كل يوم تحمل لنا الصحف سلسلة مزعجة من تداعيات الأزمة في المحافظات الجنوبية، خصوصاً في الضالع ولحج وأبين، وذلك أمر لا يمثل تهديداً للنظام السياسي فحسب وإنما يمثل تهديداً خطيراً لأركان النظام الاجتماعي والاقتصادي.. إن الدليل القاطع على مبلغ تعقيد الأزمة التي يعاني منها الوطن والتي اخترقت كافة مجالات الحياة فيه إلى حد تهديد بقاء كيانه الوطني الواحد، أن المثقفين ومنظمات المجتمع المدني أصبحوا جزءاً من الأزمة عوضا من أن يشكلوا المخرج. لقد أضحى المثقف يروج لمقولات تتعارض مع ما كان أقرانه ينادون به في الأمس، وتتعارض كذلك مع حجم التضحيات التي دفعها الآلاف سجناً أو قتلاً في سبيل الوحدة، وخطورة الأمر أن الأزمة في الوقت الراهن انتقلت من مرحلة عدم الاستقرار السياسي إلى مرحلة عدم الاستقرار المجتمعي. لقد تم ذلك تحت ضغوط سوء الإدارة، وتبدلات الظروف المناخية التي فرضت المرتكزات الأساسية للحياة المعيشية، فاهتزت أركان المجتمع كمؤسسات وقيم وروابط، وتأسست بذلك حلقة أزمة شاملة. لا شك في أن الوضع الراهن في بعض المحافظات الجنوب لا يحسد عليه البلد من كل النواحي: استشراء عصابات النهب، واستغلال الوضع الراهن في تنفيذ عملياتها، ضرب لكل ممسكات النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي، لبعض أصحاب الهوى والمصالح الشخصية والمنافقين والمتكسبين والمتاجرين بدماء البسطاء. واضح جداً ان هناك أطرافاً تستهدف إدخال اليمن في حلقة لا نهائية من الأزمات بهدف اشغال الرأي العام اليمني عن مواجهة الفساد والنهب غير المسبوق في تاريخ اليمن واستنزاف قدرات البلاد. والمطلوب من المثقفين اليوم ان يقفوا أمام ما يجري بالنظرة الشاملة التي ترى الهرم كله، ويسبرون أغوار الأزمة ليقدموا لشعبهم قراءة كاملة صحيحة لأوضاعنا وأحوالنا. فما أحوجنا اليوم إلى هذه القراءة في ظل انتشار قراءة ناقصة تقصر نظرها على "نصف الكأس الفارغة" ويجري توظيفها من قبل أصحاب المصالح الخاصة الذين يقومون بنشر روح اليأس والإحباط. حق علينا جميعاً في نطاق قراءتنا الكاملة الصحيحة لأوضاعنا وأحوالنا ان نولي الأزمة المستحكمة عنايتنا، نستحضر مظاهرها، ونبحث في أسبابها، ونفكر في سبل علاجها، وعلينا ونحن نفعل ذلك أن نستحضر في أذهاننا أوضاع ما يجري من حولنا في العراق والصومال والسودان. وعلى جهات الاختصاص ان تدرك ان المشكلة لم تعد مطلباً تنموياً وإنما أصبحت قضية وطنية يتوجب التعامل معها ككل ومحاسبة المخطئين ومعاقبتهم واعمال النظام والقانون. لعّلي أكون صريحاً هنا فأقول على كل الفعاليات السياسية ان تدرك ان الصراع قد انتقل من كونه صراعاً سياسياً إلى كونه صراعاً اجتماعياً وهنا تكمن الخطورة. إذ أضحت الثقافة السائدة ثقافة انقسامية تجزيئية لا تقوم على أسس سياسية، وإنما بناء على اعتبارات مناطقية، وأصبحت المشتركات الوطنية الجامعة في حدها الأدنى، وتكاد تنعدم في بعض الأحيان. وهذا مؤشر على خطورة ما يجري، لأن ذلك يعني بداية الدخول في حرب أهلية لا يكون الخروج منها سياسياً أو تعاقدياً إلا وفق منطق «الإنهاك المتبادل» ونحن في غنى عن ذلك. والواضح ان الوطن في السنوات الأخيرة شهد خللاً واضحاً لعل أبرز مظاهره تجليا الوضع في صور وأعمال النهب والتخريب في بعض مديريات الوطن وتأجيل الانتخابات والأزمة بين مجلس النواب ومجلس الوزراء. واضح جداً ان الفساد نجح في استعداء كل مكونات الوطن واستطاع ان يدير البلاد بالأزمات. مسكين هذا الشعب الذي أصبح ينام على أزمة ويستيقظ على أزمة أخرى، وما لم يتم التعامل بذكاء وحذر في هذه المرحلة فإن الأمور سوف تتجه بخط بياني نحو الكارثة. وبما أن رئيس الجمهورية قد دعا أكثر من مرة إلى الحوار فإن المطلوب هو إيجاد لجنة برئاسته يكون عناصرها من غير أولئك الذين قد لوثوا بالفساد أو لديهم ثأر مع بعض الأطراف. على ان تكون هذه اللجنة من المتخصصين والمثقفين والسياسيين، مهمة هذه اللجنة احتواء الأزمة واستيعاب نتائجها والاعتراف بأسبابها بهدف التغلب عليها ومحاولة ايجاد تسوية عادلة لكل المتضررين. ما هو المخرج إذن ؟! 1- ايجاد مخرج سلمي للوضع بوقف المواجهات عن طريق الحوار الذي دعا إليه الرئيس صالح، والكف عن هدر أموال الدولة في عقد المؤتمرات الوهمية والبرامج الصورية لرتق النسيج الاجتماعي، التي لا تخدم البلاد بقدر ما تفتح الفرصة أمام المفسدين لمزيد من الثراء الحرام. 2- فتح الاستثمار الحقيقي في المنطقة الحرة، فالتنمية في اليمن تحتاج فقط إلى تفعيل المنطقة الحرة التي لا تكلف شيئاً مما ينفق اليوم على البرامج الوهمية والمؤتمرات الصورية التي تعقد بلا طائل ولا جدوى ولا تساوي شيئاً مما ينهب من قبل المفسدين. 3- التخلي عن تسييس القبائل والجماعات الدينية، وأن يكون معيار المشاركة السياسية بعيداً عن الانتماءات المناطقية والجهوية، ولابد أن يكون دور الشيخ كما كان في السابق، حفظ الأمن وسياسة القبيلة لتحقيق الاستقرار وليس التدخل في شئون الدولة والإخلال بالأمن عن طريق التشجيع أو السكوت عن الاختطاف وقطع الطريق.. ان القبيلة والجماعات الدينية السلفية سبب ما تعيشه البلاد من فرقة وشتات ومآسٍ. 4- لابد من محاسبة كل من ارتكب جريمة أو اغتصب أرضاً، فمبدأ المحاسبة مبدأ ديني أصيل، فقد شرع الله الحدود لردع الناس في الدنيا عن ارتكاب الجرائم بحق العباد. 5- لابد ان تعمل الدولة على إعادة نشر المنافع لتشمل الجماعة الوطنية الأوسع لتتأكد من خلالها الهوية الوطنية الأكبر، وهذا كفيل بتحصين المجتمع ضد ثقافة الكراهية والانقسام.