في نفير شعبي واسع.. أبناء الجوف يؤكدون: "القرآن خط أحمر وفلسطين قضيتنا الأولى"    حراك أمريكي داخل أروقة الإدارة الأمريكية بشأن اليمن والجنوب    قانوني يشكك في دستورية مجلس القيادة ويتساءل: كيف يطالب العليمي بالدستور وهو بلا سند دستوري؟    عشر سنوات من الوجع.. شهد تبحث عن أبيها المخفي في سجون الحوثي    نخب الإعاشة في الخارج.. خطاب تعالٍ يكشف انفصالًا عن معركة وطنهم    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    معلومات حول الجلطات في الشتاء وطرق الوقاية    عودة الأسعار للارتفاع يا حكومة    مع استمرار صراع ادوات المرتزقة..مدن الجنوب بلا خدمات    غدا الحرارة درجة في المرتفعات    عبد الرزاق حمد الله يعتزل اللعب دوليا بعد قيادة المغرب للتتويج بكأس العرب    عقوبات أمريكية على الإخوان المسلمين    بن حبتور يكشف عن السيناريو في المناطق الجنوبية والشرقية    البنجاك سيلات يستعرض الصعوبات التي تواجه الاتحاد    تدشين صرف إعاشة أسر الشهداء والمفقودين ب 3.6 مليارات ريال    وزير سابق: تراجع اهتمام واشنطن بالملف اليمني وتعيد النظر وفقا لوقائع الأرض    معركة السيادة في عصر الاستلاب الفكري"    تفجير تعز.. قيادات إصلاحية تربوية تدفع ثمن مواقفها الوطنية    خبير في الطقس: برد شديد رطب وأمطار متفرقة على عدد من المحافظات    هجوم جوي يستهدف قوات الانتقالي في حضرموت    ميرسك تعبر البحر الأحمر لأول مرة منذ عامين وتدرس عودة تدريجية    تقرير أممي: ثلثا اليمنيين يعانون انعدام الأمن الغذائي ومعدلات الجوع تسجل ذروة غير مسبوقة    تقرير أممي: تصعيد الانتقالي في حضرموت أجبر آلاف الأسر على الفرار والنزوح    قيادة السلطة المحلية بالبيضاء تنعي حاتم الخولاني مدير مديرية الصومعة    شرطة المرور تعلن إعفاء أكثر من ثلاثة ملايين مخالفة مرورية    قراءة تحليلية لنص "نور اللحجية" ل"أحمد سيف حاشد"    مهرجان ثقافي في الجزائر يبرز غنى الموسيقى الجنوبية    معارك ليست ضرورية الآن    أمطار شتوية غزيرة على الحديدة    الموسيقى الحية تخفف توتر حديثي الولادة داخل العناية المركزة    "المحرّمي" يُعزِّي في وفاة السفير محمد عبدالرحمن العبادي    الأرصاد تتوقع أمطارًا متفرقة على المرتفعات والهضاب والسواحل، وطقسًا باردًا إلى بارد نسبيًا    بالتزامن مع زيادة الضحايا.. مليشيا الحوثي تخفي لقاحات "داء الكلب" من مخازن الصحة بإب    الأوبئة تتفشى في غزة مع منع دخول الأدوية والشتاء القارس    "أسطوانة الغاز" مهمة شاقة تضاعف معاناة المواطنين في عدن    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    الحبيب الجفري يحذّر من تسييس الدين: الشرع ليس غطاءً لصراعات السياسة    أزمة خانقة في مخابز عدن.. المواطن يعاني والانتقالي يبيع الأوهام    الذهب يسجّل أعلى مستوى له في التاريخ    كأس ملك اسبانيا: تأهل اتلتيك بلباو وبيتيس لدور ال16    المغرب يتوج بطلاً لكأس العرب بانتصاره المثير على منتخب الاردن    انعقاد الاجتماع الفني لبطولة مديريات محافظة تعز - 2026 برعاية بنك الكريمي    الحرية للأستاذ أحمد النونو..    السبت .. انطلاق سباق الدراجات الهوائية لمسافة 62 كم بصنعاء    تجار تعز يشكون ربط ضريبة المبيعات بفوارق أسعار الصرف والغرفة التجارية تدعو لتطبيق القانون    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    بين الاعتزاز والانسلاخ: نداءُ الهوية في زمن التيه    شرطة أمانة العاصمة تكشف هوية الجناة والمجني عليهما في حادثة القتل بشارع خولان    اتحاد كرة القدم يعلن استكمال تحضيراته لانطلاق دوري الدرجة الثانية    روائية يمنية تفوز بجائزة أدبية في مصر    صباح عدني ثقيل    تحرير حضرموت: اللطمة التي أفقدت قوى الاحتلال صوابها    صباح المسيح الدجال:    مأرب.. السلطة المحلية تكرم فريق نادي السد لكرة القدم بمناسبة الصعود لدوري الدرجة الثانية    تأكيداً على عظمة ومكانة المرأة المسلمة.. مسيرات نسائية كبرى إحياء لذكرى ميلاد فاطمة الزهراء    جوهرة الكون وسيدة الفطرة    بدعم سعودي.. مشروع الاستجابة العاجلة لمكافحة الكوليرا يقدم خدماته ل 7,815 شخصا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نساء اليمن.. ومغاني التَمنّي في زمن العشق
نشر في نبأ نيوز يوم 03 - 10 - 2007

