اول موقف من صنعاء على اعتقال الامارات للحسني في نيودلهي    انهيار مشروع نيوم.. حلم محمد بن سلمان اصطدم بصلابة الواقع    غدا درجة واحدة في المرتفعات    قضية الجنوب: هل آن الأوان للعودة إلى الشارع!    عدن تعيش الظلام والعطش.. ساعتان كهرباء كل 12 ساعة ومياه كل ثلاثة أيام    هجوم مسلح على النخبة يقوده عناصر مرتبطة بقيادة سالم الغرابي    لماذا قتلوا فيصل وسجنوا الرئيس قحطان؟    ثم الصواريخ النووية ضد إيران    حل الدولتين في فلسطين والجنوب الغربي    جروندبرغ يقدم احاطة جديدة لمجلس الأمن حول اليمن 5 عصرا    إعلان نتائج الانتخابات العراقية والسوداني يؤكد تصدر ائتلافه    تدشين منافسات بطولة الشركات لألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    الكشف عن 132 جريمة مجهولة في صنعاء    ندوة تؤكد على دور علماء اليمن في تحصين المجتمع من التجريف الطائفي الحوثي    الإعلان عن القائمة النهائية لمنتخب الناشئين استعدادا للتصفيات الآسيوية    هيئة النقل البري تتخبط: قرار جديد بإعادة مسار باصات النقل الجماعي بعد أيام من تغييره إلى الطريق الساحلي    الأمم المتحدة: اليمن من بين ست دول مهددة بتفاقم انعدام الأمن الغذائي    الحديدة.. المؤتمر العلمي الأول للشباب يؤكد على ترجمة مخرجاته إلى برامج عملية    شبوة تودّع صوتها الرياضي.. فعالية تأبينية للفقيد فائز عوض المحروق    فعاليات وإذاعات مدرسية وزيارة معارض ورياض الشهداء في عمران    بكين تتهم واشنطن: "اختراق على مستوى دولة" وسرقة 13 مليار دولار من البيتكوين    مناقشة جوانب ترميم وتأهيل قلعة القاهرة وحصن نعمان بحجة    افتتاح مركز الصادرات الزراعية بمديرية تريم بتمويل من الاتحاد الأوروبي    شليل يحرز لقب فردي الرمح في انطلاق بطولة 30 نوفمبر لالتقاط الأوتاد بصنعاء    قراءة تحليلية لنص "اسحقوا مخاوفكم" ل"أحمد سيف حاشد"    القرود تتوحش في البيضاء وتفترس أكثر من مائة رأس من الأغنام    مفتاح: مسيرة التغيير التي يتطلع اليها شعبنا ماضية للامام    من المرشح لخلافة محمد صلاح في ليفربول؟    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    إيفانكا ترامب في أحضان الجولاني    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    اليوم انطلاق بطولة الشركات تحت شعار "شهداء على طريق القدس"    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    تغاريد حرة .. انكشاف يكبر واحتقان يتوسع قبل ان يتحول إلى غضب    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    مشاريع نوعية تنهض بشبكة الطرق في أمانة العاصمة    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النجاسة السياسية في اليمن
نشر في المساء يوم 31 - 03 - 2014


(الحلقة الأولى)

الدكتور حسن علي مجلي
أستاذ علوم القانون الجنائي
فيسبوك: http://www.facebook.com/drhasan.megalli
بريد إلكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: http://hasanmegalli.com//ar/index.php

(في كتب الفقه الشرعي، النجاسات عشر، وفي اليمن أضيف إليها النجاسة الحادية عشرة، وهي "النجاسة السياسية").

