مناقشة آليات توفير مادة الغاز المنزلي لمحافظة البيضاء    لجنة من وزارة الدفاع تزور جرحى الجيش المعتصمين بمأرب وتعد بمعالجات عاجلة    وزير الصحة: اليمن يواجه أزمات مركبة ومتداخلة والكوارث المناخية تهدد الصحة العامة فيه    واشنطن تفرض عقوبات على 32 فردا وكيانا على علاقة بتهديد الملاحة الدولية    العراق ضد الإمارات بالملحق الآسيوي.. هل يتكرر سيناريو حدث قبل 40 عاما؟    انهيار مشروع نيوم.. حلم محمد بن سلمان اصطدم بصلابة الواقع    غدا درجة واحدة في المرتفعات    اول موقف من صنعاء على اعتقال الامارات للحسني في نيودلهي    قضية الجنوب: هل آن الأوان للعودة إلى الشارع!    هجوم مسلح على النخبة يقوده عناصر مرتبطة بقيادة سالم الغرابي    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    ثم الصواريخ النووية ضد إيران    حل الدولتين في فلسطين والجنوب الغربي    لماذا قتلوا فيصل وسجنوا الرئيس قحطان؟    إعلان نتائج الانتخابات العراقية والسوداني يؤكد تصدر ائتلافه    جروندبرغ يقدم احاطة جديدة لمجلس الأمن حول اليمن 5 عصرا    تدشين منافسات بطولة الشركات لألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    الكشف عن 132 جريمة مجهولة في صنعاء    الإعلان عن القائمة النهائية لمنتخب الناشئين استعدادا للتصفيات الآسيوية    ندوة تؤكد على دور علماء اليمن في تحصين المجتمع من التجريف الطائفي الحوثي    الأمم المتحدة: اليمن من بين ست دول مهددة بتفاقم انعدام الأمن الغذائي    الحديدة.. المؤتمر العلمي الأول للشباب يؤكد على ترجمة مخرجاته إلى برامج عملية    شبوة تودّع صوتها الرياضي.. فعالية تأبينية للفقيد فائز عوض المحروق    فعاليات وإذاعات مدرسية وزيارة معارض ورياض الشهداء في عمران    بكين تتهم واشنطن: "اختراق على مستوى دولة" وسرقة 13 مليار دولار من البيتكوين    مناقشة جوانب ترميم وتأهيل قلعة القاهرة وحصن نعمان بحجة    افتتاح مركز الصادرات الزراعية بمديرية تريم بتمويل من الاتحاد الأوروبي    شليل يحرز لقب فردي الرمح في انطلاق بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد بصنعاء    قراءة تحليلية لنص "اسحقوا مخاوفكم" ل"أحمد سيف حاشد"    القرود تتوحش في البيضاء وتفترس أكثر من مائة رأس من الأغنام    مفتاح: مسيرة التغيير التي يتطلع اليها شعبنا ماضية للامام    من المرشح لخلافة محمد صلاح في ليفربول؟    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية... علكة لاصقة في بيادة المارشال
شرعية المافيا قد تنوب عن شرعية الانتخابات، والهدوء في جبهات السياسة سيأتي مصحوبا بفوران في بؤر الصراع
نشر في مأرب برس يوم 22 - 01 - 2009

كل شيء هادئ على جبهات السياسة. قبل بضعة أسابيع، أعلنت أحزاب اللقاء المشترك تجميد كافة أشكال التواصل مع المؤتمر، لأنه "مضيعة للوقت"، طبقا لتعبير بيان صادر بهذا الشأن. وإذ راح المشترك يلمح إلى أنه، بدلا من هدر الوقت في حوار لا طائل منه، سيشق طريقه في المرحلة الثانية من ما أطلق عليه ب"التشاور الوطني"، فقد رد المؤتمر على كل ذلك بلغته المتعالية، إنما السمجة أيضا، والتحريضية المجنونة ذاتها. وكان من شأن خطوة كهذه أن تشيع مناخاً من الركود الباعث على الترقب والقلق.
بطريقة ما، ساهمت أحداث غزة الدامية في تعزيز هذا الركود، إلى حد أن البعض أضفى عليه طابعا أخلاقياً. ولكن فعاليات التضامن، خلال الأسبوعين الفائتين، كانت بمثابة مرآة عريضة، لا تخطئها العين، انعكست عليها صورة الشقاق السياسي المتفاقم والآخذ في الاتساع.