لم يكن التمني يوماً محض احتراف عصر بذاته ، أو شريحة دون سواها ، فديدن البشرية الأماني ، وبلسم الجزع تعليل النفوس بالأمل.. ويقيناً لم تكن المرأة اليمنية قديماً بمنأى من العوز وسؤال تلبية الرغبات. فمهما كان عالمها بسيطاً متواضعاً ومحدد الآفاق ، لم يكن بمقدور أيا كان أن يتنكر عليها حقها في وصال ما لم تطوله يداها، فبحجم عالمها الصغير كانت تلوذ بنفسها إلى كل لحظة سكون، وموضع استرخاء ، تطلق العنان لذهنها لينسج خيالاته، ويرسم ملامح صبحه، ويغزل أهداب الشمس أمنيات صغيرة لا تتعدى أن تكون بضع تفاعلات يوميه قد تذهب وتجئ من حين لآخر ، أو قد ترافقها كالقدر من غير رجاء لبلوغ مراميه .
من يتصفح أوراق المرأة اليمانية في زمانها المنضوي تحت الأديم ، لا بد أن يرق لحالها ، وينشدّ إلى عالمها بشيء من الذهول تارة، والتعاطف تارة أخرى. فتلك الجبارة المكابرة على قهرها كانت تصنع الحياة بإرادة لا تثنيها خطوب أو تعترض فعلها ظروف أو يوقف عطاؤها حرمان فلا نظنها إلاٍّ كانت تحمل وطناً متعباً على كتفيها من غير أن يزهقها وزنه عن الأنحاء نحو الأرض وغرس عيدان الأمل على امتداد خط سيرها صوب منتهاها الأخير ، فلم تزل على يقين بالركب يتعقب خطاها ويتوجس ظلاً يتفيأ فيه حين زحمة الولادات ، وهول النوائب والخطوب .
فيا ترى كيف لمثلها اختراق مسامات الصخور بنبضات العشق والغرام، وبهمسات الساهدين في ليل الأريب..! ويا ترى أي الأماني تورق في صدور لا تعرف غير اللهاث خلف عقارب ساعات النهار والليل ؟
ربما كان علينا أن نعيش زمانها حتى يفشي وجودنا أسرار صنعة الحياة بأنامل تلك اليمانية العظيمة .
ومع أنها ارتحلت منذ أمد بعيد لكن مازال بمقدورنا تصفح بعض أوراق مفكرتها، وقراءة بعض أحلامها التي غزلتها في زحمة عنائها.. ولا نظنها ستأمل الكثير من الدنيا التي ظنت عليها حتى بشربة الماء لتجعلها تكابد ما تكابد حتى تبلغ موضعه وتعود بشيء منه لصغارها .
فهي لم تكن لتحلم بأكثر من راحة البال بقليل من الحرية التي تمتلك بها إنسانيتها لبعض الوقت ، فقد أظنتها الرجولية الصارمة ، التي لا تتوانى عن إقحام فحولتها بصغائر الأمور ، حتى باتت اليمانية تحمل أمنيتها المتواضعة إلى البراري وتتغنى قائلة :

