قبل ملايين السنين وعندما تكونت الأرض بشكلها الحالي كانت جبل حبشي ضمن المناطق التي شملها التغيير الإلهي لهذا الكوكب الذي نعيش فيه... وبعدها بآلاف السنين وتحديدا عند قيام حضارة سبأ وحمير كانت جبل حبشي ضمن المناطق التي شُيدت فيها حضارتهم والدليل الآثار والنقوش الموجودة إلى الآن... واستمرت عجلة الحياة، وقامت حضارات، وتغيرت دول، وسقطت أخرى، وتعاقبت على التاريخ اليمني كثير من الدول والدويلات حتى قامت الثورة ضد آل حميد الدين في بداية ستينيات القرن الماضي وجبل حبشي لا تزال كما هي محتفظة بأصالة التاريخ الحميري ولم تتأثر بالثورة لا من قريب ولا من بعيد وكأنها خارج حدود الزمن وعلى هامش التغيير.. الطرق الجبلية والتي كانت تسير بها رحلات (الشتاء والصيف) لا تزال كما هي.. عدا بعض (خربشات) يسمونها طرق للسيارات على حساب (الغلابى) من المواطنين.. وما إن تصل السيارة إلى قرية من القرى حتى تسمع لها أنين الثكالى وصرخة الجياع.. فينتقم أصحابها من المواطنين بزيادة الإيجار فترتفع بالتالي قيمة المواد الغذائية ومواد البناء حتى ترى في الأسعار هناك عجب عجاب وكأننا نعيش في دولة أخرى داخل الدولة... بينما يطالع الزائر لهذه المديرية الجميلة انعدام المستشفيات والمراكز الصحية رغم أنها ذات كثافة سكانية عالية وتنقسم إلى دائرتين انتخابيتين وتجاورها أكبر مديرية في محافظة تعز وهي مديرية مقبنة وهي الأخرى أشد سوءا من سابقتها.. وآخر ما وصل إلى هذه المديرية من الخدمات الصحية هو علاج فعال لجميع الأمراض الفتاكة والمزمنة فلا يكاد منزل يخلو منه في جميع حالات المرض وهو "البندول" والذي يوصفه (دكاترة) القرى لجميع الحالات ولجميع الفئات العمرية النساء والشيوخ والولدان... ويطالعك أطباء متجولون رفضوا الاعتراف بشركات الأدوية العالمية باعتبارها شركات نصب واحتيال تصنع الداءوالدواء لأهداف فتراهم يفترشون الطرقات ويطرقون أبواب المنازل لعلاج المرضى بالأعشاب والتمائم والرقي.. وأما عن التعليم فحدث ولا حرج فالطلاب يقطعون المسافات الطوال والهضاب والأودية طلبا للعلم ورغبة شرسة في التعليم فيواجههم الإهمال من قبل إدارة المدارس أو غياب المدرسين الذين انقطعت بهم الطرق خاصة في يوم السبت بعد إجازة الأسبوع والسعيد من وجد سيارة (المقاوتة )تقله من قرية لأخرى لقد رفضت هذه المديرية (البطلة) جميع وسائل العصر الحديث با عتبار ذلك إغواء (عولميا) يفقدها رونقه التاريخ وبهجة الاحتفاء بالموروث الحميري الذي تركته لها حضارة سبأ وحمير.. وإذا كان أبناء المحافظات الأخرى يشتكون من (طفي لصي) فإن أبناء مديرية جبل حبشي لا يوجد بقاموسهم (البلدي) معنى( لصي) أبدا عدا بعض (مواطير) القادرين والمغتربين والذين لحقوا أنفسهم ولم يؤمنوا بنصيحة: (إرجع لحولك)! انعدام الكهرباء في مديرية جبل حبشي أضفى على المديرية ألقا رومانسيا تلحظه وأنت تقف هناك على الروابي الجميلة في قرية العسلي وأنت تتناول كوبا من القهوة على أنغام العصافير الليلية الحالمة، تراقصك شموع الفوانيس الوالهة، وتأخذك إلى عالم تنسى فيه التهميش الذي عانت منه المديرية نصف قرن من الزمان.. وإذا هبطت قليلا إلى قرى بني بكاري الهادئة تسمع لحن خرير الماء في غيل الحبيل وتلاطم الأمواج في السدود المبنية هناك.. فلا يزعج هدوئك سوى (المواطير) التي تمزق سكون ليلك ولكنها سرعان ما تنطفي بسبب غلاء الديزل والذي يعتبر أغلى ديزل في الكرة الأرضية بسبب وعورة الطريق، بل ربما تحول الديزل إلى بنزين لكثرة الرج في السيارات (الشاص) الناقلة له.. نصف قرن من الزمان وعقارب الساعة ثابتة في جبل حبشي ثبوت جبال(شنان المطلة) على قرى العزلة والحبيل في بني بكاري.. ورحم الله جدتي فقد ماتت وهي تقول (الفوانيس) أكثر جمالا من (الكرهباء)- هكذا تنطقها- ورومانسية من الشموع.