عنوان رواية هبة عليوة (أنا الآخر) ومقدمة وبدايات الرواية توحي بتوقع كثير من الثراء في السرد.. لكن متابعة عملها قد تجعل القارئ يفتش عن العمل القصصي المترابط. أنها تقول الكثير لكن بتنافر ودون اتساق وانسجام واضحين. وإذا كانت الكاتبة -التي يبدو أنها من المغرب العربي إذ أن دار النشر لم تذكر جنسيتها- سعت إلى الإتيان بنظرات عديدة في الحياة وما بعدها فقد حققت بعض ذلك لكنها لم تقدم لنا رواية متكاملة منسجمة. في الرواية وعد بدا على شكل تلويح فلسفي بتقديم شخص يعيش حياة الآخر. يبدو الأمر في البداية وعدا بقدر كبير من الغرابة لكن حين ندقق النظر في الرواية من هذه الناحية لا نجد سوى محاولة بسيطة وعادية للحلول محل غائب لم تعلن وفاته بعد والقيام عوضا عنه بكتابة موضوعات كان يكتبها لإحدى الصحف. الرواية التي صدرت عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت جاءت في 88 صفحة متوسطة القطع. نبدأ من البداية أي مما بدا مقدمة حملت عنوان (تجليات النفس الأخير).. انه عنوان يوحي بالكثير في الأطلال على عالم الزوال. لكننا نكاد لا نجد بوضوح الرابط بين هذا الكلام وسائر عناصر الرواية وأحداثها. تقول الكاتبة (لا.. لم اشعر بشيء مما سمعت. كنت كأنني اسلم نفسي للموج.. كأن الانتقال يتم إبحاراً.. كفكرة تنتابك في لحظة سلام مع نفسك ومع العالم. لم يكن لدي سبب لاخاف أو احزن. أتاني الموت خاتمة حياة ثرية. حين نظرت للوراء لم يكن هناك ألم أو ندم. كانت هناك كل تلك الأشياء التي فعلت والتي تركت). (ابتسمت لأنني فعلت كل شيء ولا وجود لأمنية أخيرة لدي. ابتسمت لأنني لم ابحث عن إجابة عظيمة للحياة والآن اعرف يقينا أن لا وجود لها. ابتسمت لمباغتة الموت.. أية خيبة عظيمة كانت لتكون لو أتاني في لحظة انتظرته فيها..). وتستمر الكاتبة في مواقف فلسفية يظن القارئ أنها ستشكل قاعدة أو منطلقاً للأحداث التي تليها. لكن القارئ يجد نفسه أمام مشكلة تتلخص بما يلي: أما أن الكاتبة ربطت بين المقدمة الفكرية الوجدانية وبين الأحداث التي يفترض أن تأتي بعدها ولم يستطع القارئ أن يكتشف الرابط بين الاثنين.. أو أنها فعلاً لم تربط بين هذه وتلك. والحالان سيان من حيث التأثير في العمل الروائي وفي خلق المتعة لدى القارئ. تضيف هبة عليوة فتقول (ابتسمت لأنني اعلم أن الحياة لها معنى. مسافر أنا الآن. أنا في الزمن.. راحل إلى الأبدية والأبدية مكان مخيف إن أنت لم تعش لم تحب لم تكره لم تصرخ لم تغضب لم تجن لم تتحد نفسك وتكتشف حدودها في اليوم ألف مرة لكن كل ذلك بصدق... فالحياة هوس معد أنت لا تدري حين تغادرها ما تكون قد تركت منها لغيرك...). في النهاية يخطر في بال القارئ الذي لا يعرف شيئا عن الكاتبة أنها قد تكون في شيخوخة وأنها تتوقع قدوم الموت في أية لحظة وأنها جاءت بهذه الكلمات إيضاحاً. لكننا في ما يلي من الرواية لا نكتشف علاقة بين كل هذا وبين أحداث الرواية. في الفصل الأول تتكلم شخصية الرواية الأولى وهي هنا رجل لا امرأة. مرة أخرى نعود إلى الخلاص وإلى المواقف الفكرية والإيمانية إلى حد ما. نقرأ (استلقيت مردداً صلاة الهروب: لا أريد أن اكره. لا سبيل غير الحب لأنجو. جزء من هذا الحب كان رغبة في إخلاص في الصلاة وجزء منه خوفا منه أن ارتدت علي وما بقي دعاء لأكون حقا شخصا يتجه للسماء. فكم يبدو الإنكار مغرياً لي الآن. فكرة أن بإمكاني ألا اهتم.. أن أجاري نفسي في أكثر نزواتها تدميرا وارتاح من الذوات التي تتصارعني على اختلافها وأقول: فليكن يوم آخر وقدر آخر ورجل آخر فمن أنا في النهاية حتى اضجر). نقفز فجأة إلى العالم الواقعي الذي لا يبدو واقعياً تماماً لنا كقراء. الرجل مطرود من عمله الذي هو بحاجة إليه ومعه عامل آخر. يتوجهان إلى مقهى حيث أصدقاؤهما وسط أجواء من مشاعر متباينة بين تعاطف وغيره. يعود إلى منزله ليوضب أغراضه ويذهب إلى مكان آخر بحثا عن عمل. نبقى في أجواء عديدة غير محبوكة بدقة منها مثلاً أن أمه تطلب منه الذهاب إلى منزل جده المتوفى والذي لا يعرفه ولا يعرف كيف مات وأين دفن (لملاقاة زوجته السابقة التي لسبب ما أرادت رؤية المنزل الذي جمعهما للمرة الأخيرة لأقول لها انه كان بخير.. انه عاش سعيداً ومات كذلك). أما أمه التي تزوجت من غير أبيه فيقول عنها (المح خاتماً جديداً في يدها. تلحظ ذلك. تمد يدها نحوي لأراه تسألني إن كان يعجبني. تقول إن زوجها اشتراه لها صباحا. لا أرد عليها. هي تعرف رأيي فيه. تعرف أنني لا أطيقه ورغم أنني لست مثاليا إلا أنني كنت اكره أن أراه يغدق عليها الهدايا من مال حرام بينما هي مستمتعة بذلك). أما مشاعره فتظهر في قوله (نظرت في عينيها بعمق. ذهب البريق. لم اعد أرى انعكاس روحي في عينيها. صار اللهب جليدا ببرود الماس على أصابعها البليدة. أصابعها كانت ترسم كونا يوما فتكون الحياة). (ابتسمت في اضطراب لدهشتي. كيف تجرؤ على السخرية من حنيني لامرأة كانت يوما أمي.. من امرأة لم تعد.. من أب لم يعش ليعرف.. من طفل كان يراه فيها والآن لم يعد يراهما معا). لا شك في أن الكاتبة تلتقط بمهارة لحظات ترسمها لنا بما يؤثر لكننا نجد أنفسنا في (غربة) ونغرق في الانتقال من شأن إلى آخر بدون روابط كافية كما نغرق في أحداث تتسم بالغرابة التي قد يسعى القارئ إلى فهمها فكريا أي رمزيا هنا أو فهمها فهما حرفيا هناك فلا يحقق قدراًَ كبيراً من النجاح في الحالتين.