تعيش كثير من شعوب العالم حالة تنمية وتطور اقتصادي نتيجة استيعابها للمتغيرات المحيطة بها، فسعت جاهدة إلى كسر حاجز التباين بين وضعها الداخلي ومحيطها الذي تعيش فيه وباقتدار تمكنت من اقتناص كثير من الفرص الايجابية المحيطة بها واستثمار ذلك بأسلوب رائع ومصبوغ بالصبغة الذاتية. فخلال عقود من الزمن خطت كثير من تلك الدول خطوات للأمام بينما كثير من الدول المشابهة وفي نفس العمر الزمني ما تزال متعثرة، إن استغلال الموارد المتاحة مع تحديد الأهداف والتخطيط السليم لذلك كفيل بنجاح أي دولة مع توفر اليد العاملة المدربة والمخلصة، ولا يمنع أن تقتبس أي دولة نموذج إداري أو اقتصادي ناجح من دولة أخرى متقدمة وتحاول إعادة صياغته بالشكل الذي يتوافق مع ثقافتها المحلية.
كثيرا من دول منطقة جنوب شرق آسيا تعيش حالة محاكاة وتتبع للنموذج الغربي في اغلب المجالات العلمية الحديثة، فقد أجادت التقليد للنموذج الغربي في تطوره ونموه غير متناسية صبغ تجاربها تلك بقوالبها المحلية، ولكي يحققوا شي لأوطانهم- وكما قيل عنهم - فقد كانوا تلاميذ في تجربتهم لأساتذة التقدم العلمي في مدرسة بناء الأوطان في عصرنا الحاضر. وكنتيجة لذلك اقتبسوا بعض النماذج الأوربية منها أو الآسيوية في مجالات شتى مثل الإدارة والتسويق والهندسة بشتى فروعها وتكنولوجيا الحاسوب ومجالات أخرى فاخذوا يطبقوا تلك النماذج عن فهم ودراية فحققوا الكثير على ارض الواقع، ومخرج طبيعي لذلك الوضع أن يلمس الإنسان تنمية تكاد تكون شاملة وفي كل القطاعات محسوس أثرها على حياة الفرد والمجتمع. وإذا اقترب الإنسان ونظر بعمق أكثر لعرف أن الأسباب الفعلية لذلك هو التسلسل الإداري الواضح في كل المرافق مما ينعكس في سهولة التنفيذ ويسابق ذلك كله وجود أهداف محددة لكل وزارة ومؤسسة وهيئة. في ظل بيئة عمل مستقرة وواضحة المعالم مع وجود موجهات عمل محددة فان أهداف كل منظمة (عامة أو خاصة) تكاد تحقق وبنسب عالية، هذا الوضع عكس نفسه على نجاح تحقيق أهداف الخطط التنموية الاقتصادية المتلاحقة والرقي بكل قطاعات الاقتصاد المختلفة وبالتالي حصلت ثورة تنمية تكاد تكون شاملة مادية وبشرية وصاحب ذلك أيضا تأثيرات بينية ايجابية – حيث أثرت بعض القطاعات الناجحة على القطاعات الأخرى – أثرت وسرعت في تطور يكاد يكون متساوي في كل المناشط الاقتصادية كلها. كل هذا حقق زيادات في الناتج القومي بصورة مطردة من حين لآخر. ولاشك في انه قد يحصل قصور– وهذا وارد في أي اقتصاد - في تحقيق بعض الأهداف لكن يتم استيعاب ذلك القصور ومعرفته وتقييمه ومعرفة أسبابه لتجاوز ذلك وتلافيه مستقبلا. الإدارة الفاعلة أداة بناء للأوطان توظف كل موارد المجتمع للنمو والتطور مع قدرة على توظيف الفرص المتاحة وتجنب المخاطر التي تفرضها المتغيرات الخارجية، يحدوا منفذوها (من الأيدي العاملة) الأمل لوطن ارغد ومستقبل وظيفي امن وحياة كريمة للأجيال القادمة، بلدان مثل بعض دول جنوب شرق آسيا قد