عصر يوم بعيد من شتاءات يناير , همت السماء بوابل من طيور خضراء فبدت كأنها تطير !! , وكانت اقرب إلى التحليق المرح تداعيا مع زرقة المساء وبدايات الغسق. لم يكن يناير رديف النوارس الخضراء فقط ، بل كان مزاجا لروائح مغايرة للمألوف ، فالبحر الذي على مده وجزره الأبدي طفا على اليابسة متاخما رفوف الحجارة الخشنة المتعرجة ، متحيزا في فراغات الطحالب والحلزونات ، والمياه المسكوبة على مدى النظر بدت ناصعة كصفاء المغيب الأول عندما ولد الكوكب بوصفه أول صدور كوني لعبقرية الطبيعة ، ولمعات لطيور تشاكلت ألوانا من بهاء وزرقة وأقواس قزح ، والقوارب الخشبية تهادت مع الأمواج العاتية ، فيما تدانت أغصان الشجر وتدلت بحمولاتها الثقيلة ، فأكست الأرض ثمارا وتمددت عند أقدام الرمال الكابية . عصر ذلك اليوم القريب البعيد تسامت مدينة الليل والمرايا , وتوحدت مع خرافة الغموض ونواميس التاريخ الجديد, ولقد كانت الأبعاد متسعة كالفجوات السوداء ، والأيام طويلة ثقيلة كالعاديات والصروف , والنهارات تنخلع من رونق ضيائها متدثرة بالرماد . كان يناير الأول اسم آخر لاسم مفقود ! ، زمنا للمتاهات والتطيرات ، فلقد تخلت النوارس عن أجنحتها , وسافرت أسراب الطيور إلى مجاهيل الغياب بدلا من دفء أعشاشها، وتوازت نتؤات القهر مع أنسام الفجر ، فإذا بالمحنة تنين يخرج من تضاعيف الجنون ، يعصف بالعواصف سارحا في ملكوت الدمار الشامل . ي مثل لساعة من دهر الدهور كان للطفل المتوثب أن يبحث عن زهرة الربيع بين أكوام الرمال , وللمروج أن تنحسر أمام مد الطغيان وفقه العصبيات . ما حدث في مدينتي الجميلة يعيدنا مرة أخرى إلى دهاء التاريخ وعنفوان قوانينه الصارمة ، تلك القوانين التي تأخذ مجراها العاتي حالما نباشر الرفض لروعة الزمان وحكمة السماء. وقف الرائي ( ابن خلدون ) عن عتبات مدينتي بعد أن شاهد توقعاته ، وسافر (ميكيافللي) إلى ( عدن ) على جناح السرعة يتقرّى ما كان في أضابير الدبلوماسية المتوحشة ، وتخلى ( ماركس ) عن حلمه الطوباوي بعد أن ارتكست أفكاره إلى مستوى العصبيات القبلية المفارقة لناموس القبيلة والفضيلة ، وصاح المنادي في قمة جبل (شمسان ) وهو يقول : يأهل الجبل . بينكم والمستقبل طود راسخ وجبال أعتى وأعلى، وبين المستويين فراغ قاتل. فماذا انتم فاعلون ؟؟