قبائل وادعة همدان تحذر من استهداف البلاد    منظومة الكهرباء مهددة بالتوقف الكلي في المحافظات الجنوبية وفق رغبة سعودية    كتاب متخصص في التأمينات والمعاشات للخبير التأميني عارف العواضي    صراع الحسم بين أربعة منتخبات عربية في كأس العرب    ريال مدريد يجهز للتخلص من 8 لاعبين في الميركاتو الصيفي    الدكتور الترب يعزّي في وفاة الشيخ صالح محسن بن علي    الجنوب العربي.. هوية الأرض والشعب والتاريخ بين الذاكرة والسيادة    تحرير حضرموت يكشف المستور في اليمن    البشيري : نمتلك قاعدة إنتاجية قوية في الملبوسات    إعلان قضائي    قوات جديدة تصل حضرموت والانتقالي يربط الأحداث باتفاق الرياض ومكتب الصحة يصدر إحصائية بالضحايا    شبوة.. حريق داخل مطار عتق الدولي    تدشين أعمال اللجنة الرئاسية المكلفة بتقييم ومتابعة تنفيذ خطط 1445- 1446ه بحجة    الأستاذة أشجان حزام ل 26 سبتمبر: 66 لوحة فنية متميزة ضمها متحف الزبير بسلطنة عمان    وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن "25"    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    مرض الفشل الكلوي (32)    صندوق النقد الدولي يعلّق أنشطته في اليمن ومخاوف من تبعات القرار على استقرار أسعار الصرف    هل افلح الحزب الاشتراكي في تأطير تجربته الأنسانية حيال مهمشي جنوب ما قبل الوحدة؟! (3-3)    تعز.. الجوازات تعلن استئناف طباعة دفاتر الجوازات وتحدد الفترة التي تم الوصول إليها في الطباعة    صنعاء .. اختتام دفعة القائد الجهادي الشهيد الغماري في الحاسوب والبناء الجهادي    طالبوا بوقف الإبادة الجماعية والهجمات الجوية الإسرائيلية.. مظاهرة في ستوكهولم احتجاجا على خروقات الاحتلال لاتفاق وقف اطلاق النار    هيئة الآثار والمتاحف تنشر القائمة ال30 بالآثار اليمنية المنهوبة    الصحفي والمراسل التلفزيوني المتألق أحمد الشلفي …    56 ما بين قتيل ومصاب في هجوم مسلح على حفل يهودي بالعاصمة الأسترالية سيدني    الفرح : ما يجري في المناطق المحتلة صراع لصوص    الجاوي: الجنوب لدى سلطة صنعاء أصبح مجرد ملف في أسفل الأرشيف    قائمة منتخب الجزائر لبطولة امم افريقيا 2025    الكالتشيو: الانتر يقفز للصدارة بعد تخطيه جنوى بثنائية    عدن.. محطة حاويات المعلا تعود للخدمة مجدداً بعد توقف لسنوات    ظل الأسئلة    أسياد النصر: الأبطال الذين سبقوا الانتصار وتواروا في الظل    الرئيس المشاط يعزي في وفاة أحد اهم الشخصيات بمحافظة الحديدة    فعالية طلابية في حجة بميلاد الزهراء عليها السلام    السلطة المحلية: تمكين المؤسسات الرسمية من أداء عملها شرط لاستعادة استقرار وادي حضرموت    الكثيري يترأس لقاء موسعا بالمكتب التنفيذي وعقال الحارات والشخصيات الاجتماعية بسيئون    العليمي: انسحاب القوات الوافدة الخيار الوحيد لتطبيع الأوضاع في حضرموت والمهرة    خبير طقس يتوقع موجة برودة قادمة ويحدد موعدها    ست فواكه تقلل خطر الإصابة بأمراض الكلى    محافظ عدن يفتتح سوق الوومن في مديرية صيرة    جيش الاحتلال ينفذ سلسلة عمليات نسف بغزة    الرئيس الزُبيدي يطّلع على الوضع الصحي العام بالعاصمة عدن والمحافظات المحررة    الرئيس الزُبيدي يوجه بتبنّي حلول مستدامة لمعالجة أزمة المياه    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    عدد خرافي للغائبين عن ريال مدريد بمواجهة ألافيس    صنعاء.. هيئة الآثار والمتاحف تصدر قائمة بأكثر من 20 قطعة أثرية منهوبة    تعز.. بئر المشروع في عزلة الربيعي :جهود مجتمعية تنجح في استعادة شريان الحياة المائي    حضرموت أم الثورة الجنوبية.. بايعشوت وبن داؤود والنشيد الجنوبي الحالي    قوات الحزام الامني بالعاصمة عدن تضبط عصابة متورطة في ترويج مادة البريجبالين المخدرة    رونالدو شريكا رئيسيا في خصخصة النصر السعودي    واشنطن تسعى لنشر قوات دولية في غزة مطلع العام    منتخب الجزائر حامل اللقب يودع كأس العرب أمام الإمارات    الله جل وعلآ.. في خدمة حزب الإصلاح ضد خصومهم..!!    ثلاث عادات يومية تعزز صحة الرئتين.. طبيب يوضح    لا مفر إلى السعودية.. صلاح يواجه خيبة أمل جديدة    ضرب الخرافة بتوصيف علمي دقيق    رسائل إلى المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النجاسة السياسية في اليمن
نشر في المساء يوم 31 - 03 - 2014


(الحلقة الأولى)

الدكتور حسن علي مجلي
أستاذ علوم القانون الجنائي
فيسبوك: http://www.facebook.com/drhasan.megalli
بريد إلكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: http://hasanmegalli.com//ar/index.php

(في كتب الفقه الشرعي، النجاسات عشر، وفي اليمن أضيف إليها النجاسة الحادية عشرة، وهي "النجاسة السياسية").

تمهيد:
يرجع سبب هذه الدراسة الموجزة عن "النجاسة السياسية المرتبطة بطرد الجاني"، إلى الصراع الذي لا زال محتدماً بين الرئيس السابق "علي عبدالله صالح" وخصومه من قادة مراكز القوى القبلية والعسكرية والرأسمالية الطفيلية، الذين اشترك معهم، قبل الانقلاب عليه، في الاستبداد باليمن ونهبه.
وقد خاض الرئيس السابق المشير "علي عبدالله صالح"، ولا زال، معركة ضارية ومصيرية عادلة ضد محاولات تغريبه، أي نفيه خارج اليمن وطنه ومسقط رأسه، أكد في حوار معه:
يريدون أن يخرج "علي عبدالله صالح" من البلد، هذا وطنه، ومسقط رأسه، يخرج الآخرون، لكن هو لن يخرج.
ثم قرر جازماً:
لا، أكبر كبير وأكبر دولة في العالم، لا تستطيع أن تفتح فمها على "علي عبدالله صالح"، وتطلب منه أن يترك وطنه([1]).
وأثناء اشتداد الصراع المسلح بين مراكز القوى تلك، اقترح (أحد أولاد الشيخ المرحوم عبدالله الأحمر "صادق") أن يرحل هو و"اللواء علي محسن الأحمر" و"المشير علي عبدالله صالح الأحمر"، في طائرة واحدة، خارج اليمن، لكي ينعم الناس فيه بالسلام والأمان. وهذا أثر من آثار "طرد الجناة" وفكرة "النجاسة السياسية"، ولكن بصيغة أخرى، هي موافقة الجاني على طرده ومن معه، وليس تهجيره من اليمن قسرياً.