وبينما خيم السكون المطبق، بعد انهيار المحادثات بين أطراف الأزمة السياسية في صنعاء، فقد تعالت، وبالتوازي مع ذلك، صيحات الفوضى والعنف في اثنتين من أكثر المناطق اللتين باتتا تشيران، على نحو أو آخر، إلى أزمتين عويصتين ترمزان إلى الاضطراب واللااستقرار اللذين يُخشى أنهما ينتظران اليمن ويهددانها بالتشظي والاندثار، أي باختصار يقرران ما ستكون عليه في السنوات المقبلة: حرف سفيان، والضالع.
الأولى، يمكن أن تمثل بؤرة الصراع الأعتى والأعقد في الشمال: حرب صعدة. فالمواجهات الدائرة بين العصيمات وسفيان، والتي أودت بحياة أكثر من 50 شخصاً، يرجح أنها وثيقة الصلة بأزمة صعدة ذات الأبعاد الغامضة والمتشابكة. أما الثانية فهي المنطقة التي غالبا ما تشير إلى التبرم والغليان الشعبي الجنوبي في أعلى مستوياته. ففي 13 يناير حاولت بعض تيارات الحراك الجنوبي كسر الجمود المهيمن. وعبر سلسلة من الفعاليات الجماهيرية السلمية في عدن والضالع، التي أخذت تتحول إلى ما يشبه التقليد السنوي تحت ما يسمى "لقاءات التصالح والتسامح"، الرامية إلى تجاوز الجروح والأحقاد التاريخية ومعالجة آثارها الوخيمة، بما في ذلك عنف 13 يناير 1986، أفلحت تلك التيارات في لفت العديد من الأنظار الشاخصة باتجاه غزة.
ولا بد أن الأزمتين المستفحلتين (الجنوب وصعدة) تجمعهما، كليهما، وشائج صلة مع أزمة الانتخابات. بل إنه لا يمكن فهم أيهما دون أخذ الأخرى بالحسبان.
...
لا تنفك المعارضة تجادل بأن النظام الحاكم سيدخل مرحلة من اللاشرعية، فيما لو أحجمت هي عن المشاركة في الانتخابات. وهذا صائب إلى حد نسبي فقط. بيد أن هناك منطق آخر مفاده أن "ثمة العديد من الأمثلة المعاصرة، لديكتاتوريات من الأقليات، تمقتها شرائح عريضة من الشعب، وتمكنت مع ذلك من البقاء في الحكم لعشرات من السنين، ومنها النظام العلوي في سوريا، ونظام صدام حسين البعثي في العراق". والذي يتحدث هكذا ليس سوى فرانسيس فوكوياما، المفكر الأمريكي الأبرز، صاحب الأطروحة الشهيرة "نهاية التاريخ". (توصل في أطروحته المثيرة للجدل تلك، إلى أنه من غير المستطاع أن نجد ما هو أفضل من الديمقراطية الليبرالية مثلا أعلى، لأنها قد تشكل "نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية"، و "الصورة النهائية لنظام الحكم البشري"، وبالتالي فهي تمثل "نهاية التاريخ من حيث هو عملية مفردة تطورية متلاحمة"، وليس التاريخ بمعناه التقليدي).
كثيرا ما يكون من الصعب الكف عن اعتبار فقدان الشرعية سبباً حتمياً لسقوط الأنظمة. لكن وفيما كان فوكوياما، المتحدر من أصول يابانية، يشرح باستفاضة دواعي الشرعية، من حيث هي أمر ضروري حتى بالنسبة لأكثر الديكتاتوريات ظلما ووحشية، استدرك ليؤكد أن "الافتقار إلى الشرعية لا تعني أزمة في النظام ما لم تنتقل عدوى السخط وعدم الاعتراف إلى الصفوة المرتبطة بالنظام، خاصة الصفوة التي تحتكر أدوات القمع، كالحزب الحاكم، والقوات المسلحة، والشرطة". ويذهب إلى القول: "فحين نتحدث إذن عن أزمة في الشرعية، داخل نظام استبدادي، فإنما نعني أزمة في صفوف الصفوة التي يعتبر انسجامها وتضامنها شرطا أساسيا لفعالية حكم النظام".
