لقد أراد المسلمون الأحكام ثابتة جامدة، وقبلوا أن يتقيدوا بها، دون تعديل أو تبديل، حتى إذا تطورت الأمم والعلوم والفنون، وتبدلت ظروف الحياة، عندما فعلوا ذلك، وقبلوا به، كان حتماً عليهم الوقوف عن مركب الحضارة والمدنية، وبالتالي التأخر في جميع مظاهر الحياة. وهنا تظهر خطورة التقليد المجرد، والتقليد بدون دليل أو برهان، لأن التقليد بدون روية وتفكير، يوقع في الخطأ، ويكرر الجرم. وهذا هو هدف القرآن الكريم، من وراء تأثيره في عقول الناس وقلوبهم، ليكون الإيمان بالله عن طريق الاقتناع الذي يؤكد الجديد في العقول وفي القلوب، ويهزم القديم والتقاليد البالية في أنفس الناس. ولهذا اعتمد القرآن في عملية الاقتناع على أسلوبي الجدل والحوار، وليس القسر والإكراه، وألزم الله نبيه عليه السلام، بعدم إكراه الناس على إتباع هذا الدين: "فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ". فالرسول أرسله الله مبشراً لا مسيطراً على العباد، وليس في الإسلام سلطة دينية تمارس الضغط والإكراه أو الإلزام في الدين، بل لا يستطيع أحد أن ينتصب حكماً على إيمان غيره. لذلك كله، حرص القرآن على أن يربي المسلم، على حرية الاعتقاد، وحرية التدين، لأن العقيدة لا تكون عقيدة، حتى تصدر عن اعتقاد صحيح، والإيمان لا يكون إيماناً، حتى ينبع من القلب والضمير، عن خالص وطمأنينة صادقة، ولا خير في كلمة ينطق بها اللسان زوراً، ويكفر بها القلب، فذلك هو النفاق الذي يعده الإسلام شراً من الكفر الصريح. من هنا أبطل الإسلام الجمود على الآراء التي فات زمانها، والوقائع التي انتهت أثارها، وطلب إلى أهل العلم, الاجتهاد والاستنباط وأعمال القياس والمصالح. ولم يشجع الإسلام في أي فترة من فترات تاريخه، على الجمود والركود والاستقالة، والعزوف عن التطلع إلى المستقبل، بعقل ثابت وطموح مشروع. وإذا كان الإسلام قد حرم التقليد، فلأنه يشل ملكة الابتكار والإبداع، ويسحق عقل الإنسان، فهو قبول قول بغير دليل، وهو لا يكفي في الإعتقاديات، لانعقاد الإجماع على وجوب العلم بالله، بطريق النظر والاستدلال.