وفي ما يخص المهاجرين السياسيين من التنظيم السياسي التابع له (المؤتمر الشعبي العام)، والذين وقفوا في صف من يريد تغريب "علي صالح" خارج اليمن، أكد بألم:
نحن لم نخسر، بل استفدنا برحيل بعض العناصر المحسوبة على المؤتمر، بل أعتبرها "تطهيراً" للمؤتمر، القواعد "طاهرة"([2]).
ويلاحظ القارئ أن عقيدة "النجاسة السياسية" هي المسيطرة لورود كلمتي "تطهير" و"طاهرة"!
النتائج المستخلصة من هذه الدراسة عديدة. وقد أوردنا بعضاً من الشواهد التي تؤكد أن حكام اليمن القبليين والعسكريين كانوا، وما زالوا، يديرون الوطن بعقليات بدائية، وبروح جاهلية لا يستطيع أن يخفيها بريق الشعارات الزائفة، وأنهم باستثناء الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، أصحاب تفكير ذي جذور بدائية مهما تظاهروا بغير ذلك، كما تؤكد هذه الشواهد أن مفهوم الجريمة السياسي لا زال يخضع لأعراف ومفاهيم القبيلة البدائية في اليمن، وأن الذي يحكم العلاقات السياسية فيه، وخاصة بين ما نسميه تأدباً، "مراكز القوى"، بينما هو في حقيقته "العصابات الحاكمة"، هو الضحالة المعرفية والفكر البدائي الثأري القبلي، والذي أرى أن يطلق عليه "الطاغوت السياسي". حقاً، إن القبيلة لا يمكن أن تتحول إلى دولة مهما حاول زعماؤها التظاهر بغير ذلك.
فما هي حقيقة التغريب (الطرد من الوطن)؟ وما تاريخه؟ وما هو موقف الشريعة والدستور والقانون منه؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير نجيب عليه في الصفحات التالية:

مفهوم التابو:
تصور البدائيون الجريمة والتصرفات الخارجة عن أعراف القبيلة والعشيرة، نشاطاً ضاراً يؤدي إلى التلوث بالدنس الذي يلوث بدوره، فضلاً عن مُحْدث الضرر، كافة الأشخاص المحيطين به، وذلك بسبب طبيعته النجسة المُعْدية([3]).
وقد كان هذا الاعتقاد من مقومات المسؤولية الموضوعية المادية والجماعية في مجال تنظيم وضبط العلاقات بالمجتمعات القبلية والبدوية البدائية، وحماية ما ترغب في حمايته، وإحاطته بهالة من القدسية، حيث حرمت المساس به تحريماً غيبياً، ولذلك يكون الاعتقاد بأن هناك قوة خفية وأعرافاً وحشية تحمي المحرمات، وتعاقب على انتهاكها، هو حجر الزاوية في احترامها وتقديسها.
ف"التابو" هو، إذن، في أساسه: محظور بدائي قبلي أو عشائري طاغوتي... الخ، ثم صار تحريماً دينياً مرتبطاً باحترام كل ما هو مقدس، وهو يلعب دوراً أساسياً في توجيه السلوك الأخلاقي والديني للإنسان إزاء طقوس أياً كان نوعه حجر أو شجر أو إنسان أو مفهوم مجرد.

موضوع التابو:
قد يَنْصَبُّ التقديس "التابوي" على طفل معين منحدر من سلالة حاكمة، مما يؤدي إلى تفوقه على الآخرين، بمن فيهم كافة أفراد أسرته، وعلى رأس الجميع أب الطفل المقدس وأمه.
وأية محاولة لتأديب الطفل المذكور تعتبر انتهاكاً ل"التابو"، يتعرض الفاعل بسببه للعقاب الغيبي.