وتحكيمنا لفوكوياما، في هذه المسألة الجدلية بالذات، يأتي من كون أفكار الرجل شكلت جزءاً رئيساً من السند الفلسفي، الذي خاض المحافظون الجدد حروبهم الكونية لنشر الديمقراطية، في ضوئها. لهذا علينا أن نترك فوكوياما يواصل مسترسلا: "إن شرعية الدكتاتور قد تنبثق من مصادر عديدة، كالولاء الشخصي من جانب جيش مدلل، أو إيديولوجية محكمة تبرر حقه في الحكم". لكن متى تصل النظم الاستبدادية إلى حالة يمكن معها القول إنها فقدت شرعيتها فانهارت؟
يصل فوكوياما إلى الاستنتاج بأن كل نظام استبدادي، أكان يمينياً أو يسارياً، يتمتع بشرعية ما. إليكم ما كتبه بالنص: "ذلك أن الشرعية ليست هي العدالة ولا الحق بمعناها المطلق وإنما هي مفهوم نسبي قائم في الإدراك الشخصي للناس. ولا غنى لأي نظام يستند في حكمه إلى القوة المحضة وحدها، إلى مبدأ الشرعية بوجه من الوجوه... فإن كان بوسع الطاغية أن يستند إلى القوة في التحكم في أولاده أو في المسنين أو ربما في زوجته، لو أنه كان أقوى من هؤلاء جسديا، فالغالب ألا يكون بمقدوره التحكم في أكثر من اثنين أو ثلاثة أشخاص بنفس الأسلوب".
...
شرعية الرئيس صالح الحقيقية ترتكز بشكل أساسي على مدى العدالة في توزيع "قطعة الحلوى" على مراكز التأثير. أو "النصيب من الكعكة" على حد تعبيره المعروف، والذي استخدمه ذات يوم للغمز بالمتذمرين من طاقم حكمه، والإيحاء بأنهم مجرد أناس جشعين يخالجهم الشعور بأن نصيبهم (من الكعكة) أقل مما ينبغي. أما تفسيره المعلن لسبب بقائه في السلطة كل هذه المدة فهو "عدم وجود بديل" كما قال في آخر مقابلة صحفية أجرتها صحيفة الوسط الأهلية قبل أسبوعين.
زعماء المافيا يمتلكون شرعية من نوع ما، وإلا لما استحقوا صفة الزعامة. يقول فوكوياما: "غير أن الديكتاتور- عند نقطة معينة في نظامه- لابد من أن يكون له أتباع أوفياء يؤمنون بشرعية سلطانه. كذلك الحال بالنسبة لأحط زعيم من زعماء المافيا، وأكثرهم فسادا، فليس بوسعه السيطرة ما لم تقبل "عائلته" شرعيته على أساس ما. لا بد من توافر مبدأ من مبادئ العدالة يسمح بتقسيم الأسلاب فيما بينهم قسمة عادلة". ويضيف: "فالواقع يشير، مع ذلك، إلى أنه حتى أصلب الديكتاتوريين وأكثرهم عناداً كانوا يرون ضرورة لإضفاء ولو قشرة من الشرعية الديمقراطية على أنفسهم عن طريق إجراء الانتخابات".
لكنهم غير مستعدين لتقبل الخسارة، حتى ولو لم يعودوا قادرين على تفسير سبب وجودهم في السلطة.
ويسرد فوكوياما نماذج من بلدان كانت تتمتع بتقاليد ديمقراطية متماسكة، وحينما وصل فيها عسكريون إلى الحكم، اضطروا للتنحي. فعلى سبيل المثال: استولى العسكريون على السلطة في أوروجواي عام 1973 بذريعة شن حرب ضد تمرد توبيماروس. لكن خبرتها الديموقراطية كانت من الرسوخ بحيث أنها أقنعت العسكريين أنفسهم بإجراء استفتاء عام 1980، لاختبار مدى قبول الشعب لنظامهم، فإذا هم يخسرون ويضطرون، عام 1983، إلى التنحي عن الحكم طوعيا.
هل علي الاعتراف أنني لم استطع مقاومة إحساس غامض بالألم، بينما كنت أقرأ تمييز فوكوياما القاسي بين عالم التاريخ (الشرق)، وعالم ما بعد التاريخ المتقدم (الغرب).
...
في أوائل تسعينات القرن الفائت، بلغت الديمقراطية في اليمن شأواً منقطع النظير. حتى إن مارك ن. كاتز الأستاذ المشارك للعلوم السياسية وأنظمة الحكم في جامعة جورج تاون، أشار في ندوة نظمها مركز الإمارات للدراسات بعيد حرب صيف 94 مباشرة، إلى أن اتجاه اليمن نحو الديمقراطية، حينها، أثار تحفظ القوى الإقليمية "فقد تحققت بالفعل درجة ملموسة من الحرية السياسية". وبهذه الطريقة أخذ كاتز يقدم صورة مكثفة عن المشهد السياسي بعد الوحدة: "كانت الصحف اليمنية المستقلة تصدر حاملة على صفحاتها انتقادات قاسية للقيادة العليا في البلاد. وقد وصل بعضها إلى حد المطالبة علانية باستقالة الرئيس علي صالح. وكانت الانتخابات البرلمانية اليمنية في نيسان 1993 حرة ونزيهة، وكما شهد لها بذلك عدد كبير من المراقبين الدوليين". وأشارت إليها مجلة The Economist ، بوصفها "الانتخابات الأكثر ديمقراطية في العالم العربي".
