العدالة قيمة من أعظم القيم السماوية التي شرعت لرعاية الإنسانية وإقامة الحياة بميزان العدل الالهي ، القاضي والمحامي، وجهان لعملة واحدة ، وهما ركنا الحماية للقضاء العادل ، الذي هو مطلب أساسي من أهم مطالب الدولة المدنية التي تحفظ فيها المصالح العامة والخاصة للمواطنين والأجانب على حد سواء . وفي الواقع ، توسع قانون السلطة القضائية في اليمن في إعطاء القضاة حقوقاً وامتيازات كثيرة بهدف ضمان تمتعهم بالاستقلال في الرأي ، والحياد في صياغة الأحكام ، بعيدا عن نفوذ أو تدخل السلطات الأخرى سواء كانت السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية . ووصل التوسع هذا حد الدلال المفرط بإعطائهم حصانة شبه مطلقة ، فهم مستقلون ولا يخضعون لأي سلطان غير سلطان القانون القضائي ، وهذه الحصانة تصل الى حد عدم قابليتهم للعزل ، وتتم ترقيتهم ونقلهم وفق نظام معين ، فلا يجوز نقلهم أو ندبهم أو حتى تأديبهم إلا في أحوال معينة حصرها القانون بدقة متناهية . كما ان القانون فرض على الدولة التفسح في البذل المالي الذي يتمثل بمرتبات مجزية وتوفير سكن وبدلات وترقيات دائمة ، كل ذلك حتى يكفل لهم حياة كريمة تتناسب مع وظيفة القضاء السامية وما يستلزم من حسن مظهر وتفرغ بال وعفة نفس وطهارة يد ووقار ومهابة . اعطى القانون إجازة شهرين كاملين مراعاة لنفسية القاضي ، كما فرض له تامين معاشه في حالة الوفاة أو المرض وحتى في حالة الاستقالة حيث لا يسقط حقه في المعاش أو المكافأة ابدأ . الحصانة المبالغ فيها الممنوحة للقضاة توجب انه في غير حالة التلبس لا يجوز القبض على القاضي أو حبسه احتياطيا إلا بعد الحصول على اذن من مجلس القضاء الأعلى ويجب على وزير العدل عند القبض على القاضي في حالة التلبس أو حبسه ان يرفع الأمر فورا الى رئيس مجلس القضاء الأعلى ليأذن باستمرار حبسه أو يأمر بإخلاء سبيله بضمان أو بغير ضمان . كما لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على القضاة إلا بإذن من مجلس القضاء الأعلى بناء على طلب النائب العام ويعين مجلس القضاء الأعلى المحكمة التي تتولى محاكمة القاضي . وحتى التفتيش القضائي على أعمال القضاة يكون فقط لجمع بيانات لمعرفة درجة كفاءة تمهيدا للترقية ،، وكما نرى ، في حين نجد أن القانون حدد العقوبات التأديبية في حال الاخلال بواجبات الوظيفة ، إلا انه جعل إجراءات تحريك الدعوى التأديبية بالغة الصعوبة ، ولا تتم إلا بناء على طلب وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى .. وتقريبا أصبح القاضي المحصن في مأمن من المساءلة والملاحقة ، لذلك لا نستغرب تحول القضاء الي مرتع من اكبر مراتع الفساد ، فساد للذمم وانتشار للرشوة وضياع لحقوق الناس . ان كل هذا الدلال والتدليل يقابله حقيقة مأساوية للطرف الآخر لوجه العدالة ، اقصد هنا المحامين حيث تبدأ المأساة من قانون السلطة القضائية ذاته ، عندما ذكر القانون معاوني القضاة ، فحصرهم بالمحامين والخبراء والكتاب والمحضرين والمترجمين، في هذا النص نجد بداية الاستنقاص من هيبة وكرامة مهنة المحاماة ، حيث جعل المحامي احد الاعوان للقاضي وليس شريكاً