هناك آراء تقول بأنه يجب تعليم الأطفال أمور دينهم منذ نعومة أظفارهم لناحية بعض الطقوس التي يستطيعونها وذلك حتى يتعودوا عليها، والعادة كما يعبر عنها بعض العلماء (طبيعة ثانية) وبذلك يضمن الأهل سلامة التزام أطفالهم في المستقبل بالخط الديني والاتجاه الروحي السليم. وهناك مَن يقول بتأجيل ذلك إلى أن يبلغ الأطفال أشدهم، حتى تستوعب عقولهم فكرة الله، والموت، والكون، والبعث، وهذه مسائل ميتولوجية فوق طاقة الطفل على التفكير العقلاني السليم. لكننا نرى أن الطفل يقلد والديه من الوجهة السلوكية، والوجدانية فأتباع الأهل لتعاليم الدين (صلاة، صوم، زكاة) وسلوك الطريق القويم في التعامل مع الناس، وأتباع القيم الأخلاقية من صدق وأمانة ووفاء، وإغاثة الملهوف وما شابه ذلك، يجعل منهم صورة مشرقة أمام أطفالهم فيقلدونهم. وتلعب القدوة دوراً هاماً في غرس القيم وأنماط السلوك في نفوس الأطفال. والقدوة هي أن نقلد مَن نعتبره المثل الأعلى والنموذج المحتذى، فالطفل يقلد والديه، ومعلمه، ورفاقه البارزين الذين يرى فيهم ملامح القوة والتفوق إذ ليس هناك مَن يقلد مَن هو أدنى منه، إلا إذا كان ناقص العقل والتفكير، فنحن نقلد مَن هم أكثر منا معرفة وعلماً وخبرة، وأكثر خلقاً وأهمية في الوسط الاجتماعي. في التربية الإسلامية دعوة واضحة للاقتداء برسول الله، يقول تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً) الأحزاب/ 21. عامل آخر، من عوامل تقليد مَن هم قدوة، هو عامل المحبة، فنحن نقلد عادة الذين نحبهم، ونبتعد عن تقليد الذين نكرههم، حتى أن هذه الكراهية تصل بنا أحياناً إلى درجة يتعطل فيها المنطق فنحن نرفض ممن نكرههم حتى الإيجابيات، ولا نرى فيهم ما يمكن تقليده. فبتعمق وتجذر الحب يكون التقليد، وتكون القدوة أمامنا مشرقة وهاجة نهتدي بها ونسير نحوها. ومَن أجدر بمحمد (ص) بالتقليد؟! فالتوجيه التربوي يجب أن ينصب على ناحية الاطلاع على سيرة هذا النبي العظيم في حياته الخاصة والعامة في تعامله مع أسرته، مع أصحابه، مع مجتمعه، وحتى مع أعدائه، فنجمع من كل ذلك إرثاً تربوياً أخلاقياً يكون لنا معيناً في توجهنا التربوي، ففي معين السيرة النبوية تجد ضالتك، كنت فقيراً أم ملكاً، تلميذاً م واعظاً أباً أم زوجاً، قاضياً أم متقاضياً، فترى في كل من هذه الأدوار صورة الإيمان والخلق الرفيع. كذلك نحدث أطفالنا عن إله رحيم، يكافئ ويثيب، ويغفر، ويعطي ويمنح على أن يأتي حديث العقاب والتهويل بعذاب الله لاحقاً، ونحن وإن كنا نميل تربوياً إلى تلازم الترهيب والترغيب، فإننا نفضل الترغيب أكثر من الترهيب. فالطفل ينظر إلى الله نظرة مجسمة، نظرته إلى (السوبرمان) أو الشخصية المثالية؛ المتمتعة بكل الإمكانيات، وهو رمز للوالد (في نظر الطفل) لكنه رمز أكثر شمولاً واتساعاً، فتتكون في ذهنه صورة حب (لذلك الله) العظيم شبيهة بالصورة التي يرسمها لوالده أو لغيره من عظماء بني البشر في نظر الطفل، وغالباً ما تتوافق المشاعر عند الأطفال بين الله والأب (المختلفتين في الدرجة فقط) فالذين يحبون آباءهم يحبون الله كذلك. وتنمية هذه المحبة وهذا التكريم للوالدين في نفس الأولاد منذ الصغر، هو فعل إيمان بالله، ومن صلب التعاليم الدينية التي تؤهل الطفل لكي يكون مؤمناً بالله وبكتبه ورسله في المستقبل. ومتى اهتزت صورة الوالد (المثال) في نظر الطفل واكتشف