كانت طفرة أكثر منها مصادفة تاريخية. خاطفة وسريعة الزوال. ولسوف ينال الرئيس بسببها تقدير الغرب، لكنه ما يلبث أن ينكص نكوصا مدمرا. فقد اعتبر كاتز أن درجة السيطرة، التي كان يمارسها الرئيس صالح دون العودة إلى البرلمان، أو إلى الأعضاء الجنوبيين في المجلس الرئاسي، الذي كان يضم 5 أعضاء، لعبت دورا محوريا في إشعال فتيل حرب 94. وقال بول ك. دريش، أستاذ الانثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة أكسفورد، في الندوة ذاتها، بأن مستوى المناقشات البرلمانية، قبل الحرب الأهلية، والتي كان ينقلها التلفزيون اليمني، كانت من الأهمية لدرجة لا تضاهيها سوى اجتماعات اللجان في كونغرس الولايات المتحدة الأمريكية، حسبما قال.
الآن، لا تزال الديمقراطية شرط بقاء الوحدة الحاسم. وعندما صرح النائب محسن باصرة لصحيفة "الأهالي"، الأسبوع الماضي، بأن الجنوبيين سيكونون في حل من الوحدة السلمية إذا ما دخل المؤتمر الانتخابات النيابية منفردا، فإنه لم يجانب عين الصواب. فالفارق الشاسع بين انتخابات 1993 الأكثر نزاهة، والانتخابات القادمة، يقدم تفسيرا شافيا وبليغا للاضطرابات المتنامية في أرجاء البلد، وفي الجنوب بالأخص.
...
لدى صالح ميل غريزي للسيطرة. والأكيد أنه لم يكن يدرك جوهر فكرة الديمقراطية ومقتضياتها. ذلك أن طبيعة تكوينه المعرفي والنفسي ينبئان أن الرجل لا يمتلك شخصية استبطانية رؤيوية تختار السياسات وتهندسها بوعي وفهم مسبقين. في سرده لسيناريوهات ما بعد الحرب الأهلية في صيف 94، كان السفير تشارلز ف. دنبار، رئيس مجلس كيلفلاند للشؤون الدولية وسفير الولايات المتحدة السابق في اليمن، متأرجحا في اختياره لاحتمال أن يكون صالح، بعد انتصاره، مستعدا للسير بالبلد نحو التعددية السياسية، واحترام الحقوق الفردية والحريات. وانتهى به تردده إلى الاستنتاج الصارخ بأن تخلي صالح عن اعتماد أسلوب الحكم المطلق مستبعد، بالنظر إلى أن "تجربة الرئيس صالح في عمله السياسي المضطرب، تجعله يميل إلى اعتماد أساليب الحكم المطلق التي أوصلته إلى المكانة التي هو عليها". وتابع: "انه يدين بالفضل إلى قواته المسلحة التي يتولى قيادة الوحدات الهامة فيها أقرباء له، في تحقيق الانتصار في الحرب الأهلية. ومن المحتمل أن تتملكه رغبة قوية لمكافأة أولئك". يقول دنبار.
وهذا ما حصل بالفعل. و من الآن فصاعدا، أظن أنه لم يعد مُعزِّيا للرئيس الاعتقاد بأن الديمقراطية يمكن أن تصبح ممارسة ذكية لتأبيد نفسه في الحكم بوسائل أخرى. لقد كانت الديمقراطية التي يتصورها الرئيس لليمن لا تتجاوز أن تكون إبهاماً غضروفياً يوضع في فم الشعب كأسلوب رقيق (أو موضة العصر، كما وصف الديمقراطية في حواره مع السياسة الكويتية قبل شهرين) للتعامل مع الخصوم، ينوب عن الهراوة مثلا، أو أعقاب البنادق وبيادات العسكر. علاوة على إضفائه قدرا من الرونق والجاذبية .
ولو شئنا الدقة أكثر، فالرئيس صالح تجنب الغرق في رهانه بشكل نهائي على "الإبهام الغضروفي الرخو". والواقع أنه دأب على استخدامه جنبا إلى جنب مع الهراوات، وأعقاب البنادق، وبيادات العسكر. ومعرفة من هو الخصم تحدد دائما ماهية الوسيلة الملائمة معه.
