نظراً للأهمية الإستراتيجية التي تتمتع بها العلاقات اليمنية الخليجية وخاصة في ظل المتغيرات الراهنة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فإن تأهيل الاقتصاد اليمني يمثل الهدف الاستراتيجي والمنشود بالنسبة لليمن من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية وغيرها. وهذا النموذج من التأهيل: هو الأكثر ممارسة في عالم اليوم، وشواهد هذا النموذج بارزة في أنماط التأهيل الاقتصادي لدول أوروبا الشرقية من قبل دول المجموعة الأوروبية ودول الاقتصاد الغربي عموما. ويقوم هذا النوع من التأهيل والتكامل الاقتصادي على أساس قيام القطاع الخاص في الجانبين (اليمني والخليجي) بالدور الريادي والمبادر، ويكون دور الجانب الحكومي مسهل وداعم ومبارك.. فمفهوم التكامل الاقتصادي في هذا الجانب: يعني اتخاذ وتنفيذ كل ما يلزم من سياسات وإجراءات لتحقيق التكامل الاقتصادي بأبعاده الثلاثة المتعارف عليها: التكامل التجاري في السلع والخدمات ، بهدف معالجة الفائض في الإنتاج أو في الطلب على السلع والخدمات بين اقتصاد وآخر، ويتحقق ذلك من خلال تسهيل تدفق الصادرات والواردات بين اليمن والدول المحيطة، واستغلال الميزة النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد اليمني في جانب الإنتاج من السلع والخدمات يشمل ذلك (المعادن والمقالع والمحاجر، وبعض المنتجات الزراعية والصناعية، والأسماك، وخدمات السياحة، وخدمات المنطقة الحرة،....الخ). وهذا النوع من التكامل الاقتصادي عرفه الإنسان اليمني منذ زمن بعيد، بل إن حضارات اليمن القديمة قامت على أساس التكامل التجاري بين إقليم الجزيرة العربية والمناطق الأخرى في العالم المحيط بها آنذاك. فخلال مراحل التاريخ، ازدهرت اليمن عندما انفتحت مع الشعوب المحيطة بها وسهلت حركة سير التجارة ووفرت كل متطلبات وشروط التجارة الحرة والآمنة، كما ارتبط تدهور الأوضاع في فترات زمنية من التاريخ عندما أغلقت نوافذ التعامل مع المحيط الإقليمي وانعدم الأمن والاستقرار. والفترة التي عاشها اليمن من بداية القرن الماضي حتى بداية الستينات منه، خير دليل على أن العزلة التي فرضت على المحافظات الشمالية جعلها تعيش حياة وأوضاع مزرية ومتدنية بكل المقاييس التنموية. وتتسم العلاقات التجارية بين اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي بنمو مطرد بل أنها تتعمق وتتوسع منذ بداية الطفرة النفطية الأولى في منتصف السبعينات من القرن الماضي وحتى اليوم، فخلال السنوات الخمس الماضية 2000-2005 ارتفعت قيمة التجارة الخارجية البينية بين اليمن ودول مجلس التعاون من حوالي 145 مليار ريال (896.7) مليون دولار عام 2000 إلى 271 مليار ريال (1411.5) مليون دولار عام 2005، وحققت معدل نمو سنوي متوسط 11.5%، وهو معدل يفوق معدل التبادل التجاري العالمي بحوالي الضعف خلال نفس الفترة. ومن خلال قراءة البيانات الإحصائية خلال الفترة 2000-2005 يمكن تحديد خصائص التجارة الخارجية البينية بين اليمن ودول المجلس بالتالي: * تشكل قيمة صادرات اليمن إلى المجلس بالمتوسط حوالي 25% من قيمة الواردات من دول المجلس، وهذا يعني أن حجم العجز التجاري كبير جداً ولصالح دول المجلس. * تحقق اليمن عجزاً تجارياً مع كل دولة من دول المجلس إلا أنه يتفاوت في قيمته وحجمه من بلد إلى آخر، في حين حقق الميزان التجاري اليمني فائضاً بلغت نسبته بالمتوسط (2.4 %) من الناتج المحلي خلال الفترة 2000-2005. * إن قيمة الواردات من دول المجلس شكلت بالمتوسط 34.3% من إجمالي الواردات من دول العالم، وتتنوع