تمهيد:
يرجع سبب هذه الدراسة الموجزة عن "النجاسة السياسية المرتبطة بطرد الجاني"، إلى الصراع الذي لا زال محتدماً بين الرئيس السابق "علي عبدالله صالح" وخصومه من قادة مراكز القوى القبلية والعسكرية والرأسمالية الطفيلية، الذين اشترك معهم، قبل الانقلاب عليه، في الاستبداد باليمن ونهبه.
وقد خاض الرئيس السابق المشير "علي عبدالله صالح"، ولا زال، معركة ضارية ومصيرية عادلة ضد محاولات تغريبه، أي نفيه خارج اليمن وطنه ومسقط رأسه، أكد في حوار معه:
يريدون أن يخرج "علي عبدالله صالح" من البلد، هذا وطنه، ومسقط رأسه، يخرج الآخرون، لكن هو لن يخرج.
ثم قرر جازماً:
لا، أكبر كبير وأكبر دولة في العالم، لا تستطيع أن تفتح فمها على "علي عبدالله صالح"، وتطلب منه أن يترك وطنه([1]).
وأثناء اشتداد الصراع المسلح بين مراكز القوى تلك، اقترح (أحد أولاد الشيخ المرحوم عبدالله الأحمر "صادق") أن يرحل هو و"اللواء علي محسن الأحمر" و"المشير علي عبدالله صالح الأحمر"، في طائرة واحدة، خارج اليمن، لكي ينعم الناس فيه بالسلام والأمان. وهذا أثر من آثار "طرد الجناة" وفكرة "النجاسة السياسية"، ولكن بصيغة أخرى، هي موافقة الجاني على طرده ومن معه، وليس تهجيره من اليمن قسرياً.
وفي ما يخص المهاجرين السياسيين من التنظيم السياسي التابع له (المؤتمر الشعبي العام)، والذين وقفوا في صف من يريد تغريب "علي صالح" خارج اليمن، أكد بألم:
نحن لم نخسر، بل استفدنا برحيل بعض العناصر المحسوبة على المؤتمر، بل أعتبرها "تطهيراً" للمؤتمر، القواعد "طاهرة"([2]).
ويلاحظ القارئ أن عقيدة "النجاسة السياسية" هي المسيطرة لورود كلمتي "تطهير" و"طاهرة"!
النتائج المستخلصة من هذه الدراسة عديدة. وقد أوردنا بعضاً من الشواهد التي تؤكد أن حكام اليمن القبليين والعسكريين كانوا، وما زالوا، يديرون الوطن بعقليات بدائية، وبروح جاهلية لا يستطيع أن يخفيها بريق الشعارات الزائفة، وأنهم باستثناء الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، أصحاب تفكير ذي جذور بدائية مهما تظاهروا بغير ذلك، كما تؤكد هذه الشواهد أن مفهوم الجريمة السياسي لا زال يخضع لأعراف ومفاهيم القبيلة البدائية في اليمن، وأن الذي يحكم العلاقات السياسية فيه، وخاصة بين ما نسميه تأدباً، "مراكز القوى"، بينما هو في حقيقته "العصابات الحاكمة"، هو الضحالة المعرفية والفكر البدائي الثأري القبلي، والذي أرى أن يطلق عليه "الطاغوت السياسي". حقاً، إن القبيلة لا يمكن أن تتحول إلى دولة مهما حاول زعماؤها التظاهر بغير ذلك.
فما هي حقيقة التغريب (الطرد من الوطن)؟ وما تاريخه؟ وما هو موقف الشريعة والدستور والقانون منه؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير نجيب عليه في الصفحات التالية:

مفهوم التابو:
تصور البدائيون الجريمة والتصرفات الخارجة عن أعراف القبيلة والعشيرة، نشاطاً ضاراً يؤدي إلى التلوث بالدنس الذي يلوث بدوره، فضلاً عن مُحْدث الضرر، كافة الأشخاص المحيطين به، وذلك بسبب طبيعته النجسة المُعْدية([3]).
وقد كان هذا الاعتقاد من مقومات المسؤولية الموضوعية المادية والجماعية في مجال تنظيم وضبط العلاقات بالمجتمعات القبلية والبدوية البدائية، وحماية ما ترغب في حمايته، وإحاطته بهالة من القدسية، حيث حرمت المساس به تحريماً غيبياً، ولذلك يكون الاعتقاد بأن هناك قوة خفية وأعرافاً وحشية تحمي المحرمات، وتعاقب على انتهاكها، هو حجر الزاوية في احترامها وتقديسها.
ف"التابو" هو، إذن، في أساسه: محظور بدائي قبلي أو عشائري طاغوتي... الخ، ثم صار تحريماً دينياً مرتبطاً باحترام كل ما هو مقدس، وهو يلعب دوراً أساسياً في توجيه السلوك الأخلاقي والديني للإنسان إزاء طقوس أياً كان نوعه حجر أو شجر أو إنسان أو مفهوم مجرد.

