بعض الناس تدعوك أخلاقهم للتعبير عن محبتك لهم تلقائيا في أكثر من موقف، وتشعر أن ما تشعر به نحوهم يحمله ناس كثيرون يشاطرونك الشعور نفسه وربما يفوقونك فيه، ومن هؤلاء الأستاذ عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي الذي ما أحاط به حب الناس إلا لأنه من القلائل الذين أبدوا نصاعة في لطف المعشر وجميل الخصال حتى يشكرك الآخرون على ما أسديت من عرفان، كأنما أديت عنهم واجبا معينا كان يجب أن يقولوه. وأظن أن أية كلمة صادقة تقال في رجل صادق تستحق الحفظ كجزء من الخارطة النفسية الوضاءة لعلاقات المحبة بين الناس لاسيما من خلال يوميات أكثر تفصيلا وجمالا يمكن أن يقدمها أناس آخرون وبما يجعل الذات الاجتماعية واعية بوجودها الجميل، بل إنه شاع في العصور الأدبية السابقة فن عرف ب (الإخوانيات) يعبر فيه الأدباء عن علاقات المودة فيما بينهم تضاءل وجوده أو انعدم في الأدب المعاصر، كأن الإنسان يتطور في كل شيء إلا في طبيعة علاقاته الاجتماعية الإنسانية. وقد عرفنا من أخلاق الأستاذ عبدالرحمن أطال الله في عمره كيف يجب أن تكون العلاقات الاجتماعية، إذ مازال -وقد بلغت به الشيخوخة- لا يفتر عن مواصلة أحبائه في المكلا وزيارتهم، وكم طالت بنا معه الجلسات الجميلة على شاطئ الخور أو في مقر اتحاد الأدباء أو في بيتهم في با جعمان مما لا يقوم به الكثير من القادرين على القيام بتلك الواجبات، بل إنه يلبي إن عرضت عليه فكرة السفر في رحلة علمية أو ترفيهية إلى داخل الوطن أو خارجه، وقد زاملته في رحلة إلى سيئون في عام 2010م مع الزملاء الدكاترة سعيد الجريري وعبدالله الجعيدي وخالد بلخشر لحضور ندوة العلماء الربانيين فشعرت معه بحميمية العلاقة كأنما نحن معه في صلاة طيلة الرحلة لصفاء إنسانيته وتمتعه بمعنويات نفسية عالية في إيقاع سلوكي منسجم قلما تكدر صفوه تعرف منه أن الرجل خبر الحياة فانعكست في تجربته حصافة عقل وغزارة معرفة ورؤية ثاقبة للأمور ومستقبلها، ولا أظنه بهذا يغيب عن الروح الجماعية لأي جماعة تعاشرت معه أو يمحى من ذاكرتها إذ يغدو ومن يعاشرهم شيئا خاصا بسبب هذا الإيقاع الذي لا يسمح له عبدالرحمن الملاحي أن يذهب نشازا. وقد عاشرته مع زملائي في اللجنة العلمية التي شكلت من لدن الدكتور عمر عبدالله بامحسون بمناسبة إعلان تريم عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2010م فكنا كورسا واحدا يعزف أغنية واحدة على نياط حضرموت وتريم في وتر اللوعة منها وهم: عبدالرحمن الملاحي.. د.عبدالله باحاج.. د. عبدالله الجعيدي.. د. سعيد الجريري.. د. رزق الجابري.. أ. عبداللاه هاشم.. أ. صالح الفردي وكاتب هذه السطور، حتى إذا ما استذكرت بمفردي تلك اللحظات لا أستطيع استذكارها إلا في إطارها الجماعي الملتحم كضوء خاص ينير القلب، والتقط شفاه الكلمات والنكات والآراء والمقترحات كما لو كانت تقال الآن. إن عبدالرحمن الملاحي وقد داهمته جلطة دماغية وصار بعافية منها الآن والحمد لله سيظل يفكر كأي كاتب عظيم في مشروع كتاب قادم أو رؤية قادمة يضمنها بحثا ما، فهو في نشاط دائم لا من أجل نفسه بل من أجل حضرموت والتعريف