يا رَيْتَني وَرْدَة في مَدْرَب السَّيْل
لا حَدْ يُقُولْ لي لاشَرَق ولا لَيْل
يارَيْتَني وَرْدَة في راسَها شَوْك
مَنْ عَسَّها غَيْري جَعَل له المَوْت

لقد حكمت تقاليد القبيلة وعادات المجتمع الجاهل على المرأة بشتى ألوان الأحكام الجائرة وداوم العرف الاجتماعي على فرض وصايته المطلقة عليها منذ نعومة أظافرها وحتى كهولتها ، وضرب عليها طوقاً من العزلة القاهرة والسقيمة، فباتت ترى العالم كله ليس أكثر من بضع عشرات بيوت متهرئة تتناثر هنا وهناك ، وجملة أشجار مشوكة تحتضر بين أقدام الجبال ، ووجوه حفظت ملامحها منذ الصغر رغم علمها أن مازالت في العالم بقية فسيحة غير متناهية ترويها حكايات الآباء والأجداد كما لو كانت محض علم من غيوب اللاهوت.. وهكذا وجدناها تتمنى قرع أبواب ذلك الكون الفسيح ولو من بعيد، فتورد في مغناها :

رَيْت والله مَنْ عَمَّر في السَّماء ويارَيْت
يبْسِر السّارِحي والجِي والحَيْ والمَيْت

كانت أمانيها بسيطة للغاية ومشروعة أيضاً ، فهي تناضل من خلالها لتتنفس الصعداء من خارج عنق القمقم الذي احتبست فيه طوال حياتها ، وكانت في أحيان كثيرة تقاوم أحساس الغربة والوحدة الموحشة التي تداهم صدرها من حين لأخر حتى أننا نراها تتمنى أن تكون على جوار دائم ممن تحفظ ودهم فهذه إحداهن فاض بقلبها الشوق لابنتها التي تزوجت على مرمى مسافة بعيدة منها، بعد أن كانت تملأ عليها حياتها وتعينها في كل أمورها ، فتسمعها تتغنى منشدة :

يا رَيْت والبِسْتان يَقْرَب شُوَيَّه
مِنْ مَيْد امَة الرَّزاق تِجي هِنَيَّه

وربما وجدت إحداهن في وقوفها بين أكاليل الشجيرات الخضراء اليانعة ، وزقزقة العصافير من حولها ، وابتسامات الموسم الواعد بالخير الوفير ، ما يملأ فؤادها نشوة وفرحاً كما لو كان عنواناً لدنيا مختلفة، فصارت تنشد :

نَزَلِت للوادي لا بَيْن الأشْجار
يا رُوحي الغالي يا لَيْت مَنْ طار

أن الرغبة الجامحة عند المرأة اليمنية للتحليق ليست سوى استدعاء لمطلب الحرية، وترجمة لنزعة ملحة في نبذ أسمال الحرمان وانتزاعها للأبد.. وهو أمر لا يعدله ثمن، أو يضاهيه مطلب حتى أنها تقول:

يا رَيْت مَنْ يَمْلُك جَناح جَرادَة
لا صُوم سَنَه واحَرُّم الزَّواجَه

ولا شك أن رفقة البنت لأمها طوال النهار ومشاركتها نصيب الهم والشقاء كان قد عمق وشائج الارتباط بين الاثنتين ، وأورث الشفقة على الأم المكافحة مما كانت تكابده في يومها وتتلمسه الفتاة بمرارة وانتفاض رغم أنها كانت تنقل أقدامها الطرية إلى الموضع ذاته، والعناء بعينه، وهو الأمر الذي جعل الأم موضوعاً لأغاني التمني عند النساء ، حتى أن أحداهن أنشدت :

يا والِدَة يا مَسْبَلي وَجيمَه
عَيَجْعَلِش في الجَنَّة النَّعيمَه

أو كما ورد في مغنى امرأة أخرى :

