الوطن هو تلك الأرض التي ينعم الناس عليها الناس بالأمن والطمأنينة، ويعيشون على ظهرها تغمرهم حياة الراحة والهدوء، فهل لا يزال الوطن يحمل تلك المعاني؟، هل حياتنا تبدو كالحيوات السابقة التي عاشها من قبلنا؛ حيوات متحركة رفافة ؟ لست أبتغي بإيراد هذه التساؤلات المرة أن أبذر اليأس في النفوس، أو أعمم الخوف على قلوب الخائفين أصلاً، أو أن أقلل أو أُنقص جهوداً جبارة تستميت في توفير الأمن بما أوتيَت من إمكانيات باتت متواضعة بل وهزيلة أمام عدو خفي قد أتقن أساليب الخداع والمكر والتخفي. لا أدري إلى متى ونحن ننتظر من يصنع لنا الحياة الآمنة، لقد استغرقنا في ذالكم الانتظار والتلهي ولم نحرك ساكناً، تماماً كالخراف القابعة في زريبة تنتظر العشب والكلأ والشراب والأمن والمأوى ولا تدري أن سكين الذبح لها بالمرصاد، إذاً فأين الوطن الحقيقي ونحن نرى كل يوم دماءنا تُستباح، وأعراضنا تُنتهك، وأخيارنا يُغيَّبون قسراً، إن الذين لا يحركون ساكناً تجاه كل ذلك إنما يستهينون بالوطن نفسه. من ينظر لواقعنا يجد أن ليس لنا من عمل سوى أن نجلس على قوارع الطرقات نتناقل الأخبار، ونحيك خيوط الأحداث والشواهد، ليستدل من أفعالنا الصغيرة هذه على صغر نفوسنا وموت إيجابيتنا بجلب منافع أكبر من تناقل الأخبار ورؤية الرائح والغادي وتشجيع الجنازات أو البكاء في أحسن الأحوال في وضعية القرفصاء عند سماع خطبة الجمعة لتذكرنا بأحداث لم نفعل إزاءها إلا الصمت ومزيداً من السكوت. وإذا كان محتوماً علينا أن نعيش حياة يملأها الخوف والظلام فإننا نتحمل جزءاً كبيراً من المسئولية أو التبعة التي أوصلتنا إليها تلك الحتمية، فلا شيء يحدث دون سبب، فالله سبحانه وتعالى يقول : ( فليعبدوا ربَّ هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف )، فإن ضَعُفت العبادة وهَزُل اليقين فلا أمن ولا شبع حينئذٍ، بل فقر وجوع وخوف وهلع، معادلة عادلة طالما غابت عن أذهاننا ولم يفكر بها أحدٌ منا في زحمة التكالب على الدنيا، " إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل، إنه يعلمنا أولاً أن عبادة الله الدائمة والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها. ويعلمنا ثانياً أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلاً ما دمنا نقسّم حياتنا إلى قسمين اثنين: حياتنا الروحية، وحياتنا المادية. يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا لتكون ( كُلاً ) واحداً متسقاً. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا في التوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا"، ولما غابت للأسف تلك المعاني من حياتنا أًصبحنا نستشعر هيمنة الخوف على مفاصل معيشتنا، وأمسينا نرى أحبابنا وقد اغتالتهم في قارعة الطريق قوى الظلام والبغي، ولم نفعل إزاء ذلك إلا أن نمعن في بقائنا على هامش الحياة نحتسي مزيداً من الذل، ونلوك بأفواهنا ما يجعل التاريخ والأجيال القادمة تضحك من أفعالنا ( يا أمة ضحكت من عجزها الأمم ) .