وقد لاحظ أحد الباحثين في بعض القبائل المعاصرة، أثناء زيارته لها، أنها تعيش حالة قلق وترقب شديدين، وكان سبب ذلك، هو أن الابن الأكبر للعائلة الحاكمة في القبيلة -وكان في ال9 من عمره- قد وقع خصام بينه وبين أبيه، قبل ذلك ببضعة أيام، فما كان من الابن إلا أن حرم على أبويه وأشقائه دخول دار العائلة، وخصصها لنفسه، ومن ثم اضطرت الأسرة إلى النزوح عن البيت، وظلت كذلك، إلى أن تَعَطَّف الولد، ورق لحالهم، ورفع الحرمان عنهم، بينما ظل هو طوال تلك الفترة، يستخدم المنزل، ويتناول طعامه فيه أو في أي مكان يتراءى له في القرية، وكان يمارس حياته باستمتاع كامل، وبسعادة، بهذا الموقف، الذي يبيح له، بحكم حيازته للقداسة، أن يفعل ما يشاء.
والخلاصة أن كلمة "تابو" تستخدم كرمز للتجريم والتحريم في المجتمعات البدائية والمتخلفة، وينصرف مدلولها، أساساً، إلى إظهار حرمة موضوع ما([4]).

أساس التابو:
"التابو"، من حيث أساسه السيسولوجي، هو محظور اجتماعي، جزاء إتيانه، يتمثل في عقاب تُوَقِّعه على المخالف، القوى الغيبية أو الكائنات الخفية المسخرة (الجن والعفاريت)... الخ، ومن يجرؤ على انتهاك الحرمات "التابوية"، يعاقب، أيضاً، نفسه، نتيجة تأثير الأرواح فيه، لدرجة تصل إلى حد إزهاق روحه بنفسه (الانتحار)، وذلك عن طريق الإيحاء السيكولوجي، فينصرف عن الأكل، ولا يذوق طعم النوم الهانئ، وتتفاقم حالته المرضية شيئاً فشيئاً، حتى يقضي نحبه.
ومن أنواع "التابو" السياسي المعاصر في اليمن، ما يطلق عليه الحكام وأتباعهم "الخطوط الحمراء" و"الثوابت" و"المصلحة الوطنية"، وهي مفاهيم مجردة ومطاطة لا حدود لها ولا مضمون إلا بمقدار ما تخدم مصالح القائلين بها والقائمين عليها.

طرد الجاني:
إن المُحَرَّم أو المحظور الاجتماعي والديني المسمى في المصطلح الأوروبي "التابو"، هو كالمرض المعدي، يصيب صاحبه بالعدوى كل من يخالطه، فإذا كان المحظور بسيطاً، أمكن التخلص من نجاسته ببعض الوسائل كالكَفَّارة، أو التطهر بالنار أو الماء والضوء، أو نقله إلى شيء معين (إحراق الشعر) أو الكي، أو القفز فوق النار في حفلات الرقص البدائي، أو بذبح الأنعام كأضاحٍ، والتي ينبغي إزهاق أرواحها بدلاً من الإنسان الذي كان مصاباً بالتلوث "التابوي"، ثم نقله إلى الحيوان، وضحى به ليفدي نفسه به.
وقد وفرت المحرمات "التابوية" حماية ضرورة للتشكيلات والقيم والقواعد الاجتماعية البدائية العشائرية والقبلية، دون حاجة إلى جهاز دولة يسن النظم ويقوم بتنفيذها، إذ يكفي أن يصير أمر معين موضوعاً للتجريم، حتى يمتلك أفراد الجماعة الخوف إزاءه، ويتجنبوه ويرهبوه، وقد يعبدونه، كنتيجة للخوف منه، أو من فرط الرجاء المعلق عليه([5]).
والإنسان أو الحيوان أو النبات أو الجماد الذي قتل عمداً، أو تسبب بالقتل خطأ، فقد ساد الاعتقاد بأنه قد تعرض، نتيجة تدخل قوى ضارة، كان مجرد وسيط لها، للتلوث، وهو ما كان يستلزم القضاء على هذه القوى، ممثلة في شخصه، بقتله، أو التخلص منها بطرده ونفيه، باعتباره وعاءً لها.