موضوع التابو:
قد يَنْصَبُّ التقديس "التابوي" على طفل معين منحدر من سلالة حاكمة، مما يؤدي إلى تفوقه على الآخرين، بمن فيهم كافة أفراد أسرته، وعلى رأس الجميع أب الطفل المقدس وأمه.
وأية محاولة لتأديب الطفل المذكور تعتبر انتهاكاً ل"التابو"، يتعرض الفاعل بسببه للعقاب الغيبي.
وقد لاحظ أحد الباحثين في بعض القبائل المعاصرة، أثناء زيارته لها، أنها تعيش حالة قلق وترقب شديدين، وكان سبب ذلك، هو أن الابن الأكبر للعائلة الحاكمة في القبيلة -وكان في ال9 من عمره- قد وقع خصام بينه وبين أبيه، قبل ذلك ببضعة أيام، فما كان من الابن إلا أن حرم على أبويه وأشقائه دخول دار العائلة، وخصصها لنفسه، ومن ثم اضطرت الأسرة إلى النزوح عن البيت، وظلت كذلك، إلى أن تَعَطَّف الولد، ورق لحالهم، ورفع الحرمان عنهم، بينما ظل هو طوال تلك الفترة، يستخدم المنزل، ويتناول طعامه فيه أو في أي مكان يتراءى له في القرية، وكان يمارس حياته باستمتاع كامل، وبسعادة، بهذا الموقف، الذي يبيح له، بحكم حيازته للقداسة، أن يفعل ما يشاء.
والخلاصة أن كلمة "تابو" تستخدم كرمز للتجريم والتحريم في المجتمعات البدائية والمتخلفة، وينصرف مدلولها، أساساً، إلى إظهار حرمة موضوع ما([4]).

أساس التابو:
"التابو"، من حيث أساسه السيسولوجي، هو محظور اجتماعي، جزاء إتيانه، يتمثل في عقاب تُوَقِّعه على المخالف، القوى الغيبية أو الكائنات الخفية المسخرة (الجن والعفاريت)... الخ، ومن يجرؤ على انتهاك الحرمات "التابوية"، يعاقب، أيضاً، نفسه، نتيجة تأثير الأرواح فيه، لدرجة تصل إلى حد إزهاق روحه بنفسه (الانتحار)، وذلك عن طريق الإيحاء السيكولوجي، فينصرف عن الأكل، ولا يذوق طعم النوم الهانئ، وتتفاقم حالته المرضية شيئاً فشيئاً، حتى يقضي نحبه.
ومن أنواع "التابو" السياسي المعاصر في اليمن، ما يطلق عليه الحكام وأتباعهم "الخطوط الحمراء" و"الثوابت" و"المصلحة الوطنية"، وهي مفاهيم مجردة ومطاطة لا حدود لها ولا مضمون إلا بمقدار ما تخدم مصالح القائلين بها والقائمين عليها.