الواردات من دول المجلس لتشمل كل المجموعات السلعية يأتي في مقدمتها الآلات ومعدات النقل والمواد الخام والمصنوعات اليدوية. * إن حجم الصادرات إلى دول المجلس تشكل بالمتوسط 7.4% من إجمالي الصادرات السلعية لليمن، وذلك بحكم أن الصادرات اليمنية معظمها صادرات النفط والتي تشكل أكثر من 90% من إجمالي الصادرات. تكامل أسواق العمل من خلال تسهيل حركة القوى العاملة بين اليمن ودول مجلس التعاون لمعالجة فائض العرض في سوق العمل اليمني وسد فجوة الطلب في السوق الخليجي، بهدف التخفيف من حدة البطالة وأثارها في المجتمع اليمني والاستفادة من عوائد خدمات العمل (تحويلات المغتربين، تعزيز الاحتياطيات الرسمية، تحقيق استقرار في ميزان المدفوعات، توفير موارد إضافية للاستثمار المحلي...). وقد برز هذا النوع من التكامل إبان الثورة الصناعية في بعض دول أوروبا، واحتياج قوى السوق المنتجة إلى العمالة التي توفرت من الاقتصاديات المحيطة. وتزايد ذلك النوع من التكامل في شكل أفواج الهجرات الأوروبية إلى مناطق العالم الجديد في الأمريكيتين بحثاً عن فرص العيش والعمل. وتاريخياً، عرف عن المجتمع اليمني ممارسته لهذا النوع من التكامل من خلال الهجرة نحو مناطق الرواج والجذب الاقتصادي، فتارة نحو شرق آسيا وأخرى نحو القرن الأفريقي، وبعدها اتجهت الهجرة نحو أوروبا وأمريكاً. وأخيراً خلال الطفرة النفطية في السبعينات من القرن الماضي، اتجهت موجات الهجرة نحو مناطق الخليج العربي، مجسدة في ذلك أعلى مستوى من التكامل في سوق العمل بين اليمن والدول المنتجة للنفط في الخليج وتحديداً السعودية والكويت والإمارات. فمنطقة الخليج العربي مثلت المنفذ التقليدي تاريخياً كمصدر للطلب وكمجال للتنفيس من تزايد عرض قوة العمل في السوق اليمني. إلا أنه ومنذ عام 1990، تغيرت الكثير من الترتيبات في العلاقات الثنائية بين اليمن ودول الخليج، والتي كانت تعطي ميزة نسبية لعنصر العمل اليمني في سوق العمل الخليجي وخاصة في السوق السعودي، مما أوجد الكثير من العوائق التي تحد من سهولة انتقال العمالة اليمنية على المستوى الإقليمي، وأدت إلى تعقد إجراءات الهجرة، وعدم وضعها ضمن الخيارات المفضلة للعمالة الوافدة، رغم أن سوق العمل الخليجي عامة، ما يزال يستوعب عمالة كبيرة قادمة من شرق آسيا وليست بالضرورة عمالة ماهرة ومدربة. وتوضح البيانات أن قوة العمل الأجنبية تفوق حجما قوة العمل الوطنية في كل دول المجلس، حيث تبلغ أعلاها في قطر والإمارات حوالي 90% وفي الكويت قرابة 80% وتصل في السعودية إلى 55% . وهوا ما يتطلب تفعيل الحوار والشراكة مع دول المجلس لإعادة النظر في القيود والحواجز أمام الاستفادة من خدمات القوى العاملة اليمنية فيها. وبالمقابل فإن التطورات في سوق العمل الخليجي وتنامي الطلب على المهارات النوعية والمتخصصة، بدأ يجذب الكفاءات اليمنية المؤهلة والمدربة في عدد من المجالات (الأكاديمية، الهندسية، الطبية، تقنية المعلومات....الخ)، وهذا يعني أن هناك فرصاً متاحة لتطوير وتوسيع مؤسسات حديثة لتنمية الموارد البشرية في مجالات معينة وتوجيه مخرجاتها تجاه كل من السوق المحلي أو الإقليمي. تكامل أسواق النقد ورأس المال: والمعبر عن حجم المبادلات والمعاملات في أسواق النقد ورأس المال بين العديد من البلدان "نموذج دول الاتحاد الأوروبي مع بعضها والتكامل بين أسواق الأوراق المالية في الدول الصناعية، وإقليمياً التكامل القائم بين دول مجلس التعاون الخليجي)، وهذا النوع يعتبر من أحدث صيغ التكامل الاقتصادي بين البلدان وما يزال ينمو باستمرار، وأصبح