ليست قاعدة، ولا حالة شذوذ، هكذا تبدو الظواهر عادةً، الأمريكي الذي يحترم، أو لا يجرؤ في بلده على انتهاك القانون، أو التهاون بحقوق الحيوان، يمكن أن يمارس أسوأ أشكال الاستهتار بقيم الحياة وحقوق الإنسان خارج بلاده، أمريكا بالنسبة للأمريكي الأرض المقدسة للحريات وحقوق الإنسان، ولا يجوز تدنيس ذلك الحرم بالخطايا، وتلافياً لذلك شيدوا سجن "جنتنامو" في أحدى جزر كوبا، وهناك ما يشبه أخبارا عن نوايا لنقله إلى جزيرة سوقطرة في اليمن. الغش والرشوة والعنف والتحايل على القوانين وانتهاك سيادة الدول.. ليست فقط طبيعة الدبلوماسية الأمريكية في الخارج، والتي تبرر -مثلا-طلعات الطائرات بدون طيار في اليمن وباكستان.. بل حتى الفردية الأمريكية الرأسمالية، كرؤوس وأيادي الشركات متعدية الجنسية، التي تعبث باقتصاد العالم، تكرس للإمبريالية مفهوما يعني أن يكون الأمريكي ملاكا في أمريكا دراكولا في بلاد الآخرين.
اليمني، علي العكس من ذلك تماما، اليمن بالنسبة لليمني ليست وطنا، بل عنوان، اليمني في اليمن غول متوحش يمكن أن يمارس أسوأ أشكال البلطجة والاحتيال والعبث والابتزاز.. لكنه بمجرد مغادرته الحدود اليمنية، يصبح حملا وديعا يشعر بالضعف والضعة ويتحرى التزام حتى أبسط البروتوكولات الشكلية والروتينية، القبيلي الذي يحتقر المهن اليدوية كالنجارة والسباكة والتجارة ..، بتعال مقرف، لا يعمل سفيرا في الخارج، بل يعمل "أبو يمن" هذا حمالا أو بوابا أو نزاحا أو حتى شحاذا أو قوّادا.. ويتقبل كل الإهانات والمطاردات بتطبيع عجيب..!
ذات مرة، وفي مطعم يمني بالقاهرة، شاهدت الجرسون المصري يصرخ بقرف في وجه زبون يمني بدا مرتبكا متضرعا أمامه، كرعوي ضعيف من "العصيمات" ارتكب سهواً خطيئة منكرة في حق الشيخ، استفزني وضعه المثير للشفقة، وعندما حللت الإشكال الناتج عن عدم اللياقة في التعامل مع الأوراق النقدية وقت الحساب، وهي عادة يمنية.. نظر إلي بامتنان بالغ، وكأنما أنقذت حياة هذا الرجل الذي أتضح لاحقا أنه شيخ نافذ في اليمن، ولا أدري كيف يتعامل الآن مع جرسونات ومحاسبي المطاعم في صنعاء، خاصة إذا عامله أحدهم بنوع من الصلف..؟!
تداهمني الآن صور ومشاهد كسيرة عن الدبلوماسية الرسمية، والسياسات الخارجية، حيث تسوّل المعونات والمساعدات، وتقبل الإملاءات، وحيث السفير الشحاذ، والرئيس القائم بالأعمال، والحروب بالوكالة وسياسة الانبطاح.. مرورا بقصائد البردوني، "غريبان وكانا هما الوطن" و"مواطن بلا وطن"، وبيته الشهير: "ملامحها فوقنا كالصقور ... وتحت نعال الأعادي قُبَلْ"، والبيت الأشهر: "ومسئولون في صنعا... وفرّاشون في بابكْ".. وصولا إلى أوضاع الدارسين اليمنيين في الخارج، هؤلاء أيضا يحفظون الحكمة "يا غريب كن أديب"، لكنهم، ورغم ظروفهم المزرية، هم وحدهم من يحتفظون بكبريائهم النبيلة ويشرفوننا هناك، وكأنما هرم السلطة في اليمن ينقلب في الخارج رأسا على عقب..!