أساسياً في إقامة العدل وتحقيق العدالة ، وهذا خلل واضح يزداد وضوحا عندما تطلع على قانون تنظيم مهنة المحاماة ، حيث تلاحظ مدى الإهدار لكرامة المحامي مقارنة بكرامة القاضي ، هذا الخلل اعتبره شخصيا السبب الرئيسي في فساد السلطة القضائية وتدهور أوضاعها المزري في بلادنا . ان المحامي يعتبر شطر العدالة ، واحدى دعائم تثبيت سيادة القانون والدفاع عن حقوق الإنسان العامة ، تجده دائما شطراً مهملاً بكل معنى الكلمة مقارنة بالشطر المدلل الآخر .. في الواقع المعاش المحامي يعيش بدون اية ضمانات أو تأمينات مشجعة ، مما اثر على روح رسالة المحاماة ، فتحولت الى تجارة عند بعض ضعاف النفوس وعند من يبحثون عن رزقهم اليومي بشتى الطرق مشروعة وغير مشروعة .. ونحن هنا لا نسوغ أو نبرر ولكننا نناقش الإهمال المتعمد من قبل الدولة لمهنة المحاماة والمحامين الذين لابد من التكاتف في سبيل المطالبة بتسوية أوضاعهم ، ومنحهم الضمانات اللازمة لأداء وظيفتهم على الشكل الذي يعيد هيبة الحكم والدفاع إلى المستوى المطلوب . ومن الانحرافات التي تحتاج لمعالجة نجد ايضا ان القانون اشترط لمنح تراخيص مزاولة المهنة ان يكون المحامي لديه مكتب وان لا يشغل احدى الوظائف سواء العامة ، أو في المؤسسات والهيئات والشركات العامة أو الخاصة أو المختلطة ، وان لا يشتغل بالتجارة أو أي عمل لا يتفق وكرامة المهنة .. إلا إننا نجد مع ذلك ، الكثير من المحامين يضطرون للمراوغة فيسعون للحصول على الوظيفة العامة حتى يستطيعوا تامين الحد الادنى من متطلبات المعيشة اليومية . وفي حين ان القانون فرض على المحامي التقيد بالقيم الإسلامية ومبادئ الشرف والاستقامة والأمانة والنزاهة وآداب المهنة ، إلا إننا نجد حصانة القضاة المذكورة عرضت الكثير من المحامين للوقوع ضحية غياب هذه القيم عند كثير منهم اليوم .. الاستقلال المهني المنعدم ايضا معضلة تضاف الى الشطر المهمل، فنجد ان القانون اجاز لوزير العدل ان يطلب من المحكمة العليا الدائرة الإدارية حل مجلس نقابة المحاميين بكل بساطة ، هذه التبعية للمحكمة العليا بالإضافة الى استفراد وزارة العدل بإصدار التراخيص للمحامين ، هي أمور تستدعي إيجاد حلول جذرية لها .. اخيرا نحن على يقين بأنه لن يصلح حال القضاء إلا بشيئين اثنين هما : إعادة النظر في ثغرات قانون السلطة القضائية ، ومعالجة الاستهتار والفساد المالي والإداري والأخلاقي لبعض القضاة الذين يعتمدون على الحصانة الممنوحة لهم للعبث بالقضاء وتشويه سمعته ، ثم إعادة تنظيم وتحسين وضع مهنة المحاماة عن طريق منح المحامي حصانة قانونية نوعية لضمان حرية الدفاع والادعاء على أساس ان المحامي شريك وليس معاوناً أو تابعاً ، بما يضمن كرامته أمام تطاول بعض القضاة ، وعن طريق دعم ثابت من الدولة لنقابة المحامين ، واعتماد مبالغ مالية ثابتة أو رواتب يكون مقابلها إلزام المحامين بتقديم العون القضائي للمحتاجين ، كل ذلك بما يكفل الوصول الى التوازن بين شطري العدالة حتى نحصل على القضاء العادل الحر والنزيه احد أهم معالم الدولة المدنية المنشودة. رئيسة منظمة مساواة للتنمية السياسية وحقوق الانسان - تعز