لقد مضى أكثر من خمسة عقود على استقلال بلداننا عن الاستعمار الغربي الأوروبي دون أن تحصل قطيعة حاسمة مع موروثه في مجالات تنظيم وعمل الدولة، والثقافة والإدارة والعلاقات الدولية، وفي مجال التنمية بكل فروعها وأنماطها. ويعيد بعض المحللين ذلك إلى ندرة الفكر الموجه والمخطط لآفاق التنمية ذات الخصوصية. وفي هذا الإطار فإن المرء يحس بأن هذا الحكم يغفل بعض الحقائق الواقعية، وفي مقدمتها تلك المحاولات الفكرية لعدد من كبار مفكرينا والتي لم تجد آذانا صاغية، بل فإنها قد أُهملت ولا تزال تعاني من الإهمال، والإنكار حينا، والرفض حينا آخر. ففي الواقع، فإنه لا ينبغي التعميم بهذا الخصوص لأن ثمة بعض التجارب رغم قلتها قد نجحت ميدانيا وأخص بالذكر تجربة الجمهورية التونسية في استثمار الرأسمال الفكري للطاهر الحداد في تحديث القوانين، وكذا تفعيلها في المجتمع التونسي لتطوير الأسرة والمرأة وحمايتها من الإرث الذكوري الظالم والتعسفي. إن هذا مجرد مثال فقط، لأن هناك أمثلة أخرى وإن كانت في مجموعها لا تشكل ظاهرة عربية جمعية منسقة ومتكاملة تعمل في إطار الجامعة العربية، مثلا نحن هنا نتحدث عن حالات قيلة جدا، أما أغلبية الدول العربية فلا تعمل بالمنظومات الفكرية التي أنتجها وينتجها مفكرونا في شتى الحقول ذات الصلة بالبناء الاجتماعي العام. وفي هذا الإطار أريد أن أتوقف عند تجربة فكرية ذات علاقة وطيدة بالسياسة كهندسة اجتماعية وثقافية واقتصادية وصناعية، ألا وهي تجربة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي التي لم تجد بدورها تفعيلا وتجسيدا في الواقع المعيش. فالمفكر بن نبي يربط شروط تحقيق النهضة بكل ركائزها ورافعاتها بفكرة التوجيه. فماذا يعني هذا التوجيه؟ وهل هو مجرد مفهوم، أم استراتيجية فكرية– سياسية؟ ثم في أي مجالات يتجسد هذا التوجيه فكريا، وكيف يعمل وبأية آليات؟ قبل الشروع في تحليل ودراسة هذا المشروع، أي مشروع التوجيه، فإنه لا بد من كلمة حول ضرورة الفكر لتحقيق التنمية ذات الطابع الوطني أو العربي الشامل. من البديهي القول بأن التنميات الحضارية التي وسمت التاريخ بميسمها قد ارتكزت على الأفكار الكبرى ولم تكن مجرد نتاج لرغبة هذا السياسي، أو ذاك المكلف بالتنفيذ. إنه يقال بأن هناك من يحول الواقع إلى فكرة، وهناك من يحول الفكرة إلى واقع. ومما لا شك فيه أن كلا من الفكرة والواقع يتميزان بأنهما يتعلمان من بعضهما البعض. بمعنى أن النظرة الفكرية تعمل في الواقع، وأن التجربة الميدانية تعدّل النظرية، وتصححها إذا أخطأت أو كانت ناقصة. ويدل هذا على وجود ترابط مصيري بين الفكر وبين الواقع في أية تجربة إنسانية. إن الذي نتعلمه من التجارب المتطورة والناجحة في التاريخ البشري القديم، والحديث والمعاصر هو تلك العلاقة الوطيدة بين المشروع الفكري وبين المشروع السياسي بأوجهه الصناعية والزراعية والتربوية والمعرفية وهلم جرا. إذا تأملنا على سبيل المثال الخطوات المتبعة في التجربة الأوروبية لبناء الحس الأخلاقي الديمقراطي، فإننا لا نجد فيها فصلا تعسفيا بين الأفكار وبين تطبيقاتها في الميدان؛ ومن هنا نرى بأن الشرط التاريخي الضروري لإنجاح التنمية ببلداننا يتمثل في توليد الروابط بين الفكر والمفكرين من جهة، وبين ما يدعى في عصرنا بتكنولوجيات السياسة واستراتيجياتها من جهة أخرى. وبهذا الصدد يدعونا مالك بن نبي إلى