طرد الجاني:
إن المُحَرَّم أو المحظور الاجتماعي والديني المسمى في المصطلح الأوروبي "التابو"، هو كالمرض المعدي، يصيب صاحبه بالعدوى كل من يخالطه، فإذا كان المحظور بسيطاً، أمكن التخلص من نجاسته ببعض الوسائل كالكَفَّارة، أو التطهر بالنار أو الماء والضوء، أو نقله إلى شيء معين (إحراق الشعر) أو الكي، أو القفز فوق النار في حفلات الرقص البدائي، أو بذبح الأنعام كأضاحٍ، والتي ينبغي إزهاق أرواحها بدلاً من الإنسان الذي كان مصاباً بالتلوث "التابوي"، ثم نقله إلى الحيوان، وضحى به ليفدي نفسه به.
وقد وفرت المحرمات "التابوية" حماية ضرورة للتشكيلات والقيم والقواعد الاجتماعية البدائية العشائرية والقبلية، دون حاجة إلى جهاز دولة يسن النظم ويقوم بتنفيذها، إذ يكفي أن يصير أمر معين موضوعاً للتجريم، حتى يمتلك أفراد الجماعة الخوف إزاءه، ويتجنبوه ويرهبوه، وقد يعبدونه، كنتيجة للخوف منه، أو من فرط الرجاء المعلق عليه([5]).
والإنسان أو الحيوان أو النبات أو الجماد الذي قتل عمداً، أو تسبب بالقتل خطأ، فقد ساد الاعتقاد بأنه قد تعرض، نتيجة تدخل قوى ضارة، كان مجرد وسيط لها، للتلوث، وهو ما كان يستلزم القضاء على هذه القوى، ممثلة في شخصه، بقتله، أو التخلص منها بطرده ونفيه، باعتباره وعاءً لها.
على أن النجاسة والإثم قد يكونان من الجسامة، بحيث لا تكفي وسائل التطهير العادية للتخلص منهما، فيصيب الجماعة البدائية الهلع، خوفاً على مصالحها، وخشية انتقال العدوى إلى أفرادها([6]).
وكما أن الشخص الآثم قد صار، بإتيانه المَنْهي عنه، أو الامتناع عن فعل المأمور بفعله، مركزاً للنجاسة، ومصدراً للعدوى بها، مما يتحتم معه طرده من وسط القوم، كشكل من أشكال التخلص منه، باعتباره أمسى مصدراً للخطر على حياة وأمن بقية مصالح الجماعة البدائية وقيادتها القبلية أو العشائرية أو العائلية. وهكذا نلاحظ أن الجماعات البدائية، قد اعتبرت الموصوم بالإجرام والتعدي على معتقدات القبيلة أو العشيرة أو العائلة، عدواً لها يجب التخلص منه، ومن الأشياء التي لمسها أيضاً، باعتبارها مصدراً للدنس والشر والنجاسة الاجتماعية.
ويتضح من ذلك، أن غرض الجماعة البدائية من عقوبة النفي، من حيث أساسها التاريخي، هو اتخاذ إجراء وقائي لها، بالتخلص من مرتكب المحظور الاجتماعي أو الديني أو الاقتصادي أو (السياسي)، وكل ما يتعلق به.

نبذة تاريخية:
في القانون اليمني القديم، كانت تطلق كلمة "طردن" على من يتم نفيه، وكلمة "ثيرن" على من يثير المشاكل للجماعة، كما سيلي في الصفحات المقبلة.
وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا النظام في صورة الهروب، حيث لم تكن توجد سجون يحجز الشخص (النجس) فيها، وعدو الجماعة، أو سلطة عليا ترغمه على الرحيل من وسطها، وإنما كان يُخَيَّر بين الاغتراب عنها زمناً قد يطول أو يقصر بحسب نوع الجرم، والظروف التي وقع فيها، ومحله، يعود الشخص بعدها كما كان، أو العيش منبوذاً تعيساً بين الجماعة كالحيوان العقور المريض. وفي الجرائم الماسة بالحياة (القتل العمد، القتل الخطأ، تسبيب الموت)، لم يكن يقام القصاص([7])، إذا اعتدى فرد من العشيرة على آخر منها اعتداء قاتلاً، لأن المقاصصة به من شأنها أن تتسبب في هلاك حياة عضو آخر فيها، مما يعرض قوتها للضعف، وحياتها للخطر([8]). كما أن سكوتها عن القاتل، من شأنه أن يصيب بقية أعضائها بعدوى النجاسة، من جراء انتهاك المحرم "التابوي"، فكان الحل هو التغريب أو النفي، أي تخلي الوحدة الاجتماعية عن الجاني، وطرده من كنف حمايتها.
ولدى العرب كان يسمى المُغَرَّب والمَنْفِي خليعاً([9])، وكانت النماذج الأولى للتخلص من المعتدي أو المشتبه به، لا تتم إلا بعد إجراء طقوس وشعائر، تستهدف تحقيق فصل جذري بينه وبين جماعته، كما سيلي الإيضاح.
وفي الأزمنة المغرقة في القدم، كان إذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم، واستمر مستهتراً سائراً في ارتكاب الموبقات، لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وامتناعاته، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وزعماء قبيلته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك إلى خلعه وطرده من بين أهله، معاقبة له، وتخلصاً من جرائره، ومن المسؤولية التي قد تتولد من أعماله هذه، فتجر عليهم المصائب والكوارث، وتلحق بهم الأضرار. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم، وبإشهاد شهود على ذلك حتى يُعْرف، فتسقط المسؤولية عن أهل الطريد المخلوع.
وكان يعبر أهل اليمن القديم عن الخارج على قواعد المنظومة الاجتماعية السائدة بلفظة "طردن"، أي الطريد، وهو من يقوم بأعمال مثيرة، فيزعج الناس، ويعتدي عليهم بذلك. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص تخلصاً منهم. ويعلنون عن الطرد ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبوه أو ينزلوا به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملاً مؤذياً لهم.
وقد نفى أهل "الحجاز" خُلعاءهم إلى "حضوضي"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء إليه، وربما كانت هناك أمكنة أخرى في جزيرة العرب، اتخذت منفى يُنفى إليه الخلعاء عقاباً لهم.