على أن النجاسة والإثم قد يكونان من الجسامة، بحيث لا تكفي وسائل التطهير العادية للتخلص منهما، فيصيب الجماعة البدائية الهلع، خوفاً على مصالحها، وخشية انتقال العدوى إلى أفرادها([6]).
وكما أن الشخص الآثم قد صار، بإتيانه المَنْهي عنه، أو الامتناع عن فعل المأمور بفعله، مركزاً للنجاسة، ومصدراً للعدوى بها، مما يتحتم معه طرده من وسط القوم، كشكل من أشكال التخلص منه، باعتباره أمسى مصدراً للخطر على حياة وأمن بقية مصالح الجماعة البدائية وقيادتها القبلية أو العشائرية أو العائلية. وهكذا نلاحظ أن الجماعات البدائية، قد اعتبرت الموصوم بالإجرام والتعدي على معتقدات القبيلة أو العشيرة أو العائلة، عدواً لها يجب التخلص منه، ومن الأشياء التي لمسها أيضاً، باعتبارها مصدراً للدنس والشر والنجاسة الاجتماعية.
ويتضح من ذلك، أن غرض الجماعة البدائية من عقوبة النفي، من حيث أساسها التاريخي، هو اتخاذ إجراء وقائي لها، بالتخلص من مرتكب المحظور الاجتماعي أو الديني أو الاقتصادي أو (السياسي)، وكل ما يتعلق به.

نبذة تاريخية:
في القانون اليمني القديم، كانت تطلق كلمة "طردن" على من يتم نفيه، وكلمة "ثيرن" على من يثير المشاكل للجماعة، كما سيلي في الصفحات المقبلة.
وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا النظام في صورة الهروب، حيث لم تكن توجد سجون يحجز الشخص (النجس) فيها، وعدو الجماعة، أو سلطة عليا ترغمه على الرحيل من وسطها، وإنما كان يُخَيَّر بين الاغتراب عنها زمناً قد يطول أو يقصر بحسب نوع الجرم، والظروف التي وقع فيها، ومحله، يعود الشخص بعدها كما كان، أو العيش منبوذاً تعيساً بين الجماعة كالحيوان العقور المريض. وفي الجرائم الماسة بالحياة (القتل العمد، القتل الخطأ، تسبيب الموت)، لم يكن يقام القصاص([7])، إذا اعتدى فرد من العشيرة على آخر منها اعتداء قاتلاً، لأن المقاصصة به من شأنها أن تتسبب في هلاك حياة عضو آخر فيها، مما يعرض قوتها للضعف، وحياتها للخطر([8]). كما أن سكوتها عن القاتل، من شأنه أن يصيب بقية أعضائها بعدوى النجاسة، من جراء انتهاك المحرم "التابوي"، فكان الحل هو التغريب أو النفي، أي تخلي الوحدة الاجتماعية عن الجاني، وطرده من كنف حمايتها.
ولدى العرب كان يسمى المُغَرَّب والمَنْفِي خليعاً([9])، وكانت النماذج الأولى للتخلص من المعتدي أو المشتبه به، لا تتم إلا بعد إجراء طقوس وشعائر، تستهدف تحقيق فصل جذري بينه وبين جماعته، كما سيلي الإيضاح.
وفي الأزمنة المغرقة في القدم، كان إذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم، واستمر مستهتراً سائراً في ارتكاب الموبقات، لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وامتناعاته، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وزعماء قبيلته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك إلى خلعه وطرده من بين أهله، معاقبة له، وتخلصاً من جرائره، ومن المسؤولية التي قد تتولد من أعماله هذه، فتجر عليهم المصائب والكوارث، وتلحق بهم الأضرار. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم، وبإشهاد شهود على ذلك حتى يُعْرف، فتسقط المسؤولية عن أهل الطريد المخلوع.