بحضارتها الملاحية والفلكية والجغرافية والتاريخية والفنية والانثروبولوجية، وقد أضنى نفسه في سبيل هذا فحق لكل وفي لحضرموت وله مواساته والاطمئنان عليه، وإن تخلى عنه أحد فما هو بعاتب عليه ذلك لأنه تحلى بروح الأنبياء في إخلاصه وصبره الذي عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى ((ويا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله)) واللافت أنه كلما تقدم به السن ازداد نشاطا في الكتابة كمعلم ثقافي كبير في واقعنا المعاصر رغم ما تشهده الكتابة من لحظات تفكير مدمرة للجسد لا يفقه معاناتها الكثيرون بحيث لا يكاد الكاتب يضع النقطة الأخيرة في مشروع ما حتى يبدأ بالتفكير في مشروع معاناة جديدة (كتابة جديدة) مصحوبة بلذة روحية تساكنه فلا يستطيع منها فكاكا كمن يقف على حافة الهاوية، ورغبته في أن يطير. لقد مس عبدالرحمن الملاحي في كتابته عصب حضرموت ونبهه في أكثر من مرة ولكن يبدو أنه بدوره عصب مصاب بجلطة تاريخية فبينما تأخذنا كتابات الملاحي وغيره نحو التبصر والمعرفة نأخذها نحن بعدم اكتراثنا وعدم تفاعلنا نحو السكون كأن البحر العربي الذي نقف على ضفافه لا يعلمنا الحياة والتجدد والهدير، أو أن البحر بدوره غدا فارغ المحتوى سواء كان ماء أو علما. وفي صمت الملاحي مؤقتا عنا الآن عتاب لنا، وفي صمتنا نحن عن قراءة كتبه عتاب لنا، وفي جسد الملاحي (الجسد الكاتب) الذي يبدو لنا الآن جسدا آخر ممددا فوق سرير العناية المركزة سيستعيد معجزته ونشاطه إن شاء الله، ومع أنني كلما زرت غرفة العناية المركزة بدت لي أشبه بزنزانة تحتجز سجينا قبل إعدامه بدا لي الأمر مع عبدالرحمن الملاحي شيئا مختلفا فثمة تواصل أكبر مع الحياة سره الكتابة حيث لا يعتكف فيها الكاتب إلا كما يعتكف العابد في محرابه ليزداد موجدة وتبتلا. أود أخيرا أن أشير إلى أنه يروق لبعض الزملاء إلحاق الملاحي بجيل الرواد، والرائد مؤسس ومبدع، غير أننا ومنذ أن غادرنا الرواد نعيش اللحظة الخلاسية وهي ذات تفسيرين متضادين إما أن تكون لحظة تحول باتجاه إنجاز الجديد وإما أن تكون لحظة افتقاد الألوان والتشكل ولعلنا على أحسن الأحوال نعيش ثنائية الحضور والغياب كما يقول التفكيكيون ونأمل بناء على رؤيتهم أن يكون لهذا الغياب حضوره الأجمل. لقد تأثر الملاحي بكثير من وجهات نظر الرواد وآرائهم لكنه كان مستقلا عنهم بكتابته الخاصة لاسيما في الانثروبولوجيا وكان صوته لا يخلو من تفرد في كثير من القضايا الأخرى التي ناقشها بناء على ما طرأ على الحياة والفكر من تطور وبناء على توافر لديه من قراءات تراكمية، ويعود توافقه معهم وافتراقه عنهم إلى عدد من الأسباب نجملها في الآتي: 1- اشتراكه معهم في هم واحد أو موجه رئيس هو النهوض بحضرموت وثقافتها. 2- ميله إلى إحداث مقاربات كتابية مع تآليفهم. 3- رغبته الخاصة في التميز والبحث عن المستجد فكرا ومنهجا بناء على العصر. 4- مرور البلد بتحولات سياسية سريعة ومتغايرة، كمراحل انتقالية غير مستقرة خلال الثلاثين سنة الأخيرة. ومن خلال ذلك يكشف عن وعيه الخاص الذي نأمل له أن يعيد تنشيطه وقد بدأت ملامح العافية تعود إليه.