مصير الطريد وإعلان التغريب:
الطرد أو الخلع أو اللعن أو النفي من العقوبات البدائية الموغلة في نفق التاريخ البشري. ومؤداها هو رفع كل أنواع المسؤولية القانونية المترتبة على عائلة وعشيرة الخليع والطريد من حماية طاغوت القبيلة، بسبب أن لعنتها البدائية حلت عليه، وكذلك على قبيلته إن خلعته أيضاً، فإذا ارتكب جناية صار وحده المسؤول عنها، فلا يحميه أو يدافع عنه أحد إذا أسقط أهله عنه كل ما كان عليهم من حقوق التضامن العشائري والقبلي (العصبية) تجاهه.
فإذا قُتل أو اعْتُديَ عليه فلا أحد يسأل من أهله وعشيرته وقبيلته، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون حينئذ معرضاً للقتل في أية لحظة، مطارداً من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة الذي أسقطت عنه الجنسية، لا يجد أحداً يؤويه، ولا مكاناً يقبله، خشية إلحاق الأذى بمن يفعل ذلك.
ويكون الخلع والطرد علناً، وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب أو زعيم القبيلة الذي يريد خلع ابنه، وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني أو خلعت فلان من القبيلة أو العشيرة.. فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلبه".
ويُعرَف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء، مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها، ويقال الذؤبان والضليلون.
وقد كان النفي مؤداه سلب المنفي (المطرود) لا ممتلكاته وحسب، بل وحرمانه من أي نوع من أنواع الحماية القبلية والعشائرية الشرعية أو القانونية، باعتباره خارج نطاق حمايتها في وطنه، لا لكونه لا يتمتع بأي حق من حقوق المواطنة في المنفى([10]).
والجدير بالملاحظة في هذا المقام، أن التغريب السياسي لم يجد له مكاناً في ظل الدولة الإسلامية الحديثة، بما في ذلك دولة الأئمة اليمنيين، لأنه كلما تعاظم مقدار الجماعة تضاءل شأن الأهمية التي توليها لتقصير أعضائها الذين لم يعودوا يشكلون خطراً ما، وبذات المقدار الذي كان عليه في الماضي، على المجموعة، ومن ثم، لم يعد ضرورياً طرد الجاني من كنفها، وحرمانه من السلام الذي كان يتمتع به في ظلها. ومن الجدير بالملاحظة أنه، بقيام الدولة القوية، لا يعود بوسع الانتقام العام (الثأر السياسي) أو الخاص (الثأر الفردي)، أن يطلق لنفسه العنان.