دراسة العلاقة بين الإنسان والتاريخ، وذلك من أجل أن "نفهم كيف يؤثر الإنسان في تركيب التاريخ". وهنا نفهم بأن هذا التاريخ ليس فقط بالأحداث وإنما هو التنمية أيضا بعناصرها المادية والروحية. فكرة التوجيه: يعرف مالك بن نبي التوجيه بأنه "قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف"، ثم يضيف مبرزا بأن وجود الطاقات لا يضمن نجاعتها إذا لم تتكفّّل ويخطط لها، وتوجه إلى الهدف المقصود بشكل يحقق النتائج المرجوة في الزمان والمكان. ويوضح بأنه "كم طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر ذاته متجهة إلى الهدف نفسه!" وهنا يرى بن نبي بأن الضرورة تقتضي "أن ندير هذا الجهاز المكوّن من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية المناسبة لكل عضو من أعضائه". فالتوجيه كفكرة، لا تنسلخ عن ما يدعوه بن نبي بالمركب الاجتماعي للثقافة الذي يتشكل في رأيه من عناصر أربعة "يتخذ منها الشعب دستورا لحياته المثقفة". وفيما يلي هذه العناصر: 1- عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية، 2- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام، 3- منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام 4- الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع أو الصناعة حسب تعبير ابن خلدون". من خلال هذه المحاور الأربعة تتحدد مضامين التوجيه الذي هو أكثر من مفهموم بل هو أيضا مشروع استراتيجي. إنه من الضروري هنا أن نعي بأن العمل السياسي بما هو فكر نظري وممارسة لا يقدر أن يكون فاعلا بدون اخضاع هذه المحاور المذكورة أعلاه للتفكير الفردي والجماعي، والنقاش العلمي وبالتالي للممارسة الميدانية. بالنسبة للمحور الأول المتعلق بالأخلاق، أو بالأخلاقيات " Ethics" فإنه ينبغي عدم حصره في مدلولاته الفلسفية المحضة، كما يقترح بن نبي، وإنما يليق بنا أن ندركه كقيمة اجتماعية. وهو يلخص الفكرة هكذا: "وليس المقصود هنا تشريح مبادئ خلقية بل أن نحدد قوة التماسك الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، وهذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة الحياة في جماعة عند الفرد". والبعد الأخلاقي كقيمة اجتماعية أو كمحرك اجتماعي يساعدنا أن نفهم بأن الصلات الاجتماعية هي الشرط التاريخي والمادي والمعنوي لانتاج الصناعات والفنون وتحقيق مشروع التنمية المتطورة في جميع الميادين. ويقدم مالك بن نبي فكرة مضمونها أن هذا الأساس الخلقي هو الذي كان القاعدة الصلبة التي قام عليها "صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه بحيث لو ألفينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون". وهكذا، تبدو قوة التماسك الاجتماعي ركنا مركزيا في التوجيه، وفي عمليات بناء أسس المجتمع المنتج للتقدم بكل أنواعه. وعلى ضوء هذا التحليل ندرك أن التوجيه الأخلاقي ليس مجرد إشارات وإنما هو روح الرهانات لتجاوز التخلف وربط الانسان بالتاريخ الذي يصنعه ويصنع موقعه في الحضارة البشرية. وفي هذا السياق ندرك أيضا بأن فكرة التوجيه لضمان التماسك الاجتماعي تفترض عوامل ضرورية وأساسية لكي تتحقق في بنية المجتمع، منها عامل العدالة، وعامل المساواة وعامل الحرية، وعامل المشاركة في صنع القرارات وتطبيقها. وفقا لهذه الشروط تصبح الأخلاقيات قاعدة للرابط الأسري، والترابط السياسي بين أفراد الدولة. ولكن عنصر الأخلاق كما هو في هذا التحليل مرهون بالتوجيه الجمالي الذي يتوقف عنده مالك بن نبي طويلا معدا إياه لبنة من لبنات الوعي المنتج للحضارة والمدنية. والجمال هنا ليس محددا فقط في الأشكال الخارجية وإنما له صلة وثيقة كصلة الكائن بالكون بالصورة النفسية للجمال. وهكذا تكون "الأفكار– بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها– إنما تتولد من الصور المحسة الموجودة في الاطار الاجتماعي والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه. وهنا تصبح صورا معنوية يصدر عنها تفكيره" حسب تعبير بن نبي. وبناء على ما تقدم تصبح الأعمال الخيرية وعمليات الاصلاح الاجتماعي والثقافي والتربوي والبيئي جزءا لا يتجزأ من الفعل الجمالي، تضاف كقيمة إلى الصور الجمالية المتولدة من الابداعات الفنية والأدبية بكل أنواعها وتفريعاتها. إذن، هناك تضافر وتطابق بين الجمال الداخلي في الانسان والجمال الخارجي الذي يصنعه وينتجه في حياته الثقافية والفنية والمعرفية بصفة عامة: "وعليه فإن فكرة المحيط تدخل في كل عمل فردي أو إداري في وسط متحضر، ولكنها تدخل ضمنا فقط– كما رأينا– لا على وجه التحديد الذي نريد القيام به هنا حين نتحدث عن أحد مقومات الثقافة وهو: الجمال". ويضيف مالك بن نبي أكثر بقوله بأن "الجمال هو الاطار الذي تتكون فيه اية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا؛ وأن نتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومفاهيمنا مسحة الجمال نفسها التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي". إنه لا ينبغي عزل السياسة مطلقا عن مفهوم الجمالية كتعبير وكقيمة لأن السياسة في تعريفاتها المتطورة هي علم جمال إدارة شؤون الدولة. ومن هنا يأتي العنصر الثالث وهو ما يدعوه بن نبي بالمنطق العملي؛ بما أن المنطق في التعريف الفلسفي هو علم التفكير الصحيح فإن المنطق العملي هو بالضرورة علم جمال تحقيق شروط بناء الدولة وإرادة مشاريع التنمية. وهنا يقترح بن نبي هذه المعادلة لكي يتجسد المنطق العملي في حياتنا، وهي معادلة الربط بين "الأعمال والأهداف وبين السياسة ووسائلها، وبين الثقافة ومثلها، وبين الفكرة وتحقيقها". وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا بد من توفر دافع آخر للتقدم وهو الفاعلية التي بدونها فإن التنمية تبقى مجرد تصورات وأضغاث أحلام. وهنا يدخل شرط آخر ضمن آلية الفاعلية وهو مفهوم الصناعة؛ وبهذا الخصوص يستند مالك بن نبي إلى تعريفات ابن خلدون، كما جاءت في مقدمته، بأن كل ما يقوم به الانسان ينبغي أن تتوفر فيه شروط الصناعة. وهنا يضرب بن نبي هذا المقال الخاص بصناعة "الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم". إنه يرى بأن "الراعي نفسه له صناعته. ومما يدلنا على القيمة الاجتماعية لهذه الحرفة المتواضة الزهيدة، أن لها مدرسة وطنية في فرنسا". وكما نرى فإنه لا بد من فنون تطبيقية لتحديد الأشكال الملائمة للصناعات. أعتقد أن التنميات في مجتمعاتنا في حاجة ماسة إلى الشروط المقدمة لكي تتجاوز لا منطق الإرتجال إلى منطق العلم والفن، وهذا هو الرهان السياسي الذي بدون توفره لدينا، أفرادا وجماعات وكذلك تنظيمات ومؤسسات، نكون قد أخلفنا الوعد مع المشروع الحضاري الذي تأمل شعوبنا في تحقيقه والعيش في مناخاته الجميلة. عن: "عرب اونلاين"