أسست لبنى تحتية واستثمرت ذلك إيجابا وبالتالي قد تجاوزت حد معين في التقدم ووصلت إلى مرحلة محاولة منافسة الدول المتقدمة ولو جزئيا ووضعت لنفسها مكان يكاد يكون مميز بنكهة خاصة ذات صلة بالإنسان الآسيوي. بما أن الإنسان هو الاستثمار الحقيقي ونقطة الانطلاق في أي تنمية تبدأ بالإنسان ذاته بالإضافة إلى وجود الأرضية الصالحة للإبداع والإنتاج لذا فان الفرد العامل (اليد العاملة) وبيئة العمل في هذه الدول تتصف بكثير من الصفات الايجابية هي حقيقة انطلاق تلك الدول بل هو سر كل ذلك النجاح ومن هذه الصفات التأهيل المتواصل والمخطط للأفراد في شتى المجالات وغرس حب العمل والولاء له مع إيجاد قاعدة ثقافة العمل بين كل الأعمار مع وضع محددات واضحة لكل مهمة يراد إنجازها فتحول الجميع إلى فرق عمل – كلا فيما يخصه - في بيئة إنتاجية مهيأة مما جعل كل فرق العمل المختلفة إجمالا تتحول من تحقيق هدف إلى آخر عبر الزمن وهكذا من نجاح إلى آخر وفي كل مرافق الدولة المختلفة. ومن الصفات المهمة التي يتصف بها كثير من الأفراد الفاعلين في تلك المجتمعات هو محاولة تناسي ونكران تامين للذات رغم أنهم خدموا بلدانهم في صمت وهدوء، ومن الملاحظ أيضا انه لكي يبقى العمل مستمرا وبوتيرة عالية فان أهداف المنظمة المحددة في أي قطاع اقتصادي هي الموجه الفعلي للجميع والمتحكم الفعلي بأداء الكل كونها معايير أداء لهم ولأجلها – أي أهداف العمل ومحدداته - يبذلون جهودهم فهي مؤشر نجاح لهم جميعا. بل إن تلك المحددات هدف لكل الأطقم الإدارية الحالية والمستقبلية والتي تتعاقب على هذه المؤسسة أو تلك من وقت لآخر، فمهما تغيرت الشخوص والأفراد في الأداء عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة هنا أو هناك لكن تبقى معايير العمل وأهداف العمل تحكم الكل فالجميع يعرف دوره المحدد ويحترم تلك المحددات والأهداف، الشئ الملفت للنظر– وهو شي طبيعي نتيجة ذلك الواقع - انه في حالة تغيير مدير مكان آخر فان وتيرة الأداء والإنتاج لا تتأثر كثيرا بكل ذلك وذلك بسبب وجود تلك المحددات والأهداف الواضحة للجميع والتي تحد وتقلل من الإعاقات بسبب النزعات الإنسانية وحالة المزاجية والتحيز البشري للنفس والتي لا تخلوا منها أي بيئة عمل في حال تغيير فرد مكان آخر في أي مرفق حكومي أو خاص. صادفت احدهم هنا في ماليزيا وكان قد ترقى إلى منصب جديد (منصب مرموق) فهنأته بمنصبه الجديد فقال لي الأمر لا يحتاج تهنئة فنحن هنا للعمل وفتح معي موضوع آخر للنقاش. فتذكرت انه لا يوجد نجاح إلا خلفه أسباب كثيرة والإنسان بهذه المعاني هو السبب الحقيقي في صنع ذلك النجاح. وما أثار إعجابي (وهو لب الموضوع هنا) هو أن المدير القديم مكان تقدير المدير الجديد ويعتبره أستاذا له وذلك لضمان استمرار العمل وتواصله لتحقيق الأهداف المحدد للمنظمة فانه يستمر التعاون بين الاثنين لأجل نجاح العمل بل يعملوا كفريق واحد وهي تكاد تكون ظاهرة سائدة في التعاون هنا.
