مقدمة : كتبت ونشرت هذه المقالة في مجلة سلامتك العدد السادس يناير 2010م وأعيد هنا نشرها مجدداً بعد الحادث المرير الذي أن تفاجأ فاجئ سكان بمدينة المكلا مساء أمس وعند الساعة السابعة وثلث تقريبا بحادثة قتل أليمة لم يتوقعها أحد ، استهدفت بائع كيك حضرمي يدعى عبد الله محمد عبدون ، من قبل رجل يعاني من حالة نفسية .. مدخل : يسيرون بيننا في الشارع .. يثيرون الخوف والفزع بوجوههم الحادة وملابسهم البالية الممزقة وأصواتهم المرتفعة .. إنهم مجانين الشوارع .. قنابل مؤقتة جاهزة للانفجار في أي وقت . فاجئني جار لي قبل شهر، طالباً أن أسدي له خدمة، فقلت: كم أنا سعيد أن أخدم جاري.. حينها لم أكن أتوقع أن يكون الطلب خارجاً عن المألوف..! طلب جاري أن أساعده في استخراج شهادة طبية تثبت أن أحد أبنائه يعاني من مرض نفسي أو عقلي ، سألته عن الحكمة من ذلك؟ أجاب وكأنه يلقي نكته قائلاً : تصور أن أبن المجنونة اعتدى على أستاذه في الكلية، وتم توقيفه عن الدراسة، وقد نصحني بعض الفاهمين بخفايا الأمور أن الحل الوحيد لعودته للدراسة هو استخراج شهادة طبية تثبت أنه يعاني من مرض نفسي أو عقلي..!!. تسمرت أمام الطلب ثم (فكرت ونجمت كثيراً) لكني في الأخير اعتذرت بدبلوماسية .. وبعدها بأيام صادفته في الشارع، فسألته من باب الفضول، عن أخبار أبنه وهل من جديد في – جنونه – أقصد موضوعة ؟!! قال والفرحة تعلوا محياه : الحمد لله..أنهينا الموضوع وجبنا له شهادة طبية من اختصاصي نفساني وقد أعادوه لمواصلة الدراسة !!.. فقلت له مجاملاً: والله صدق بوحضرم يوم قال: (عقل يحنبك وغرام يفك عليك)، ولم يسعه إلا الضحك بنشوة المنتصر .. تدحرج هذا المثل على (لساني) وأنا أحمل بداخلي أكثر من علامة استفهام عن هذه ( الصفطة ) اللااخلاقية.. وماذا عسانا أن نقول في هؤلاء المجانين الرسميين – إن جاز- التعبير أو قل ماذا عسانا أن نقول في مثل أولئك الأطباء اللذين يشهدون زوراً !!. صحيح أن الأطباء النفسانيين أقل حظاً من غيرهم من أصحاب الاختصاصات الأخرى من ناحية تزاحم المرضى على عياداتهم، وقلة الدخل المادي لأسباب عدة، منها على سبيل المثال: قلة ثقة أهالي المرضى في الطب النفسي واعتمادهم على الطب الشعبي والشعوذة، وابيضا لآن البلاد عبارة عن عيادة كبيرة لأصحاب الحالات النفسية والعقلية، يسرحون ويمرحون بلا راعي يتابع علاجهم، منفصلين عن أهليهم وذويهم وكأنهم كلاب سائبة ( وحتى الكلاب السائبة نجد من يكافحها أحياناً )!!.. اعتقد – وهذا من وجهة نظري طبعاً – أن الطب النفسي في حضرموت سيكون له اعتبارا في حالة أنشأت الدولة مستشفى أو مصحة اختصاصية للحالات النفسية لخدمة المرضى النفسانيين الحقيقيين وليسو من هم مثل (ابن جاري).لآني لا اعتقد أن هذه الفئة من المجانين تعاني من مشاكل نفسية أو عقلية أكيدة، وإنما أراهم يتعمدون استخراج هذه الشهادات الطبية ليتهربوا من مسؤولياتهم تجاه وظائفهم أو لينجوا من عقوبة جراء تصرف مشين، أو ليجعلوا تلك الشهادة قناع يختفون خلفه وقت الحاجة!! وما أكثر هؤلاء في مجتمعنا. على الرغم من أن المجتمع لا يتجاهل مجمل الأسباب الرئيسية للجنون – كما صنفت – وهي ظروف المجتمع والضغوط الضخمة التي يتعرض أفراده لها، مما تجعل الاستعداد المرضي يتحول إلى مرض فعلي. وللأسف الأزمات الطاحنة التي يمر بها المجتمع من بطالة وعنوسة وفقر وغلاء لا تترك أثارها المادية الملموسة فقط ولكنها تترك أيضاً أثاراً نفسية فهي تؤثر على الخصائص البشرية في المجتمع وتعرض أفراده لاستهلاك أعصابهم وطاقاتهم النفسية، وفقد ترى البعض منهم يفعل بعض السلوكيات الغريبة كأن يجري في الشارع ويقهقه لسبب ما .. لا يعلمه سواه أو أن تجد أخر في فرزة الباصات ينظم حركة الفرزة بعصاه يهش بها الركاب، وقد يتسول بجنون، وثالث يقف ويتقمص دور شرطي المرور وينظم حركة المرور ويعطي تعليماته للسيارات. ربما يضحك البعض منهم، ولكن المؤكد أن الجميع يتعاطف معهم، بل كثير منا يسأل نفسه هل سنفقد نحن أيضاً عقولنا في يوم ما بسبب تلك الحياة الصعبة والقاسية التي اصبحنا نحياها. وعلى الرغم من كل تلك النظريات سوى صحت أو لم تصح، فأن الاستغناء عن رعاية أي فئة من الفئات الأكثر احتياجا للرعاية والحماية يعرض المجتمع لأضرار بالغة، فهذه الفئة قد تضر بنفسها أو بالمحيطين بها، كما أنها قد تتعرض للاستغلال وتتورط في أمور أكثر سواءً كاستخدامهم في التجارات المشبوهة كالمخدرات والسلاح.. وحتى القتل ايضا !!..ووجود هؤلاء المرضى في الشوارع شي في منتهى الخطورة عليهم، وعلى المجتمع .. فالمريض العقلي ( الوكالة وليس التقليد ) شخص مغيب وغير مسؤل لا عن أفعاله ولا تصرفاته، فهو قد يؤذي المارة وقد يلقي بنفسه تحت سيارة أحدهم، وهو في ذلك غير ملام عن أي شي يفعله لأنه غير مسئول عن أفعاله تلك. ولا ندري إلى متى تتجاهل سلطتنا المحلية حاجة المحافظة إلى إنشاء مستشفى اختصاصي لعلاج الحالات النفسية والعصبية أو حتى مصحة تعالج وترعى هذه المجاميع من مجانين الشوارع ؟.. ولماذا حتى هذه اللحظة لم تفكر السلطة المحلية في إيجاد الحلول حتى المؤقتة لمعالجة هذه الظاهرة المتفاقمة ؟،هل لأن السلطة تعرف أكثر مما يعرف الجميع، عن حقيقة ظاهرة انتشار المجانين بكثرة في شوارع وحواري مدينة المكلا، وأنهم لا يمثلون أي خطر على المجتمع !!..أو أن السلطة مقتنعة كل الاقتناع أن حالة الجنون هذه أصبحت ظاهرة عامة ورقماً صعباً.. يصعب السيطرة عليه، بعد أن أصبحنا نعيش في مجتمع لا يوجد به إلا عاقل واحد في كل حارة وهو ( عاقل الحارة )، والبقية من وجهة نظرهم للأسف مجانين؟!!.