وكان يعبر أهل اليمن القديم عن الخارج على قواعد المنظومة الاجتماعية السائدة بلفظة "طردن"، أي الطريد، وهو من يقوم بأعمال مثيرة، فيزعج الناس، ويعتدي عليهم بذلك. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص تخلصاً منهم. ويعلنون عن الطرد ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبوه أو ينزلوا به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملاً مؤذياً لهم.
وقد نفى أهل "الحجاز" خُلعاءهم إلى "حضوضي"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء إليه، وربما كانت هناك أمكنة أخرى في جزيرة العرب، اتخذت منفى يُنفى إليه الخلعاء عقاباً لهم.

مصير الطريد وإعلان التغريب:
الطرد أو الخلع أو اللعن أو النفي من العقوبات البدائية الموغلة في نفق التاريخ البشري. ومؤداها هو رفع كل أنواع المسؤولية القانونية المترتبة على عائلة وعشيرة الخليع والطريد من حماية طاغوت القبيلة، بسبب أن لعنتها البدائية حلت عليه، وكذلك على قبيلته إن خلعته أيضاً، فإذا ارتكب جناية صار وحده المسؤول عنها، فلا يحميه أو يدافع عنه أحد إذا أسقط أهله عنه كل ما كان عليهم من حقوق التضامن العشائري والقبلي (العصبية) تجاهه.
فإذا قُتل أو اعْتُديَ عليه فلا أحد يسأل من أهله وعشيرته وقبيلته، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون حينئذ معرضاً للقتل في أية لحظة، مطارداً من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة الذي أسقطت عنه الجنسية، لا يجد أحداً يؤويه، ولا مكاناً يقبله، خشية إلحاق الأذى بمن يفعل ذلك.
ويكون الخلع والطرد علناً، وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب أو زعيم القبيلة الذي يريد خلع ابنه، وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني أو خلعت فلان من القبيلة أو العشيرة.. فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلبه".
ويُعرَف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء، مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها، ويقال الذؤبان والضليلون.
وقد كان النفي مؤداه سلب المنفي (المطرود) لا ممتلكاته وحسب، بل وحرمانه من أي نوع من أنواع الحماية القبلية والعشائرية الشرعية أو القانونية، باعتباره خارج نطاق حمايتها في وطنه، لا لكونه لا يتمتع بأي حق من حقوق المواطنة في المنفى([10]).
والجدير بالملاحظة في هذا المقام، أن التغريب السياسي لم يجد له مكاناً في ظل الدولة الإسلامية الحديثة، بما في ذلك دولة الأئمة اليمنيين، لأنه كلما تعاظم مقدار الجماعة تضاءل شأن الأهمية التي توليها لتقصير أعضائها الذين لم يعودوا يشكلون خطراً ما، وبذات المقدار الذي كان عليه في الماضي، على المجموعة، ومن ثم، لم يعد ضرورياً طرد الجاني من كنفها، وحرمانه من السلام الذي كان يتمتع به في ظلها. ومن الجدير بالملاحظة أنه، بقيام الدولة القوية، لا يعود بوسع الانتقام العام (الثأر السياسي) أو الخاص (الثأر الفردي)، أن يطلق لنفسه العنان.


([1]) حوار مع الرئيس السابق "علي عبدالله صالح"، حاوره: محمد منصور، رصد: نبيل الضيفي، هاني جمعان، صحيفة "اليمن اليوم"، العدد 579، وتاريخ 26/1/2014.
([2]) م. س.
([3]) انظر في النجاسة بمفهومها الديني ووسائل التطهر منها. المرجع الفقهي الزيدي الهام: "المنتزع المختار من الغيث المدرار المسمى بشرح الأزهار"، لأبي حسن عبدالله بن مفتاح، طبعة 1357ه، مطبعة حجازي في مصر ومطبعة غمضان صنعاء.
