كانت النوارس البحرية جزءا هاما من حياة الطفولة في "عدن " و " الحديدة " و " المكلا " وكامل المدن البحرية في اليمن، مترافقة مع البحر والاصطياد . فإذا ما حلقت تلك النوارس بأعداد غفيرة على الساحل كان ذلك بمثابة إشارة لوصول الصيادين . وإذا ما انحسرت راجعة إلى المجهول كان ذلك إشارة إلى أن البحر بدأ في مده الهائل وأمواجه الكبيرة .. وإذا ما شاهدنا أجنحة تلمع في بدايات الليل دل ذلك على عودة النوارس إلى أماكن نومها . أحيانا تقوم النوارس باصطياد الأسماك حيث تندفع كالصاروخ إلى الماء بعد أن تكون قد عاينت فريستها وحددت مكانه بدقة .. لكنها قبل أن تباشر تلك العملية تبدأ في تحليق استكشافي مثير جميل حيث تتقاطع عشرات النوارس في طيرانها المنخفض ومناوراتها الرشيقة وهي ترسم لوحة رائعة من خلال أجنحتها الممدودة وأجسامها الرشيقة . النورس التائه كان حالة استثنائية .. لكنها الحالة الوحيدة التي لم أجد لها تفسيرا .. واذكر غير مرة من أيام الطفولة أن نورسا كان يحلق وحيدا في دائرة واسعة من الفضاء .. ويظل يحلق على هذا المنوال دون أن نعرف سببا لذلك . مرات كثيرة أفكر في مثل هذه العزلة .. هل هي قسرية أم إختيارية ؟ .. وهل تفعل النوارس ما نفعله نحن البشر الذين نجد أنفسنا في استغراق تام في الأحزان المكبوتة والعزلة القاتلة . هذه الأيام تزداد الظاهرة اتساعا .. ويكثر المهاجرون في دواخلهم حزنا أو هربا من الحقيقة .. أما المغادرون خارج مرا بع الطفولة والصبا فإنهم يتكاثرون كالنوارس الشاردة . لاشيء يوحي بالطمأنينة حتى وان ازدادت الإمكانيات المادية وكثرت المغريات .. فلقد افتقدنا البراءة الاولى ولم نعد نميز بين الألوان أو ننصرف لمشاهدة نوارس البحر التي كانت يوما ما تمثل أجمل منظر يرافقنا في الصحو والمنام . لم يعد البحر مكسوا بالطحالب الخضراء وعامرا برائحته المتميزة لأننا أصبحنا نزرع في البحر ونحرث فيه ونطارد كائناته الحية سواء كنا بحاجة لها أو لمجرد الإكثار من المحصول . النوارس البحرية خير شاهد على ما إقترفناه .. والنورس التائه هو التعبير الكامل عن أفعالنا المجنونة وأحوالنا النفسية.