يشكل أضعاف حجم التبادل التجاري السلعي العالمي. ففي عام 2005، بلغ حجم المبادرات في أسواق النقد، ورأس المال في العالم حوالي 136 تريليون دولار، بينما يشكل حجم التبادل التجاري السلعي حوالي 24 تريليون دولار. وهذا النوع من التكامل الاقتصادي ما يزال متواضعاً بين الاقتصاد اليمني واقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي تحديداً، أو الدول الأخرى بشكل عام. وتحقيق تقدم في صيغة هذا النوع من التكامل يتطلب إعادة هيكلة وتأهيل واسع للاقتصاد، سواء في صورة سياسات أو تشريعات وقوانين أو بنية تحتية لازمة والتي تشمل بنية تحتية في تقنية المعلومات أو في إنشاء المؤسسات ذات العلاقة مثل سوق الأوراق المالية وهيكلة النظام المصرفي والبنكي. متطلبات تأهيل الاقتصاد اليمني في إطار هذا المحور: يتطلب تأهيل الاقتصاد اليمني ليكون قادراً على التكامل والاندماج مع دول مجلس التعاون الخليجي في الأبعاد الثلاثة المذكورة، عدد من الإجراءات.. يمكن وضعها في المكونات التالية: أ- برامج الإصلاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة لتحفيز النمو الاقتصادي. ب- سياسات تعزيز المساءلة والشفافية لتحسين منظومة الحكم الجيد. ج- سياسات وبرامج جذب وتشجيع الاستثمارات (المحلية، الإقليمية، والدولية). د- سياسات وبرامج تنمية الموارد البشرية وتأهيلها للمنافسة على المستوى الإقليمي. وهناك حاجة لتحليل المكونات السابقة في حالة اقتصاد دول مجلس التعاون لمعرفة الجوانب الموجبة لإعادة التأهيل أو إعادة الهيكلة في الاقتصاد اليمني حتى يتمتع بقدر مقبول من المزايا والسمات السائدة في اقتصاديات دول الخليج، وحتى نستوعب بعض الدروس المستفادة من نتائج تنفيذ مثل تلك البرامج والسياسات. مستجدات اقتصاديات مجلس التعاون الخليجي- الدروس المستفادة خلال السنوات العشر الماضية مرت اقتصاديات مجلس التعاون بمستجدات وتطورات ساهمت في تعزيز التنافسية وتعميق تشابكه مع الاقتصاد العالمي ومن تلك المستجدات: اتجاهات النمو الاقتصادي: تشير التقارير الدولية أن دول مجلس التعاون الخليجي حققت معدلات نمو اقتصادي عالية خلال الفترة (2000-2005)، مع تفاوت في أداء الدول الأعضاء، وحيث تراوح معدل النمو المتوسط بين 5.3 في السعودية و9.3 في قطر في عام 2004م، وهذا الأداء لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي يجسد ما يصطلح عليه في الأدبيات الاقتصادية بمرحلة "الرواج الاقتصادي" والتي تمثل إحدى درجات ما يسمى "بالدورة الاقتصادية" والتي عادة ما تحتوي على فترات الكساد والانتعاش ثم الرواج، ثم البدء في دورة اقتصادية جديدة وهكذا. وبدون الدخول في تفاصيل تحليل أسباب ذلك الانتعاش، إلا أن السبب الرئيسي وراء ذلك يعود إلى تزايد أسعار النفط في السوق العالمي خلال السنوات الخمس الماضية، بمعدل بلغ بالمتوسط (108%). فاقتصاديات دول الخليج تعتمد على النفط كمحرك رئيسي لدينامو النشاط الاقتصادي والتنموي، وتحققت عوائد عالية خلال الفترة (2000-2005) بلغت أعلاها في عام 2005 حوالي (300) مليار دولار، وإن كان الاقتصاد السعودي يستوعب أكبر من نصف تلك الفوائض، باعتباره الاقتصاد القائد في منطقة الخليج. حيث يشكل الناتج المحلي للاقتصاد السعودي قرابة (56%) من إجمالي الناتج المحلي للدول الخليجية. ومما سبب الانتعاش أيضاً، تراجع الاستثمارات العربية والخليجية في الاقتصاد الأوروبي والأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م وتوجيه رأس المال العائد نحو اقتصاديات المنطقة، حيث تشير التقارير إلى أن حجم