على أن اللقاء المشترك أفسد الرهان كما يبدو. إنه يريدها ديمقراطية حقيقية، ليس على غرار ما يجري في سويسرا مثلا، لأن هذا سيكون شططا ومغالاة تنقصها الكياسة، بل على نحو ما هو معتمد في الاروجواي وجنوب أفريقيا، أو حتى دول أوربا الشرقية، التي كانت رازحة تحت وطأة حكم الشمولية السوفييتية لعقود، لكنها حققت انتقالات ديمقراطية في زمن قياسي، يوازي الزمن الذي قطعته اليمن منذ 1990.
وبامتناعه عن الرضوخ، قضم اللقاء المشترك تلك الإبهام الرخوة، إبهام الطفل الرضيع بطيء النضج، وقضم معها شرط وجود المؤتمر من الأساس، باعتبار أن الحزب الحاكم لم يكن أكثر من فرس رهان جامح لكن غبي ومفتقد إلى الإرادة، يخوض به الرئيس ماراثونات القوة ليحرز الانتصارات الساحقة والأمجاد التاريخية الفاصلة في نهاية المطاف. وهذه بديهية من السذاجة تكرار الإشارة إليها.
بالنسبة إلى الناس العاديين، أصبحت الديمقراطية أشبه قليلا بعلكة لاصقة في قاعدة بيادة المارشال، "شوينجم" مستعمل ومقزز وفاقد المذاق. علكة كبيرة للغاية وظيفتها تتمثل في الآتي: تأمين موطئ قدم رطب لبيادة الفندم، وكأي شيء لزج ومطاط تعمل (العلكة طبعا) على اجتذاب الأنصار والمعاونين الخلص المتعطشين للثراء والنفوذ و"اتصل بي الفندم"، ثم في النهاية قد تطيح به هو نفسه - يطحس ربما بالعلكة نفسها للأسف- عندما تصير أكثر لزوجة مما يجب.
...
من شبه المؤكد ربما أن المؤتمر لم يعد لديه ما يعيش لأجله، في المستقبل القريب، سوى أمر واحد: تدمير الذات. وإذا كانت هذه هي المهمة التي فشلت الديمقراطية الزائفة في انجازها على مدى 19 عاماً، فإن المؤتمر يبدو كما لو أنه قرر تخليص المؤتمر من نفسه، وبملء إرادة الرئيس أيضا. والسبب بسيط: في الانتخابات القادمة لن يجد صالح خصماً يمنحه نشوة النصر. وبالتالي سيؤول المؤتمر إلى عبء ثقيل، لأن مصدر قشرة الشرعية الأوحد سيتحول إلى ما كانت عليه الأمور إبان تسنم صالح سدة الحكم 1978: الجيش. فإذا ما جازف المؤتمر باختيار خوض الانتخابات النيابية منفردا، فإن الأشهر القليلة القادمة ستكون كفيلة بتعرية الهشاشة الرهيبة في صميم كيانه الناتجة عن تناقض المصالح وقلة الانضباط.
الراجح أن اللقاء المشترك تعلم جيدا كيف يمسك بخناق المؤتمر والرئيس معا. ومن غير الواضح ما إذا كانت تلميحات عبدالله احمد غانم، رئيس الدائرة السياسية في المؤتمر، أمس في صحيفة "الناس" صحيحة، أم إنها عبارات تفاؤل تلخص حقيقة أن الوجل الخفيف، الذي بدأ يعتري قلوب القيادات العقلانية داخل المؤتمر، ناجم عن إصرار المشترك الثابت على عدم خوض الانتخابات ما لم يتم التوافق على رؤيته بشأن النظام الانتخابي.
"أنا عندي ثقة كبيرة بأننا سنصل قريبا إلى اتفاق. ودعني لا أقول التفاصيل الآن"، قال غانم. وفي حين طرح عليه الصحفي عبدالله مصلح سؤالا عما إذا كان هذا التلميح مجرد تكهن، أم أنه مبني على معلومات، قال غانم: "هي معلومات، ودعني أتحفظ الآن عن ذكر التفاصيل". وإذ ألح عليه المحرر رد مقتضبا: "تعال لي بعد أسبوعين لتتأكد من التفاصيل".
الخلاصة، هناك قيادات في أعلى هرم المؤتمر ليس لديها فكرة عن مدى الهوة التي تدفع الوطن إلى قعرها. لديها ميل مفرط للمجازفة المقيتة بكل شيء، وتحرص على تقديم نفسها في صورة السياسي الصقوري الجارح، إنما البدين جدا والمتبجح وعديم الأخلاق والمفتقر إلى النضج والنزاهة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.