"ذات نشوة مدنية حالمة، حمل قادة الصومال نعشا رمزيا، وخرجوا في جنازة رمزية لدفن القبيلة، في تأسيس رمزي لنظام الدولة الحديثة.. ضحكوا قليلا يومها، لكن القبيلة هي التي ضحكت أخيرا وكثيرا.. بعد أن دفنت الجميع"، وبشكل فعلي هذه المرة. ليست القبيلة مجرد كيان سياسي يمكن الانقلاب عليه، أو إزاحته بقرار، كما جرب الرئيس "الحمدي"، بل كيان ثقافي اجتماعي موغل في الوعي والسلوك والتاريخ والقيم الاجتماعية، كما فهمها الرئيس السابق على الأقل، وبذلك لا يمكن التخلص من القبيلة بالقمع والعنف، وبدلا من محاولة تهشيم تلك القوقعة القبلية القابلة للانفجار، يمكن فتحها ببرامج واستراتيجيات تعليمية وإعلامية ومعلوماتية.. بما يغير الوعي الفردي والجمعي، ويزج بالقبيلة القابلة للانصهار بهدوء ورغبة كاملة، في السياق العام للحياة المعاصرة. ينتمي نظام القبيلة إلى الأغوار السحيقة للتاريخ البشري البعيد، كان وجودها ضروريا حينها، لحماية الأفراد والجماعات من بعضها ومن القبائل الأخرى، وكان من المفترض أن تذوب القبيلة في الكيان الكبير للدولة، من أول ما ظهرت الدولة، باعتبار أن حماية الأفراد والجماعات والحقوق صارت من مسئولية الدولة، وباعتبار الدولة الوريث الأحدث للقبيلة، لقد كانت القبيلة حلا ذات عصر غابر، لكنها أصبحت مشكلة في ظل الدولة، الدولة الحديثة بشكل خاص. وإذا كان من المفارقة بمكان أن يظل نظام القبيلة قائما حتى الآن في اليمن ومناطق متخلفة أخرى كالصومال وسواها، فلأن نظام الدولة لم يتجذر بشكل راسخ في هذه البلدان، أو بشكل أصح لم يسمح لنظام الدولة بفرض وجوده في ظل مقاومة القبيلة لكل ما من شأنه ترسيخ نظام الدولة في حياة المجتمع، أو بعبارة أدق تقنعت القبيلة بقناع الدولة، في تجربة نادرة الحدوث، ومن خلال نفوذها في السلطة رسخت القبيلة مقومات بقائها، وهذا يفسر ارتفاع نسبة الأمية وحمل السلاح والتعالي وتدني مستوى التعليم والتمدن في مناطق القبائل.. لقد كانوا يحافظون على أمية وتخلف مناطقهم حفاظا على مقومات ومبررات وجودهم. وفي حين يرى بعض علماء الاجتماع أن القبيلة عندما تحكم دولة تتلاشى القبيلة لصالح الدولة، كما حدث مع الأمويين والعباسيين، نجد الواقع اليمني على العكس من ذلك تماما، فكلما حكمت القبيلة تلاشت الدولة لصالح القبيلة، في مفارقة غير منطقية، فعندما تفرض القبيلة منطقها، يسقط المنطق، وتصبح الدولة حلما عبثيا.. فاقد الشيء لا يعطيه، وفوهة البندقية لا تتسع لأكثر من الرصاصة التي تطلقها.! المفارقة الأخرى أنه بدلا من التنافي بين الدولة والقبيلة، في اليمن، "كسيفين لا يجتمعان في غمد واحد"، حدثت مزاوجة غير شرعية بينهما، أنتجت مسخا مشوها أشبه ب"أبي الهول"، الفرعوني، خليط مرعب من بشر وحيوان، كتجربة جينية أنتجت كائنا هجينا، لا ينتمي إلى الطبيعة أو الحياة، أنها قبيلة الدولة، ودولة القبيلة، فلا وجود لدولة حقيقية حديثة، ولا وجود لقبيلة تدير المؤسسات، لكن القبيلة تحكم بل تتحكم بمفاصل القرار، بينما مؤسسات الدولة كيانات شكلية تفتقد روح المؤسسية الحقيقية، وفي ظل أن نفوذ شيخ القبيلة يتجاوز نفوذ وزير الدولة، بل حتى رئيس الحكومة، لا يمكن الحديث عن دولة ومدنية وديمقراطية وشعب .. بمعانيها الحرفية المعاصرة.. حتى إشعار بعيد.