تحدد دساتير أغلب الأنظمة الديمقراطية العريقة المبادئ التي تستند إليها حرية تأسيس الأحزاب السياسية، وبسبب تقديس تلك الأنظمة لحرية التعددية الحزبية في مجتمعاتها تقترن القيود الواردة عليها - خصوصا- ما يتعلق بحل الأحزاب بذات المبادئ الدستورية التي تقررها، وتعد هذه القيود استثناءا من أصل عام هو الحرية، وتحدد تلك المبادئ الجهة المخولة بتوقيع إجراءات الحل التي قد تكون أعلى جهة قضائية في الدولة كما هو الشأن بالنسبة لجمهورية المانيا التي تختص فيها المحكمة الدستورية الاتحادية العليا بالحل، أو المحاكم العادية كما هو الشأن بالنسبة للجمهورية الفرنسية، وتكتفي دساتير الأنظمة في دول- العالم الثالث- الديمقراطيات الناشئة ومنها بلادنا بمجرد النص على حرية تكوين الأحزاب وتحيل فيما يتعلق بالقيود التي ترد على هذه الحرية إلى القانون الذي يتولى المشرع من خلاله تنظيم حرية تأسيس الأحزاب، وغالبا ما تكون القواعد القانونية عبارة قيود تشمل جميع مراحل حياة الحزب، وتتفق التشريعات من الناحية النظرية سوء ا في الديمقراطيات العريقة أو الناشئة على اعتبار القضاء هو الجهة صاحبة الاختصاص الأصيل بالفصل في منازعات الأحزاب السياسية الناتجة عن ممارستها لنشاطها ومن ذلك منازعات حلها، ولقد سار المشرع اليمني على ذات النهج حين خول المحاكم العادية هذا الاختصاص. وإذا كان القضاء هو من يملك حصرا حق حل الأحزاب السياسية، فإن التساؤل المطروح هنا هو هل يملك القضاء أو أي جهة أخرى التهديد بحل الأحزاب السياسية لأي سبب كان؟ وبماذا يمكن وصف هذا التهديد في حال صدوره في مواجهة أي من الأحزاب؟ تُلزم القوانين المنظمة للتعددية الحزبية جهات القضاء بالتأني في قول كلمتها فيما يتعلق بحل الأحزاب خلال فترات من الزمن يتاح خلالها لهذه الأحزاب فرصة كافية للدفاع عن نفسها، كما تتاح أيضا فرصة كافية لجهة القضاء تكوّن خلالها قناعتها التي تصدر على أساسها حكمها دون تأثير من أي كان، ومع أن القضاء يملك صلاحية تحديد مصير أي حزب سياسي إما بحله أو رفض طلب الحل وإقرار مشروعية استمراره، فإنه لا يملك صلاحية التهديد بالحل ضد أي من الأحزاب أو تبرئة ساحته مما نسب إليه باعتبار أن ذلك يعد إعلانا مسبقا لموقف القضاء من الدعوى المنظورة أمامه بحل الحزب وهو ما بما يجب أن يتصف به القضاء من الحياد والاستقلال. وإذا لم يكن لجهة القضاء حق تهديد الأحزاب بالحل- وهي التي تملك حق الحل ذاته - سوءا أثناء المرافعة أمامها أو قبلها، فإن انتفاء هذا الحق عن غيرها من الجهات الإدارية - في تهديد للأحزاب بالحل- يكون من باب أولى، وإذا كان القانون يعتبر التهديد - بكل صوره مادية أو معنوية- جريمة ويعاقب عليها بغض النظر عن صفة من قام بالتهديد، فإن تعرض الأحزاب للتهديد بحلها يعد جريمة أيضا أيا كانت الجهة الصادر عنها التهديد، حتى وإن توافرت أسباب الحل من وجهة نظر الجهة التي صدر عنها التهديد باعتبار أن المشرع قد حدد حصرا سلطاتها في مواجهة الأحزاب فلها حق تنبيهها ولها حق إنذارها، ولها حق التقدم إلى القضاء بطلب حلها في حال رأت تحقق أي سبب من الأسباب التي نص عليها القانون في مواجهة أحد الأحزاب، لكنه لم يجز لها على الإطلاق تهديدها، فالتهديد هنا لا يقع على الكيان المادي للحزب بحد ذاته، ولا عليه كشخصية اعتبارية، ولا على قياداته فحسب، وإنما ينصب هذا التهديد على مجموع الموطنين المكونين له، وحين عد المشرع التهديد بكل صوره جريمة يعاقب عليها القانون، وإن كان من وقع عليه التهديد متهما بجرم ما إنما اراد التأكيد على إعمال قاعدة "المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم قضائي " وليس من حق هذه الجهة أو غيرها إطلاق التهديدات بحل أي من الأحزاب كون ذلك يعد حكما مسبقا بتقرير مصيره من جهة لا تملك حق الحل أصلا ومحضور عليها التهديد به، ولم يكن تقرير المشرع الحماية للحياة الحزبية عبثا، بل أن ذلك من المستلزمات الأساسية لها فلا تعددية بدون حماية، حمايتها من شر السلطة، وحماية المجتمع من شر التعددية ذاتها، ويعني تهديد الحزب بالحل تهديده بإنهاء حياته، وقد يقتصر على تشويه سمعتة والإساءة إليه. وخلال الأيام القليلة الماضية حفلت صفحات الصحف بحدثين بارزين أولهما تعرض بعض الأحزاب للتهديد بالحل من جانب السلطة وثانيهما سيطرة مجموعة من المتمردين على مقر حزب اتحاد القوى الشعبية، والحدث الثاني ليس غريبا بحد ذاته لكن الغريب فيه تعاطي الحكومة ووسائل إعلامها معه وفي ظل نظام ديمقراطي تعددي، فهل يمكن اعتبار ما حدث عملا مشروعا ويمكن أن يشكل سابقة لتمردات قادمة في أحزاب سياسية أخرى سوءا في السلطة أو المعارضة؟ لا يمكن أن يكون التغيير في النظام الديمقراطي الفعلي إلا سلميا بوصفه وسيلة مشروعة من وسائل التعددية، أما إذا اتخذ التمرد طابع العنف فلا يمكن أن يوصف في ظل هذا النظام إلا بأنه جريمة !! وقد تختار مجموعة تنتمي لحزب معين الانشقاق عنه وتأسيس حزب جديد وهذا أمر مشروع لاغبار عليه، ومن حق الحكومة بكل مكوناتها أن تلتزم الحياد إزاء ذلك باعتبار أن من حق المنشقين حرية اختيار الكيان الذي يمثلهم إذا توافرت فيهم الشروط التي تطلبها القانون، أما إذا استخدمت هذه المجموعة العنف أسلوبا للتغيير فليس للحكومة أن تلتزم الحياد فهي المسئولة أولا وأخيرا عن حماية المواطنين أفرادا وجماعات من الجرائم، ويشكل صمتها تركا لواجب تلتزم به بحكم وظيفتها، ويوصف هذا الترك قانونا بأنه فعل إجرامي سلبي، فألام يعدها القانون قاتلة لرضيعها إذا هي تركته يصرخ ولم ترضعه- وهي ملزمة بذلك- لأي سبب كان حتى فارق الحياة ! ويعد كذلك حراس الشاطئ - مثلا - مرتكبين لفعل إجرامي إذا ما تركوا شخصا يغرق دون أن يقوموا بإنقاذه حتى وإن كان قد خالف وابتعد إلى منطقة تمنع فيها السباحة، و تنصل الحكومة هنا عن القيام بواجبها يعد فعلا مجرّما قانونا خصوصا وأن هناك جريمة احتجاز حرية مواطنين بقوة السلاح، لا يبررها القول أنهم ضيوفا لدى المتمردين لان المرء لا يستضاف رغم انفه إلا في السجن وهو المكان الذي يحتجز فيه المذنبون وتتقيد فيه حرياتهم !! فهل يعني ذلك أن الحكومة تجهل صفة الأفعال التي صدرت عمن سمو بالمتمردين، وأنها تمثل أفعالا إجرامية أو عقوبات على أفعال مجرّمة قانونا؟؟ إذا كانت الحكومة تجهل ذلك فهي معذورة حتى تبلغ رشدها القانوني، أما إذا كانت تدرك ما هية تلك الأفعال وتعمدت الصمت إزاء مرتكبيها، فإن ذلك يمثل انتهاكا للدستور والقانون من جانبها وهي ملزمة بتطبيقه والسهر على تحقيق مبدأ سيادته، والغريب أيضا أن صحفها قد تناولت هذا الخبر بنوع من خفة الدم، وكأنها تتحدث عن واقعة تمت خارج حدود النص الجنائي اليمني، لذلك لم يكلف القائمون عليها أنفسهم التوقف قليلا عند ما يعنيه مضمون هذا التناول، وما إذا كان سيسبب إحراجا للحكومة إذا ما اكتشفت متأخرا أنه ما كان يجدر بها أن تقف ذلك الموقف في مواجهة واقعة تعد جريمة، وأن تناول الواقعة بتلك الصورة يعبر عن فشل الحكومة في فهم واجبها وأدائه بشكل صحيح. ومما ورد في مضمون ما تناوله موقع المؤتمر نت في 15 مايو عدد من المصطلحات منها "استيلاء" والاستيلاء وصف لجريمة وردت في قانون العقوبات، سوءا كان الاستيلاء على مال عام أو خاص وسواء كان من قام بالاستلاء شريكا مع أخرين في ملكية المال أو انه لا علاقة له به وهنا هل يجوز قانونا أن تظل الحكومة في حال المتفرج في مواجهة جريمة استيلاء؟ ومصطلح " مصادرة " والمصادرة وفقا لأحكام القانون عقوبة تكميلية، لا يجوز توقيعها إلا بحكم قضائي ولا يجوز للحكومة ذاتها توقيع هذه العقوبة فكيف أجازت لنفسها أن تلتزم الصمت في مواجهة من نصّبوا من أنفسهم قضاة فحكموا ونفذوا وصادروا ؟ ومصطلح "الاحتجاز" أيضا يعد احتجاز الآخرين جريمة يعاقب عليها القانون ويقع على عاتق الحكومة العمل على تحرير من اُحتجزت حريته سواء تم ذلك بالحيلة أو بقوة السلاح، ومن المصطلحات الواردة في الخبر أيضا "المتمردون" والتمرد وصف لا ينطبق إلا على الخارجين على القانون، فهل يعني ذلك أن غض الطرف من جانب الحكومة يعبر عن رضاها ضمنا بأسلوب التمرد بهذه الصورة حتى وإن في حصل مستقبلا في صفوف حزبها؟؟.