أما إذا انتقلنا إلى حالنا في كثير من بلادنا العربية - وكما قيل عنا – فإننا مازلنا نتعامل مع مخرجات الحضارة المادية بحيادية تامة كمستهلكين فقط، حيث يلبي السوق العالمي احتياجاتنا الاستهلاكية كان ذلك السوق الغربي أو الآسيوي. فلا أصبحنا تلاميذ في مجال التكنولوجيا أو غيره مثل حال دول جنوب شرق آسيا ولا إننا أقحمنا أنفسنا حتى في تلبية الاحتياجات الضرورية الحالية أو التأسيس لإشباع حاجات الأجيال القادمة. مع العلم إن الكثير من الدول العربية تملك كل عوامل الانطلاق لتحقيق ذلك، حيث تمتلك موارد تؤهلها لإشباع احتياجاتها إلى جانب إمكانية محاكاة أي نموذج ناجح للتأسيس لقاعدة صناعية أو اقتصادية، لكن في اغلب دولنا العربية يحدث العكس حيث يتم ترحيل كثير من الأهداف الاقتصادية من خطة اقتصادية إلى أخرى عبر الزمن وذلك بسبب تعثر التخطيط وعدم القدرة على التنفيذ إلى جانب عدم الاستقرار المطلوب، إلى جانب انه يحكم الجميع الوضع المزاجي – مع عدم احترام قوانين العمل - والذي يكاد يكون سيد الموقف والذي يمثل السبب الفعلي في ذلك التدني والتخبط الإداري كله. لا ينتقد أي إنسان تلك الدول التي لا يوجد بها موجهات عمل ولوائح وقوانين وأهداف عمل واضحة لكن ما حجة الدول التي تمتلك كل ذلك بل ورصدت له ميزانيات ضخمة لإخراجه لحيز الوجود ثم لا يعمل بها أو لا تحترم، فهي قاسمة الظهر والطامة على اقتصاد أي مجتمع والمخرج من ذلك هو بمراجعة النفس والإعداد من جديد للأفراد في كيفية احترام القوانين والأنظمة وهذا يحتاج إلى وقت وجهد وإخلاص. وأما أم المصائب فتحدث عندما يتم - في بيئة كتلك - تغيير مسئول مكان آخر فهي كارثة حقيقية تحل بهذا المسئول ومن حوله من أقاربه وأحبابه وأصحابه بل يتحول إلى حدث المنطقة والموسم - إن جاز التعبير- ويعتبر موضوع مثير يتناقله الناس في مجالسهم أما لتشفي أو للإشادة، فالمسئول الجديد قد يصنف في عيون الآخرين أما انه ملاك أتى من كوكب آخر فتح الله به لأصحاب المحسوبيات أبواب وأبواب أو انه عبقري كان له وصفة سحرية مارسها لكي يناسب ذلك المنصب فالكل متأثر بسحره والبعض يصنفه على انه ملهم ولد ومعه تلك المهارات المخصصة لذلك المنصب. بكل تلك التصنيفات المحيطة بهذا المسئول الجديد وكونه جديد فانه يحب التجديد في كل شي في مؤسسته، لذا في عهده كل شي يصبح جديد. وتحت حجة التجديد نراه يقصي من يريد ويقرب من يريد حتى يصل الأمر إلى أن يأتي على كل أفراد المؤسسة بأكملها أما بالتغير للأدوار أو بالتسريح من العمل، لذا يصل الأمر إلى تجديد أهداف المؤسسة بما يتناسب مع توجهات ورؤى المسئول الجديد بما يتناسب مع العهد الجديد. أما المسئول القديم فانه يتحول إلى إنسان مجذوم في نظر الجميع فالكل يبتعد عنه كونه أصيب بمرض التغيير وخوفا من العدوى فانه يجب اجتنابه، والضحية الكبرى هي المؤسسة أو الوزارة أو المنظمة محل التغيير فإنها تتحول إلى قشة في مهب الريح تتقاذفها الأدوار والأهداف واللوائح والأنظمة القديمة والجديدة فيكاد يتوقف عطائها للمجتمع ولا تحقق الأهداف التي أنشئت من اجله. فتجدها عائمة بين العهدين القديم والجديد فالأعمال تتغير تبعا لتغير مزاجية المسئول الجديد وتبعا لذلك تتغير وسائل التنفيذ والياته مما يؤدي إلى إعادة الزمن إلى الوراء والعمل من نقطة الصفر وكل ذلك فقط ليعلم الناس انه حصل تغيير، فالتجديد هنا يعكس ملامح المرحلة والحقبة الجديدة ولو أدى ذلك إلى العبث بموجهات العمل الأساسية، مما يفقد العمل التسلسل في تنفيذ المهام وتتابعه، وقس على هذا كل المؤسسات في كل القطاعات بما يسبب في تأخر تنفيذ الأهداف الاقتصادية وتعثر العمل وإهدار الموارد. بلادنا اليمن تعاني كثيرا مما ذكر أعلاه مثل كثير من دول العالم الثالث، إلا أن اليمن ربما كانت محظوظة أكثر من غيرها بحصولها على دعم كبير من دول مانحة عدة إلى جانب قدوم رأسمال مستثمر أيضا، فهي إذا فرصة لليمن أن ترتب لذلك أمرها وتعيد تنظيم ولو شي من حالها فيما يتعلق باستثمار الإنسان اليمني وإعداده من جديد بما يتلاءم مع المرحلة الحالية والمستقبلية مع محاولة الاهتمام بالبنى التحية ولو تجهيز أهمها أو توجيه شي من هذه الاستمارات نحو ذلك. وذلك للانطلاق مستقبلا نحو الأمام، وهكذا خطوة خطوة وعبر الزمن لابد ما نصل إلى تحقيق كثير من الأهداف إذا وجدت الإرادة والإخلاص وفي اليمن كثير من المخلصين ومن هم في مستوى المسئولية أيضا.