الاستثمارات العربية في الخارج تتراوح بين 400-600 مليار دولار. برامج وسياسات إعادة هيكلة الاقتصاد الخليجي: تبنت دول مجلس التعاون الخليجي برامج إصلاحات اقتصادية وإعادة هيكلة للجهاز الاقتصادي، يقوم على أساس إعادة تخفيض الإنفاق العام وتوجيهه نحو تنمية القطاعات الاجتماعية وتعزيز مشاريع البنية التحتية، وكذلك اتخاذ إجراءات جريئة وفاعلة في برنامج الخصخصة للمؤسسات العامة وإعطاء مجال أوسع للقطاع الخاص في قطاعات كانت تقليدياً ضمن مهام مؤسسات القطاع العام، مثل الاتصالات والكهرباء، والنقل الجوي والخدمات المرتبطة به (برنامج الخصخصة في الاقتصاد السعودي مثالاً على ذلك). تطوير أسواق رأس المال: منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي قامت دول المجلس بتحرير سوق رأس المال واعتماد تشريعات وقوانين ساعدت في جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة إلى دول المجلس وإلى تسهيل انتقال رأس المال بين دول المجلس ذاتها وخلال الفترة 2001-2005 حدث انتعاش مذهل لأسواق الأوراق المالية بشكل غير مسبوق، حيث ارتفعت القيمة السوقية لأسواق البورصات الخليجية من حوالي 119 مليار دولار عام 2000م إلى حوالي 1.46 تريليون دولار عام 2005. أي أن القيمة تزايدت حوالي تسعة أضعاف خلال الفترة المذكورة. سياسة تحرير التجارة الخارجية: تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي سياسة تحرير التجارة الخارجية بالإضافة إلى أنها تحقق فوائض في الحساب الجاري وميزان المدفوعات بفعل الصادرات النفطية، وهذا أهل للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، واتخاذ الترتيبات لتوقيع اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي وساعد ذلك بعضها لتوقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية مثل البحرين وعمان ويجري تفاوض بقية الدول لتوقيع تلك الاتفاقية، مما يفتح مجالاً أوسع للنشاط التجاري وتعزيز أوجه النشاط الاقتصادي بشكل عام في دول المجلس. كفاءة وفاعلية النظام المصرفي: تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بنظام مصرفي فعال ومنافس إقليمياً ودولياً، ويتسم بكفاءة مالية عالية، فعلى سبيل المثال في عام 2003م بلغ حجم الأصول الخارجية لدى البنوك التجارية حوالي 83 مليار دولار، وحجم الودائع حوالي 222 مليار دولار، وبالمقابل بلغ حجم الائتمان المصرفي المقدم لمختلف القطاعات الاقتصادية حوالي (187) مليا دولار، أي أن نسبة القروض إلى الودائع تصل إلى (84%) وهذا يعكس الكفاءة العالية للنظام المصرفي في إعادة تخصيص المدخرات في أوجه الاستثمارات التنموية المختلفة. تطوير تقنية المعلومات والتجارة الإلكترونية: خلال السنوات الأخيرة تطور استخدام تقنية تكنولوجيا المعلومات في اقتصاديات دول الخليج، مما عزز من ارتباطها وتشابكها مع الأسواق والاقتصاديات الدولية، وانعكس ذلك إيجابياً على تزايد حجم التجارة الإلكترونية. وتدفق وانسياب السلع والخدمات ورأس المال من المنطقة وإليها. وتشير الدلائل إلى أن القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي يتفاعل مع متغيرات التكنولوجيا والتقنية الحديثة، وتجسد ذلك في الطرق والأساليب غير التقليدية المتبعة في التجارة والاستثمار وتزايد عدد الداخلين إلى سوق الاستثمار من الشباب الذين يشكلون مع البنية التحتية وتقنية المعلومات ما يسمى بالاقتصاد الرقمي. الثورة ........................... *وكيل وزارة التخطيط والتعاون الدولي وأستاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء.