فيديل كاسترو ترك السلطة لاغيه بعد أن حكم كوبا 49 عاما و55 يوما تاركا، خلفه العديد من المعضلات الاقتصادية والكثير من القضايا التي هي بحاجة إلى معالجات جذرية حتى تواكب كوبا مسيرة التطور الاقتصادي، والتحولات السياسية والاجتماعية في محيطها القاري والدولي. وقد بدا شقيقه "راوول كاسترو" الذي تولى مقاليد السلطة في يوليو 2006 بصورة مؤقتة حتى تم انتخابه رسميا كرئيس للدولة في فبراير عام 2008 ببعض الانفتاح الحذر، ورفع بعض القيود التي كانت تشكل من المحرمات سابقا، ولكن تظل هذه الاجرءات قاصرة ما لم يرافقها تجديد البنية التحية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وخاصة وان الاقتصاد الكوبي ضعيف ويعتمد بصورة كبيرة على السياحة باعتباره المصدر الأساسي بالرغم من امتلاك كوبا لأراضي زراعية شاسعة، قادرة على أحداث ثورة زراعية تمكن كوبا من الاكتفاء الذاتي لغذائها ولانطلاق نحو اقتصاد مزدهر. أما التحدي الآخر هو الانفتاح السياسي من خلال تخفيف قبضة الحزب الشيوعي الكوبي على كل صغيرة وكبيرة من خلال السماح لحرية التعبير والصحافة لتسهم في خلق مجتمع ديناميكي متجدد.. الصراع الكوبي الأمريكي هو آخر بقايا الحرب الباردة له جذوره الطويلة منذ بدايات الاستقلال الكوبي وخروج الأسبان، مما سهل الاحتلال الأمريكي لكوبا عام 1899ولفترتين حتى نيل الاستقلال في عام 1902م ماعداْ قاعدة غوانتنامو في أقصى الشرق الكوبي والتي اكتسبت شهرة عالمية في وقتنا الحاضر نتيجة وجود أسرى يشتبه بانتمائهم لتنظيم القاعدة بالرغم من ثبوت براءة العديد منهم من تهمة الإرهاب أو الانتماء للقاعدة. جزيرة كوبا المشهورة بقصب السكر والبن والتبغ ذات الشهرة العالمية كانت دوما محط الأطماع الأمريكية كما ان تلك الفترة قد شهدت صعود ونمو الإمبراطورية الأمريكية في سعيها نحو فرض قوتها العسكرية والاقتصادية على العالم. وهذا ما تحقق لها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واتي شهدت بروز الأنظمة الدكتاتورية في دول أمريكا اللاتينية والتي كانت تعتبر ملجأ للقادة النازيين ومجرمي الحروب ولم تكن كوبا في تلك المرحلة حالة استثنائية، بل أكثر من ذالك كانت عاصمتها "هافانا" مركزا عالميا للدعارة والقمار، وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي باعتبارها مفتاح خليج المكسيك ولما تتمتع به من سهولة الملاحة وازدهار الزراعة فيها وهذا ما اوجد لدىالادارات الأمريكية مبرر استراتيجيا للاحتفاظ بها وحماية تلك الأنظمة الموالية لها تمثلها من انعكاس لأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية.. فكانت الاستثمارات الأمريكية تمثل رقما صعبا في الاقتصاد الكوبي بل أكثر من ذالك فان اغلب المصانع والمزارع والبنوك وشركات الكهرباء والتلفونات هي أملاك أمريكية. إذا ماذا كان ينتظر المواطن الكوبي من تغيير نحو الأفضل؟ حتى جاءت رياح التغيير منذ بدايات الخمسينات والتي مثلت مرحلة النهوض للعديد من القوى الوطنية في هذه القارة، والتي حملت على كتفيها راية التغيير. وقد توج الثوار الكوبيين انتصارهم في فجر الأول من يناير عام 1959م، وهي بداية المواجهة الأمريكية- الكوبية الممتدة إلى يومنا هذا. حيث أعلنت الثورة الكوبية عن تأميم المواقع الاقتصادية الهامة التي كانت في قبضة الأمريكان، حيث ردت الإدارة الأمريكية بقطع كل صلاتها مع الحكومة الجديدة بزعامة فيديل كاسترو، ورفض الاعتراف بالنظام الجديد في هافانا، تلتها إجراءات أخرى منها الحصار الاقتصادي والتجاري. كما ان أزمة الصواريخ الروسية الشهيرة أسهمت في تعميق الخلاف الأمريكي الكوبي، وكادت ان تودي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة. أما الإجراء الدبلوماسي التي قامت به أمريكا تمثل في أبعاد كوبا من منظمة الدول الأمريكية، وهذا ما خلف حالة من الارتباك والحيرة لدى القيادة الكوبية الحديثة وخاصة وإمام قدرة أمريكا تحريض دول أمريكا اللاتينية ولكن إصرار هذه القيادة على السير قدما هو عامل أساسي نحو التغيير الجذري مدعمين بجماهير عريضة. ولا يمكن ان يشكك احد في الانجازات التي تحققت في ظل هذه الثورة أبرزها قيامها بحملة شاملة لمحو الأمية وجعل التعليم في متناول الجميع والدليل على ذالك وجود الآلاف من رياض الأطفال والمدارس والمعاهد التخصصية والمهنية وكذالك وجود ستة وأربعون جامعة، ليدل على ذالك المكانة الكبيرة لتوجه الدولة نحو خلق قاعدة متينة أساسها العلم والمعرفة أضف إلى ذالك التطور التي تشهده قطاعات الصحة والزراعة والصناعات الخفيفة والسياحة التي تشكل ابرز موارد الدخل القومي والدليل على مقياس هذا التطور هو احتلال كوبا لمركز الصدارة في الجانب الصحي على مستوى العالم الثالث، ومنافستها للدول المتقدمة أيضا.. وهذا بحد ذاته يجعل كل أعداء وأصدقاء كوبا لينظرون بكل احترام وتقدير لهذه الثورة بالرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها العالم واختلال موازين القوى لصالح أمريكا. وانهيار المعسكر الاشتراكي كان بمثابة ضربة قاسية لكوبا التي كانت تعتمد عليه في اغلب تعاملاتها الاقتصادية والتجارية بنسبة 75% ، وهذا ما جعل القيادة الكوبية تعلن حالة الطوارئ منذ عام 1989م، والذي استهدف أساسا التخفيف من الآثار السلبية للاقتصاد، وكذا مستوى معيشة الشعب وخاصة وان كوبا تعتبر الدولة الوحيدة التي لا تتلقى أي قروض أو مساعدات من الصندوق والبنك الدوليين، باعتبار هذه البنوك تخضع للسيطرة الأمريكية. وقد ازدادت التعقيدات في العلاقات الكوبية الأمريكية من خلال إصدار الإدارة الأمريكية لقانون "هيلموس بورتون" والذي شدد الحصار، وقد تجاوز الحدود الأمريكية من خلال معاقبة كل الشركات التي تتعامل مع كوبا، وهذا بحد ذاته يعتبر خرقا لكل الأعراف الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول. وهذا ما أوجد الرفض والتنديد من قبل كل دول العالم وبالذات الدول الأوربية والمكسيك. وقد أصدرت دول مثل كنداوالمكسيك قوانيناً مضادة لإبطال مفعول هذا القانون، مما جعل الإدارة الأمريكية وتحت الضغط ان تلجأ إلى تجميد هذه الفقرة لمدة ستة أشهر، لأنه خلق جوا من التوتر في العلاقات مع حلفائها الأوربيين، ولكن اللوبي الكوبي يسعى جاهدا إلى تثبيت هذا القانون، وكذلك تشديد الحصار على نظام هافانا وإقناع أمريكا بضرورة استخدام الخيار العسكري لإسقاط نظام كاسترو، ولكن الإدارة الأمريكية تدرك بان كاسترو ما زال يتمتع بتأييد أغلبية الشعب الكوبي بالرغم من المعاناة اليومية وتدهور الحياة المعيشية للمواطن، حيث أصبح استخدام الدولار بشكل واسع. وكان عدم قدرة الغالبية من امتلاك هذه العملة الصعبة جعلت حياتهم أكثر صعوبة. وبالرغم من ان الحكومة الكوبية بدأت بسياسة الانفتاح البطيئة إلاّ ان فيها الكثير من الصعوبات بسبب عدم تكيف الشعب بهذه السياسات، والتي لم تستطع في تحسين المستوى المعيشي للمواطن البسيط. وقد قدمت كوبا العديد من التسهيلات للاستثمارات الأجنبية بحيث أصدرت قانون الاستثمار حيث توجد العديد الشركات الأوربية التي لها استثمارات كبيرة . أما رجال الأعمال الأمريكيين فهم ينظرون بكل حسرة للفرص المتاحة لهم في كوبا متمنيين بتحسن العلاقات بين هافانا وواشنطن، وهذا ما سيساعدهم على الاستثمار وخاصة للموقع الهام التي تتمتع به كوبا وقربها الجغرافي. ولكن كما يبدو أن الإدارة الأمريكية مصممة على مواصلة حصارها حتى لحظة اختفى فيديل كاسترو، البالغ من العمر 82 عاما، ونظامه، وخاصة وان عدائها له كبير باعتباره يمثل- كما تصفه- آخر الأنظمة الشمولية في أمريكا اللاتينية، وتسعى إلى إقناعه في أجرأ إصلاحات جذرية حتى ينال رضاها، وهو أمر متناقض في هذه السياسة المغامرة والتي تمتلك صفة الوصايا على دول ذات سيادة..! إذا لماذا لا تحث حلفائها في العديد من بقاع العالم على أجراء تغييرات ديمقراطية، وكلنا ندرك تماما بان أبرز منطلقات السياسة الأمريكية هو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية ولو كان ذلك على حساب جسر هائل من جثث شعوب العالم الفقيرة.. وهذا ما أثبته التاريخ المعاصر، وقد اعتقد الكثيرون بان التدخل الأمريكي في العراق وإسقاط نظام صدام هو تثبيت الشرعية الدولية، وحباً للحرية والعدالة، ولكن هذا المنطلق لم يكن له أساس من الحقيقة. وحتى يومنا هذا مازالت الإدارة الأمريكية تتقاضى الثمن، وفي نفس الوقت تبقي الشعب العراقي الشقيق تحت الحصار، وتتحكم بمقدراته الاقتصادية، فأصبح العراق بلد يعيش تحت الحطام، وشعبة تحت قبضة الأمريكان.. وهذا يحدث أمام صمت العالم أجمع؛ وفي نفس الوقت أمريكا تصنف الدول والأنظمة بين محاور الشر والخير، وبذلك جعلت من نفسها وصية على مصير العالم- وهي محور الخير والجنة الموعودة..!! أمريكا طوت سنوات الحرب والعداء مع فيتنام وتتعامل مع الصين، وباللأمس عبرت عن نيتها عن رفع الحصا ر عن كوريا الشمالية، وشطبها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهي أنظمة شيوعية، ولم تفعل ذلك مع كوبا والتي تبعد عنها تسعين ميلا وهي الأقرب لها بالرغم من زوال كل مبررات الماضي، وكما توجد توجهات صادقة من قبل الحكومة الكوبية نحو التغيير والانفتاح على العالم وخاصة وان عالمنا اليوم تتزاحم فيه المصالح الاقتصادية، وأصبحت العوامل السياسية والأيدلوجية من مخلفات الماضي.. الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكثر من دورة أدانت استمرار الحصار الأمريكي على كوبا باعتباره يتنافى مع المواثيق والأسس التي تنظم العلاقات بين الدول، والكرة الآن في الملعب الأمريكي لكي تعيد صياغة سياسة ذات توازن تراعي فيها المصالح المتبادلة بين الشعبين الكوبي والأمريكي ورياح التغيير إلى الأفضل لا محالة فيه، وسيتم عبر قناة واحدة وهي فتح الحوار مع كوبا وتطبيع العلاقات معها على أساسا لاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.. وهو الأمل يراود كل البشرية بأن ترى لحظات دفن آخر بؤرة لمظاهر الحرب الباردة في عالمنا اليوم. وقد أبدى الرئيس الأمريكي السابق "جيمي كارتر" رغبته وأمله في رفع الحصار عن كوبا، وفتح قنوات الاتصال المباشر وفتح ملف العلاقات الشائكة بين البلدين، ولكن يبدو أن الإدارة الحالية ل"جورج بوش" قد استبقت نواياها في تشديد الحصار على كوبا وإغلاق باب الحوار مع هافانا، وبذلك ينتقل ملف هذه العلاقات للإدارة الأمريكية الجديدة بعد انتخابات شهر نوفمبر القادم، أو موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وفي خضم الحملات الانتخابية وثأثير اللوبي الكوبي المعادي لنظام كاسترو. اليمن وأكثر من مرة عبرت عن رفضها لسياسة الحصار على كوبا، وهي منطلقة من سياسة التعايش السلمي بين الشعوب والأنظمة، وعدم استخدام هذه السياسات الخاطئة، التي أساسا تضر بالشعوب أكثر من الأنظمة. كما ان العلاقات اليمنية الكوبية تشهد تطورا نحو تجسيد التعاون والصداقة بين البلدين في العديد من المجالات التي تهم مصلحة البلدين والشعبين الصديقين، حيث ان كوبا أسهمت ومنذ سنوات في تأهيل المئات من الطلاب اليمنيين في المعاهد والجامعات الكوبية، وكذلك في إنشاء كلية الطب في جامعة عدن في عام 1975م، وما زال يتواجد العديد من الطلاب اليمنيين في جامعاتها، وكذلك يتواجد العديد من الأطباء الكوبيين في العديد من المستشفيات اليمنية. وابرز مشروع صحي بين البلدين على وشك ان ينطلق وهو عبارة عن إنشاء مستشفى كوبي للعظام تدار بكوادر مشتركة بين البلدين. نتمنى ان نرى يوما ما وكوبا قد تخلصت من الحصار الأمريكي، حتى ينعم شعبها بالأمان والاستقرار، ويحقق كل آماله نحو التقدم ولازدهار.. ……………… * اسباني من أصل يمني [email protected]