والحقيقة أن الشاعر بتلك العتبات التي تقدمت الديوان، واختياره قصيدة بخيتة بنت بو ريا واسطة له، ولفت القراء إليها، ساعد على وضع اليد على ذلك النسق الثقافي الذي يعمل داخل النصوص فضلا عن النسق الظاهر في السطح، ورغم أن حجم الديوان صغير بالقياس إلى ضخامة بعض دواوين الشعر العامي إلا أنه قدم توصيفات بدت واضحة لذلك النسق لاسيما أنه شكل نقطة التقاء لعدد من نصوص الشعراء في السياق نفسه إما بالإشارة إليها وإلى مدى تأثيرها في الشاعر كقصيدتي الأستاذين محمد عبدالقادر بامطرف وسالم محمد مفلح التائيتين اللتين مرت عليهما عقود ترسب منهما في قاع الوجدان كما يقول الشاعر ((إيقاع ظل صداه يتردد هاجسا بقصيدة مقترحة ، تأجلت كثيرا، حتى انتظمت كما هي في هذه المجموعة التي لم أجد لها عنوانا يفضل عنوانها هذا اللصيق ببخيتة بنت بو ريا)) (غلاف الديوان) وإما بكتابة مقاطع شعرية لشعراء آخرين كعوض بن سبيتي وحسين المحضار وأحمد باوزير وسعيد باحريز فضلا عن بيت بوريا، وإما بالتناص مع قصائد أخرى داخل الديوان. كان على هذه القراءة أن تركز اهتمامها أولا على قصيدة (بخيتة بنت بو ريا) التي لم تلبث أن باحت بأسرارها وألقت بظلالها على سائر القصائد التي أثرت الديوان بمعان تفصيلية متعددة، فترابطت النصوص مشكلة وحدة الديوان الدالة على ذلك النسق ربما لأول مرة في ديوان مستقل بالعامية الحضرمية تعرض –فضلا عن ذلك الترافد- لتشذيب وتنقيح من حيث العناية بضبط رسم الكلمات بالشكل لإيصالها إلى المتلقي بحرفيتها النطقية، ووضع علامات الترقيم بعناية لإيضاح دلالة التراكيب. يقول الشاعر سعيد الجريري على لسان الشاعر العامي الراحل سعيد فرج باحريز الذي أهمل المسؤولون أسرته بعد موته بل هددوهم ((بإخراجهم من المبنى الحكومي الذي لجؤوا إليه متضررين من آثار أمطار 1989م، من دون أي تقدير لعائلة باحريز)) (الديوان ص9): وقع لي من "حصاة الواقعة" من قبل ما توقع على روس اليتامى، ما قدرت البر، نجفيها ولي هم ذخر في وهمي تناسوا والتهوا بقطع وتبعوا الفانية كلين داوي في ملاهيها وحد يفقع وحد يزمل ويتنصر ويتبرع وضحكوا يوم قلت: ترفعوا بانت "مناشيها" ونسيوا بو فرج وسعيد ومريزوق وربيع وضاع الصوت في الزحمة وفي هوسة ملاويها ولا شي بي زعل، راضي علي ربي، ولي يشفع محمد سيد الكونين… "أولها وتاليها" ولكن البنية صوتها لعلع.. ولم أهجع شكت من قلة التقدير.. هل في الأرض واليها؟ (نفسه ص10-11) سنحاول أن نقرأ النسق المخفي أو المضمر تحت هذه الكلمات المستنكرة في نسقها الظاهر لما جرى لبنت با حريز: أولا: في تقديم الشاعر لهذه القصيدة التي عنوانها (حكومة باحريز) أشار إلى أنه نظم الأبيات متخيلا باحريز ينتفض في قبره ويلهج بهذه الكلمات التي أجراها على لسانه وضمنها بعضا من كلماته (نفسه ص9) في دلالة على استمرار حيوية التشكي والإحساس بالأسى في الشعر العامي الحضرمي عند باحريز –كما ابتعثه الشاعر- حتى بعد مماته، بل ربما جعله الشاعر بتلك القصيدة يتفاعل مع ذلك النسق الثقافي ميتا أكثر منه حيا. ثانيا: يشير الشاعر على لسان باحريز بعد كل ما جرى لابنته من تهديد بالطرد من المنزل وإذلال ومهانة إلى أنه مطمئن النفس غير غاضب مادام الله راضيا عنه (ولا شي بي زعل، راضي علي ربي) إذ تم تقبل الظلم الجائر على أنه قدر إلهي يجب التسليم به!. ثالثا: يرى باحريز -كما أنطقه الشاعر- أن هذا الأمر من الإهانة والإذلال نزل على رأسه كحصاة الواقعة قبل أن ينزل على رؤوس اليتامى، وأنه لم يستطع لها دفعا ولا إزاحتها عن الطريق، في إشارة إلى عدم القدرة على فعل شيء. رابعا: استمرار ضحك الطغاة والمتنفذين وسخريتهم من تهديده، كما ضحكوا سابقا من ثوب حضرموت المرقع، بل إنهم في هذه المرة يتنصرون ويضربون الطبول ويغنون ويرقصون. خامسا: أن صوت المظلومين صوت مهدور ضاع في زحمة التسابق على المصالح والمنافع فلم يصغ إليهم أحد، حتى صوت خديجة بنت باحريز رغم أنه ظل مرتفعا بالشكوى والإحساس بعدم التقدير لم يستجب له أحد .. كأن الأرض خلت من حكامها. سادسا: أنه لم يعد ثمة تقدير للشعراء وعقلاء القوم حيث تنوسي الجميع ومنهم سعيد باحريز نفسه (بو فرج) وسعيد قشمر وسعيد مرزوق، ويحتمل أن تكون تلك الأسماء (بو فرج وسعيد ومريزوق وربيع) رموزا لمظاليم آخرين ومظالم أخرى.