أن والده غير مؤمن، فإن صورة الدين والقيم هي الأخرى تترجرج في ذهن الابن، ويصبح من الصعب عليه أن يلتزم بأمور الدين، وإن كان القرآن الكريم يشير إلى بعض الاستثناءات (يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب). (والطفل الذي لا يسمع شيئاً عن الله أو لا يسمع إلا القليل عنه بين الثالثة والسادسة فإنه خليق طبعاً بألا يكون أي مفهوم عنه). فإن كان الطفل قد كون في هذه الفترة فكرة عن الله فإنه سرعان ما يتحول بتفكيره بعد السادسة إلى الله والولاء له والطمع في نيل المساعدة وتحقيق الأمنيات، والسؤال عن الصحيح وغير الصحيح، عن الحلال والحرام في هذه المرحلة من حياة الطفل تكون العلاقة التي يكونها مع الله ذات طابع سطحي وعاطفي، فلا تتضمن مشاعر قوية ليدافع عنها بحماس تجاه العقائد الأخرى. ويجدر بالأهل وهم في معرض ردهم على أسئلة الطفل الأولى عن الله أن تكون في إجاباتهم أفكار الرحمة والعطف والحنان والتركيز على الجانب الإيجابي وأن يبتعدوا عن الحديث عن العقاب وإحداث الآلام، لأن الإيمان القائم على التخويف والتهويل معرض للاهتزاز في أية لحظة؛ فالطفل يستقي معلوماته الدينية الأولى من والديه، وكذلك ممارسة الشعائر الدينية وأنماط السلوك. وفي حالة الأبوين اللذين ينتميان إلى عقيدتين مختلفتين فغالباً ما تهتز صورة الدين وتعاليمه في نفوس أطفالهما، فلا استقرار ولا ثبات حول عقيدة معينة، فهم يشعرون أنهم موزعون بين الانتماء إلى عقيدة الأم التي يحبونها وبين الانتماء إلى عقيدة الأب. والحل الأمثل هو في اتفاق الوالدين على عقيدة واحدة وتوحيد التوجيه، وإعطاء المزيد من الحرية والانفتاح على التعاليم الجوهرية التي تعتبر مشتركة وعامة لدى جميع الأديان. أما إذا حدث شقاق بين الوالدين حول موضوع العقيدة والانتماء فإن ذلك سينعكس سلباً من الوجهة التربوية على الأطفال. ومن الخطأ الاعتقاد أن بإمكان أي طرف من الطرفين أن يفرض عقيدته على الأطفال بطريقة فسرية وبالإكراه ففي الإسلام (لا إكراه في الدين). وأبرز التساؤلات التي تقلق الطفل من الناحية الدينية هي مسألة الموت. والسؤال: لماذا يموت الإنسان؟ أو ليس في ذلك ظلم؟ ومن المسئول عن هذا الظلم، أسئلة محرجة، وقلق متزايد ينتاب الطفل في السنوات الأولى وهو يشهد موت الأقارب والأخوة، أو أحد الأبوين أو كليهما. صحيح أن المسألة تتحول إلى أمر روتيني شبه مألوف، وإن كان محفوفاً بالألم والحزن، لكن لن يزيل التساؤلات الميتافيزيقية الأولى في ذهن الطفل، ونحن الوالدين لا نملك من الأجوبة أكثر من (صعد إلى السماء، ذهب إلى الجنة، اصطفاه الله وأحبه وأخذه إليه) هذا ما نجيب به عندما نسأل من قبلهم: لماذا مات فلان؟ بعض الأطفال يتقبلون الأمر بهدوء، وبسرور، إذ إن الذهاب إلى الله شيء جميل، وهي أفضل الرحلات فيسأل بعضهم أحد الوالدين ببراءة وصدق: وأنت متى يختارك الله لتذهب إليه؟ فيجيب: في يوم، لا تعلمه ولا يعلمه إلا الله. وفي النظرة إلى الموت، كذلك يقلد الطفل والديه ويحاكيهم فإن كانا ممن يرهبهما الموت ويشقيهما أخذ عنهما هذه المشاعر، فهو ينظر نظرة فاحصة ليرى مدى تأثير موت الآخرين عليهما، ويستمع إلى أحاديثهما حول هذا الموضوع فتنطبع في ذهنه جميع الصور، وهذه الانطباعات هي التي تحركه وتسهم في تكوين صورة الموت في ذهنه. أما إذا كانا مؤمنين يتقبلان في سلوكهما وفي أحاديثهما مفهوم الموت بعقل راجح وبإيمان ثابت، وبأن الرجوع إلى الله عندما يأتي الأجل مدعاة للسعادة وحسن الختام، ذلك يجعل الطفل يشعر بالاستقرار والسكينة ونزع حالة القلق التي تصيبه تجاه هذا الموضوع. وما يجب أن يفهمه الأطفال بشكل عام أن الموت حقيقة، وهو أمر لا مفر منه، وبأن كل حي سيموت، لكن الذي يجب أن يتنبه إليه الوالد أو المرشد هو أن الموت الآن أمر بعيد، وهو يصيب المسنين أولاً الذين يعتبر الموت نهايتهم الحتمية للخلاص من عذاب الحياة وآلامها الالتجاء إلى رب رحيم. يشعر الإنسان بالسعادة بقربه؛ أما أن يبقى الموت بمثابة شبح مخيف في ذهن الطفل فهذا ما يتنافى مع جوهر الدين. هناك حقيقة إلهية أعلنها القرآن الكريم وتثبتها كل يوم آلاف الحوادث اليومية بأن الموت حقيقة واقعية، ولا مهرب منه وهو القائل (كل نفس ذائقة الموت) آل عمران/ 185، هذا الإيمان يكسب الإنسان شجاعة فائقة يتحدى معها الخطر المحدق به إذ لا سبيل إلى الفرار عندما يصدر الأمر الإلهي (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) آل عمران/ 145، أو قوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) النساء/ 78. مَن تكونت لديه هذه القناعات منذ الصغر، أقبل على الموت بعزيمة صلبة لا تلين، وتحدى جميع المخاطر، موكلاً أمره لله تعالى. ومنتظراً للساعة المحددة له، والتي علمها عند الله، حيث لا تعلم نفس ما تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ثم لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها (ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم، لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف/ 34. وكثيرة هي الإرشادات في القرآن الكريم التي تشير إلى حتمية الموت وعدم إمكانية الفرار منه (وقل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) الجمعة/ 18. - الأطفال والقصص والدين: استخدم القصص لتثبيت العقيدة، وركز على النواحي القيمية لتحصين الفرد ضد الانحرافات على اختلافها. وتجدر الإشارة إلى أن الأسلوب القصصي هو أسلوب ناجح من أساليب الإرشاد والتقويم والهداية إلى الخير والفضيلة؛ لذلك استخدمت القصة لبث العقيدة الدينية. لنشر المبادئ الاجتماعية والفلسفية؛ وقد استخدمها القدماء من المصريين والأشوريين والبابليين، وكان تأثيرها على مر العصور تأثيراً كبيراً فضلاً عما تمليه من عوامل التسلية. (وكان استخدام القصص للتربية جزءاً من منهج التربية الإسلامية). والقصص القرآني يهدف إلى إثبات عقيدة البعث ودفع الشك عنها بما ضرب من أمثلة وشواهد. وقد تسأل أحد الأطفال وهو يستمع إلى قصة موسى (ع) وهل هذا صحيح ويصدق؟! فما كان على القاص إلا أن يفهمه على صغر سنه بأن القرآن الكريم لا مجال فيه للأسطورة (لأنه كلمة الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد) فصلت/ 43. ومع ذلك يثبت علماء النفس (أن غير المعقول أشد فعلاً في النفس من المعقول لذلك كانت الجوانب الغريبة في هذه القصص أكبر مؤثر منها). ويشير (وليم جيمس) إلى أن أعظم علاج للقلق هو الإيمان. ولذلك كله فإن القصة تحقق غرضين في آن معاً: فهي تفتح مدارك الطفل وتنمي خياله، بالإضافة إلى المتعة والتسلية، والغرض الثاني والأهم هو أننا نوصل إليه بواسطة هذه القصة قيمة دينية وأخلاقية واجتماعية، كل ذلك في قوالب من التشويق والسرد الممتع.