([1]) حوار مع الرئيس السابق "علي عبدالله صالح"، حاوره: محمد منصور، رصد: نبيل الضيفي، هاني جمعان، صحيفة "اليمن اليوم"، العدد 579، وتاريخ 26/1/2014.
([2]) م. س.
([3]) انظر في النجاسة بمفهومها الديني ووسائل التطهر منها. المرجع الفقهي الزيدي الهام: "المنتزع المختار من الغيث المدرار المسمى بشرح الأزهار"، لأبي حسن عبدالله بن مفتاح، طبعة 1357ه، مطبعة حجازي في مصر ومطبعة غمضان صنعاء.
([4]) انظر في المُحَرَّم (المحظور) (الممنوع) البدائي القبلي (التابو): دار كليف، بناء ووظائف المجتمع البدائي، لندن، 1952 (باللغة الإنجليزية). كذلك: "لينتون"، دراسة الإنسان، نيويورك، 1936 (باللغة الإنجليزية).
([5]) قارن إن أردت: د. ماريت، دائرة معارف الدين والأخلاق، الجزء الثاني عشر، طبعة 1921، ص181 (باللغة الإنجليزية).
كذلك: فون ويلهم، علم النفس الشعوبي، ط3، الجزء الرابع، المجلد الأول، لايبزج ألمانيا، 1920، ص398 (باللغة الألمانية)، كذا الإنسان في العالم البدائي، ط2، نيويورك، لندن، 1958، ص536 وما بعدها (باللغة الإنجليزية).
كذلك: عالم النفس الألماني: سيجموند فرويد، الأعمال الكاملة، الجزء السابق، التابو، لندن، 1940، ص26 (باللغة الألمانية)، أيضاً انظر إن أردت: أستاذنا في جامعة القاهرة، د.ثروت أنيس الأسيوطي، كتاب "الحق" وكتاب "مبادئ القانون"، ص6.
([6]) انظر كلمة "نجاسة" ومعانيها في اللغة اليمنية القديمة (المُسند) خلال "دولة سبأ" (200 قبل الميلاد إلى 275 ميلادية): ص153 من كتاب: "المعجم السبئي" (بالإنجليزية والفرنسية والعربية)، أ. ف. ل. بيستون، جاك ريكمانز، محمود الغول، والتر مولر، دار نشريات بيترز، لوفان الجديدة، مكتبة لبنان، بيروت، 1982، (منشورات جامعة صنعاء).
([7]) القصاص هو، طبقاً للسائد بين العلماء وفقهاء القانون، تعبير بدائي عن العدالة الأخلاقية، حيث ابتدعت الجماعات البدائية، إضافة إليه، نظام التخلي عن المعتدي فيصير دمه مهدوراً. [انظر: نصوص القصاص في قانون العقوبات اليمني رقم 12 لعام 1994 (المواد 50 حتى 69 منه). كذلك شروحاتنا للقانون المذكور، ومنها على سبيل المثال، كتابنا: "جرائم الاعتداء على الحياة والسلامة الجسدية في القانون والقضاء اليمني"، المقرر الأكاديمي على المستوى الثالث، كلية الشريعة والقانون، جامعة صنعاء، الطبعة الثانية 2013، دار جامعة صنعاء للطباعة والنشر.
انظر على سبيل المثال: هيلي، مقدمة لترجمة شرح قانون العقوبات لمؤلفه الإيطالي "روسي"، باريس، الطبعة الرابعة، 1872، ص16 (باللغة الفرنسية).
([8]) ذلك أن القحط الشديد في بعض الفترات التاريخية، فتت البشر إلى تجمعات صغيرة، فتعين على العشيرة أن تحافظ على القليل لديها من الرجال، فإذا أثكلت في واحد منها، لم يكن لصالحها أن تضحي بآخر، كما كان لا يتصور، في الوقت ذاته، بقاء الجاني في كنف العشيرة لما يجره ذلك من مصائب عليها فكان نفي الجاني هو الحل الملائم آنذاك. قارن: د. الأسيوطي، المرجع السابق، ص28.
([9]) وكلمة "الخليع" أو "المخلوع" في اللغة العربية، منذ الجاهلية، تعني الشخص الذي "خلعته" قبيلته أو عشيرته عنها، وتخلت عن حمايته إزاء القبائل والعشائر الأخرى، لأنه خرج عن قيم وأعراف وسلوكيات قبيلته أو عشيرته أو عائلته، وهناك مقاربة في المعنى بين "طريد القبيلة" و"الرئيس المخلوع" في المصطلح السياسي المعاصر في اليمن!
([10]) والنفي السياسي الحديث ينطوي على هذا المعنى أيضاً

الأولى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.