([4]) انظر في المُحَرَّم (المحظور) (الممنوع) البدائي القبلي (التابو): دار كليف، بناء ووظائف المجتمع البدائي، لندن، 1952 (باللغة الإنجليزية). كذلك: "لينتون"، دراسة الإنسان، نيويورك، 1936 (باللغة الإنجليزية).
([5]) قارن إن أردت: د. ماريت، دائرة معارف الدين والأخلاق، الجزء الثاني عشر، طبعة 1921، ص181 (باللغة الإنجليزية).
كذلك: فون ويلهم، علم النفس الشعوبي، ط3، الجزء الرابع، المجلد الأول، لايبزج ألمانيا، 1920، ص398 (باللغة الألمانية)، كذا الإنسان في العالم البدائي، ط2، نيويورك، لندن، 1958، ص536 وما بعدها (باللغة الإنجليزية).
كذلك: عالم النفس الألماني: سيجموند فرويد، الأعمال الكاملة، الجزء السابق، التابو، لندن، 1940، ص26 (باللغة الألمانية)، أيضاً انظر إن أردت: أستاذنا في جامعة القاهرة، د.ثروت أنيس الأسيوطي، كتاب "الحق" وكتاب "مبادئ القانون"، ص6.
([6]) انظر كلمة "نجاسة" ومعانيها في اللغة اليمنية القديمة (المُسند) خلال "دولة سبأ" (200 قبل الميلاد إلى 275 ميلادية): ص153 من كتاب: "المعجم السبئي" (بالإنجليزية والفرنسية والعربية)، أ. ف. ل. بيستون، جاك ريكمانز، محمود الغول، والتر مولر، دار نشريات بيترز، لوفان الجديدة، مكتبة لبنان، بيروت، 1982، (منشورات جامعة صنعاء).
([7]) القصاص هو، طبقاً للسائد بين العلماء وفقهاء القانون، تعبير بدائي عن العدالة الأخلاقية، حيث ابتدعت الجماعات البدائية، إضافة إليه، نظام التخلي عن المعتدي فيصير دمه مهدوراً. [انظر: نصوص القصاص في قانون العقوبات اليمني رقم 12 لعام 1994 (المواد 50 حتى 69 منه). كذلك شروحاتنا للقانون المذكور، ومنها على سبيل المثال، كتابنا: "جرائم الاعتداء على الحياة والسلامة الجسدية في القانون والقضاء اليمني"، المقرر الأكاديمي على المستوى الثالث، كلية الشريعة والقانون، جامعة صنعاء، الطبعة الثانية 2013، دار جامعة صنعاء للطباعة والنشر.
انظر على سبيل المثال: هيلي، مقدمة لترجمة شرح قانون العقوبات لمؤلفه الإيطالي "روسي"، باريس، الطبعة الرابعة، 1872، ص16 (باللغة الفرنسية).
([8]) ذلك أن القحط الشديد في بعض الفترات التاريخية، فتت البشر إلى تجمعات صغيرة، فتعين على العشيرة أن تحافظ على القليل لديها من الرجال، فإذا أثكلت في واحد منها، لم يكن لصالحها أن تضحي بآخر، كما كان لا يتصور، في الوقت ذاته، بقاء الجاني في كنف العشيرة لما يجره ذلك من مصائب عليها فكان نفي الجاني هو الحل الملائم آنذاك. قارن: د. الأسيوطي، المرجع السابق، ص28.
([9]) وكلمة "الخليع" أو "المخلوع" في اللغة العربية، منذ الجاهلية، تعني الشخص الذي "خلعته" قبيلته أو عشيرته عنها، وتخلت عن حمايته إزاء القبائل والعشائر الأخرى، لأنه خرج عن قيم وأعراف وسلوكيات قبيلته أو عشيرته أو عائلته، وهناك مقاربة في المعنى بين "طريد القبيلة" و"الرئيس المخلوع" في المصطلح السياسي المعاصر في اليمن!
([10]) والنفي السياسي الحديث ينطوي على هذا المعنى أيضاً

الأولى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.