال جميع الأطراف إلى مؤتمر حوار لا يتوفر على الحد الأدنى من المرتكزات الوطنية، بل هو حوار جهوي وقد ينفض إذا لم تحقق جهة غايتها. لوحظ أن اللائحة قد تجاهلت الإشارة إلى مؤسسات دستورية كمجلس الشورى والنواب ومجلس القضاء الأعلى، كما تجاهلت الإشارة إلى سفراء أعضاء مجلس التعاون الخليجي، هل هؤلاء غير معنيين بالحوار؟، ولا يحق لهم رقابته والاستماع إلى مواقف أطرافه، وهل هؤلاء أقل أهمية من مساعدي جمال بن عمر الذي جاءت الإشارة إليهم صريحة؟. إن اللائحة كشفت حقيقة مفجعة لا يتوقعها الرأي العام الوطني والدولي، وهي غياب الشفافية والعلنية في أسلوب إدارة الحور، فإذا نصت في المادة (5) فقرة (3) بعلنية الحوار وتأمين المشاركة العامة، فيما المادة (48) تفرغ هذا الالتزام من محتواه بالإشارة نشر ما يتم الاتفاق عليه ومن خلال الأمانة العامة وهي عبارة عن سكرتارية فنية فقط... فأي حوار وطني يُدار في أقبية مظلمة، وفي مناطق نائية عن وسائل الإعلام. إن مثل هذه المؤتمرات التي تتحاشى تقاسم الحقائق المصيرية مع كل مكونات المجتمع إنما تريد التخفي لتحصين المشاريع الغامضة وتمرير الخيارات الساذجة وتسويغ المؤامرات الفجّة التي تتستَّر بالشكليات والغرف المغلقة باعتبارها الأماكن الوحيدة الملائمة لأهدافها. إن مؤتمراً يقرر مصير اليمن من أولوياته أن يكون مكاشفاً وشفافاً من جميع أطرافه مع الشعب اليمني صاحب الكلمة الفصل في شئون راهنه ومستقبله. ختاماً: قلة صغيرة تُدرك التمييز بين المصالح السياسية وسياسة المصالح والسياسة، نمط من السلوك الإنساني، والسعي الماكر خلف هدف تحقيق المصالح، لكن المصالح إذا ما خلت من الحد الضروري من الدهاء والأخلاق فإنها تصبح كارثة وتهديداً مزدوجاً للسياسة والمصالح معاً. لأنها تتحول إلى نوع من الجشع والاندفاع خارج قواعد لعبة التاريخ والمجتمع وتنكر بغيض لتطلعات الأجيال المختلفة.