قدْ أذَّن المَغْرِب وَنا تِدَعَّيْت
لا غَيَّبِشْ يا والِدَه مِن البَيْت

أما الأم فهي أيضاً غير بعيدة عن الدعاء لأبنتها والتماس طول البقاء لها، كونها كانت بالنسبة للأم ليس مجرد العون الذي ترتجيه في حياتها لتحمل عنها بعض المسئوليات ، بل لأنها كانت أيضاً الخندق الآمن لما تبثه من شكوى ، أو تندبه من قدر ،أو لما تفشيه من أسرار كأننا بهذه البنت عالم مخلص صدوق وكل ما سواها باطل وعليه جاء مغنى الأم يقول :

بِنِتْ أُمِّتي خَلاّش لي رَفيقَة
حَلْ المَمات ولاّ أُُوقَع مَريضَة

وحتماً لن تتردد الفتاة ( البنت ) من الرد على ذلك قائلة:

يا لوالِدَة خَلاّش لي وابْقى
خلاّش لي يامّاه قُبال الأعداء

أن مغاني المرأة تتعدد بأغراضها ، ولا تقف عند أسوار موضوع بذاته دون سواه ، بل هي حياة متكاملة تتجاذب أطراف الدنيا بما ألمت وبأسلوب لا يتكلف ( اللفظ ) أو يتعدى بشيء بساطة الحياة ، ومنتهى جغرافية المكان.. إذن لم يكن غريباً أن يصبح (المطر) أمنية في مغنى المرأة.. أليس هو الحياة نفسها وأمل البقاء الطويل ..!؟

شِنْ المَطر يا الله على بلادي
وِسْقى غُصُون القات والرَّوابي

فحرص المرأة على تناول أسباب البقاء في مغانيها هو في الوقت نفسه تشبث بموارد الخير والفضيلة في المجتمع ، واعتزاز بقيم الانفتاح على أفاق المستقبل ، وعدم الركون إلى اليأس وعوامل الإحباط.. فالمرأة حين كانت تتمنى موارد العطاء للعباد والبلاد ، كانت في موضع آخر من ربوع اليمن تتأسى على أية فرصة بذل قد تفر من بين أناملها في ساعة قدرية ، وتتمنى لو كان بمقدورها الحيلولة دون ذلك ومنع الأقدار من انتشال الأحبة الذين هم بمثابة مصدر عزتها ، ومنهل الخير الذي تتمنى لو يدوم لزمن أخر من اجل جيل أخر:

يا سين على مَنْ مات واحْنا نحِبَّه
يا رَيْت وهو يَسْبِر نَسير نُرِدَّه

وما دامت هذه المغاني تشمل موضوعات مختلف المسائل الحياتية ، فمن المؤكد أن يحتل الجانب العاطفي الوجداني قسطاً منها فقد كان العشق في مقدمة الأمور المحظورة على المرأة ، بل أن مجتمع القبيلة كان يحرم عليها حتى مجرد الخوض في حديثه. ولما كان الحب يتسلل للقلوب قسراً ، وليس لأحد من حيلة لصد سحره العذب لذا بات عالم المرأة اليمنية معترك صاخب بألوان الإرادات المتقاطعة والرغبات المخنوقة في الصدور وغالباً ما اضطرت المرأة للامتثال لأعراف المجتمع وتقاليده ، والانصهار في قيمها الأخلاقية أيضا – رغم كل ما فيها من قسوة- خاصة وأن المرأة لم تكن في منأى عن المواريث البالية في العرف الاجتماعي ، وربما سعت في أحيان كثيرة إلى تكريسها بإرادتها، وقلما كانت تفكر باختراقها .
ولعل من الخطأ الفادح أن يتصور أحد أن الحب في ذلك الزمان يشبه ما هو عليه اليوم فهو لم يكن يتعد بضع نظرات بعيدة ، وهمسات أهداب خجولة ، وارتجا فات ابتسامات خائفة.. إلاّ أن من سعد حظه وطاب قدره ستجمعه الصدف بحبيبه على عجل ، وقد يحضى بفرصة الاستماع لبضع كلمات سرعان ما تسكن الفؤاد ، وتأخذ بغزل الأحلام تلو الأحلام، والأماني تلو الأماني وقد يمتد ذلك لسنين ، ويستحيل وصال الحبيب ضرباً من المعجزات أو الأمل البعيد المنال .

وهكذا أنشدت المرأة لحن الحب الجميل ونثرت بذور التمني على مسار غدها القريب:

يارَيْتَني في مَفْرَجَك مَداعَة
ولاّ على صَدْرَك سُلُوس وساعَة
يارَيْتَني على الزُّجاج بَرْدَه
ولاّ على صَدْرِ الحَبيب وَرْدَة

أو كقول أخرى:

يالَيْت بِقَلْبي سِلِك لا فُؤادَك
شا سْتَعْلِمَك يا خِلْ مُو مُرادَك
لَيْت الحَبيب يَشِلِّني بِجَيْبَه
يا فَرْحَتي شاكون سَلا قُلَيْبَه

وهكذا لم يكن بمقدور المرأة إلاّ ترجمة صور متواضعة ومحترمة للتمني في الحب، ولا تتعدى في اغلبها شكوى لوعه الفراق وتمني رؤية الحبيب -ولو من بعيد– كما هو الحال مع تلك التي أنشدت:

يا لَيْت مَنْ حَرْ الجَبَل وساواه
ويُشوف حَبيبه بِسَرْحِتَه وماواه

أو كمغنى أخرى تتوق نفسها لملازمة الحبيب كما ظله، فتراها تقول في مغناها:

يا لَيْتَني طَيْر يامّاه
وَيْن ما طِرِتْ عَلَّيْت
ويْن ما حَلّ يامّاه
ساجي العَيْن حَلَّيْت

والمغنى نفسه يتكرر عند أخرى، وبصورة اعنف من سابقتها، إذ ذهبت إلى القول:

يا لَيْتَني حَلْقَة عَقيق ياقُوت
وانا على ابن أُمّي غَرام شا مُوت

وهناك من تتمنى إبلاغ سلامها للحبيب ، وان كان ذلك السلام مجرد إشارة عن بعد لا بد وأن يفهمها من كان عشقه ليس إلاّ نظرات وسكنات وعبرات، لذلك كان مغناها يقول:

يا رَيْتَني راس الجَبَل عِضّايَة
لا أضْرُبْ سَلام للخِل بالمَرايَة

وإذا ما كانت صاحبتنا قد تمنت لنفسها أن تتحول إلى مجرد نبتة برية صغيرة (عضاية) لا قيمة لها عند أحد من اجل رؤية الحبيب ومنادمته بالإشارة فقط ، فأن ذلك قد يرسم صورة مؤكدة لطبيعة الحصار الذي يضربه العرف الاجتماعي اليمني على العلاقات الغرامية ، وحجم هاجس الحذر والخوف عند المحبين الذين لم يبلغوا بعد حالات الاختلاء ، أو اللمس أو المكاشفة الصريحة.. فالمرأة اليمنية من خلال مغانيها لا تجمح بخيالاتها بعيداً ، ولا تتمنى أكثر مما هو مقدر أن يحدث على أرض الواقع ، على غرار ما تغنت به إحداهن ساعة رؤيتها المحبوب يشد رحال السفر إلى مكان ما:

مُسافرين يا رَيْتَني مَعاكُم
واحْمِل مَعاكُم زادَكُم وَماكُم

وفي مغرد آخر كانت تنشد:

قَلبي جَريح يشْتي يطير مَع الرّيح
يُوصَل لا باب الحَبيب ويُصيح

أن صعوبة الوصل وتطرف العرف الاجتماعي بهذه المسألة بالذات ظل سبب رئيسي للألم عند العشاق ومصدراً لأرقهم وهيامهم بالهموم والهواجس، حتى أن إحدى النسوة تغنت قائلة:

يا رَيْت قلبي ما عَرَف مَحَبَّة
بَعَض الليالي بَيْن أنُوم كَذْبَة

ولربما وجدنا بين النسوة من تتمنى لو كان بمقدورها قلب الأمور على عكس ما هي عليه ، بحيث تكون هي المبادرة لانتقاء الشريك وخطب وده.. ولا نظن ذلك اللون من التمني محض لحظات انكسار جدوى الانتظار والترقب لعناية طرف ثان غير مكترث لما يدور حوله، أو لعله ضعف خبرة المرأة المتمنية في إيصال إشارات حبها ولفت نظر من سكن فؤادها من غير استدعاء ، لذلك كانت تتغنى بقولها:

يا رَيْت والله والكلام كلامي
لأ تْصَيَّدَك يا فَرِخ يا حَمامي

وهناك أمثلة تقترب من هذا المعنى ، وتشكو الأمر ذاته الذي تقف فيه المرأة على منأى من الحبيب ، وتعايش هموم تجربة عشق أحادية ما تلبث أن تتبدد أحلامها وتتماهى أوهامها بعد أن تخذلها كل أدواتها ، وتكتشف أن ليس من حلية لزمانها ليأخذ بيدها أو يمهد لها سبيلاً ما ، وهو الأمر الذي يجعلها تتمنى:

رَيْت المَحَبَّة تَغْتَسِل بِبارِد
أَشِدِّ لي ما دُمْت ظَبي شارِد
لَيْت المَحَبَّة تَغْتَسِل بِفايِر
وافْعَل لِقَلبي مَغْلَقَة ودَايِر

وهكذا ظلت أماني اللقاء بالحبيب هي السمة الأبرز في أدب المرأة عند تناول مسالة الحب:

يا رَيْت مَنْ عَرَّش يا رَيْت مَنْ طار
واهْرُب (عَدَن) وأَدّي عُلوم وأخْبار
يا رَيْت والله على عِشرين بَرْقوقة
في مَنْظَر الخِّل في الطّيقان مَرْصوفَة

وفي الحقيقة كان تغني المرأة اليمنية بالحبيب ومناجاته لإيراد به دائماً علاقات الغرام عند العذراوات مع فرسان الأحلام، فالكثير جداً من المغاني تورد كلمة ( الحبيب ) لتعني به الزوج ، كما جاء على لسان إحداهن وهي تتمنى عودة زوجها لتبثه شكواها:

يا رَيْت والله مَنْ لِقي حَبيبَه
بيَشْكي عَليه مِنْ عَمَّته وسّيدَه

وكما جاء في مغني إحدى النساء ممن أكثر زوجها من تردده على قاع اليهود، وهو حي شعبي في صنعاء سمي لاحقاً ب – قاع العلفي- وكانت تقطنه أسر غير مسلمة، فتسلل الشك إلى صدرها بأن زوجها ربما يكون مغرماً بامرأة من هناك فأنشدت قولها:

مَحْبوب قلبي نَزَل قاع اليَهود حافي
يَشْتي مَدامَة ولَوْ هي بِنْتْ نَصْراني

وقد نجد بين المغاني لوناً قاتماً من التذمر من بعض الذين كانوا يضمرون الشر، ويشعلون الفتن، وتلاقي المرأة على أيديهم أمرّ العذاب، وذلك كفيل بإطلاق عنان مغانيها لتمني الانتقام ممن ظلموها:

جَعَل لَكُن يا عَجايز شَرْ مِن غَيْر شَرْ
يا رَيْت مَنْ رَكَّبْ المَسْنى عَلَيْكَن وَجَرْ

أو كما ورد في غناء أخرى:

يا مِحْرِشين جَعَلْكُم إزالَة
حِين ما تخَلّّوا للضَيْف حالَه

وفيما ذكرناه في هذا الفصل من الأمثلة التي تؤكد استخدام مفردة ( الحبيب ) للزوج، ومناجاته ، أو التمني معه كما لو كانت المرأة تريد بقولها شخص أخر وهذه المسألة – في الحقيقة – هي جزء من سيكولوجيا المرأة التي يمنعها حياؤها من البوح بمشاعرها على نحو جريء ومفتوح ، فلم يكن بمقدورها مصارحة الحبيب بحقيقة ما يدور في خلدها إلاّ عندما تختلي بنفسها وتتأكد أن لا أحد يسمعها.. ولا أظن مجتمع الرجال براغب بمن يجدن حديث الحب والغزل وبوح الخاطر، وربما سيجر ذلك على المرأة – من البعض – الويلات، وعواقب لا أحد يتكهن بالمصير الذي ستنتهي إليه.

.....................................................................................
* صحفي وباحث عراقي- الموضوع فصل من كتاب تحت الطبع .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.