لعلها مصادفة أن المظاهرات العنيفة التي عرفتها اليمن الأسبوع الماضي احتجاجا على رفع أسعار الوقود اشتعلت بعد يومين من إعلان الرئيس علي عبد الله صالح عدم ترشحه في انتخابات الرئاسة المقبلة، وهو القرار الذي قوبل بكثير من الاحتفاء والاحترام في اليمن وفي الخارج. وأول ما قد يلتقطه المراقب في هذا التزامن أن قرار الرئيس صالح، وإن استقبله اليمنيون باهتمام واندهاش وتقدير، إلا أنه لا يمس معيشتهم مباشرة، ولا يتصل بتفاصيل حياتهم اليومية، وبالتالي ليست له الأولوية على غيره من قرارات حكومية تقترن بتدابير عيشهم. لذلك كان الغضب الاحتجاجي على الرفع الكبير لأسعار الديزل والبنزين والغاز المنزلي شرسا إلى حد التخريب، لا سيما أن من النتائج المؤكدة لهذا الرفع أن أسعارا أخرى ستزيد، وكان التعبير الشعبي الواسع عن هذا الغضب أشد انفعالا من أي بهجة أحدثها ذلك القرار الرئاسي. ثاني ما يمكن ملاحظته في هذا السياق أن قدرا من المفاجأة أصاب مراقبي المشهد اليمني من النخب العربية المثقفة، فقد انشغلت هذه بالاجتهاد بشأن قرار الرئيس صالح وما إذا كان حقيقيا تماما وما إذا كان الرئيس اليمني سيصر عليه، عدا عن تداعياته وآثاره المحتملة على الحياة السياسية في اليمن، وعلى أحزاب المعارضة في هذا البلد، والتي يطالبها قرار صالح بأن تطرح بديلها القادر على خوض المنافسة على موقع الرئاسة بعد نحو عام. وفيما النقاش كان يأخذ هذا المجرى، جاء حدث المظاهرات الواسعة وما تعرضت له من مواجهات من قوى الأمن اليمنية لتفاجئ المشاركين في هذا النقاش، والذين غاب عن سجالاتهم الذهنية أن سريان قرار حكومي آخر كان سيبدأ صباح الأربعاء الماضي، وهو رفع أسعار الوقود، وأنه يمكن لهذا القرار أن يتسبب بتداعيات واحتجاجات جماهيرية غاضبة، وهو ما لم يكن مطروحا فيما الحديث يروح إلى أكثر من وجهة بشأن قرار تخلي علي عبد الله صالح عن رئاسة بلاده بعد إكمال ولايته الحالية. غاب عن هؤلاء أن أكثر من 42% من اليمنيين البالغ عددهم نحو عشرين مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، وأن نسبة البطالة تزيد على 20 %، وذلك بحسب بيانات البنك الدولي الذي حذر في مطلع الشهر الحالي من "مخاطر الاستثمار في اليمن"، حيث تتصف البيئة الاستثمارية هناك بعدم التساوي وبوجود ممارسات غير عادلة وعوائق إدارية حكومية، وبانتشار الفساد. ويضاعف من حدة هذا التشخيص أن تقريرا لمؤسسة بحثية أمريكية صدر الشهر الماضي ذكر أن المشكلات التي يعاني منها اليمن ستؤدي، مع الزمن، إلى ضعضعة مؤسسات الدولة. ويؤتى على هذه المعطيات الموجزة، وفي البال أن الحكومات اليمنية لم توفر جهودا من أجل التقدم في مسار التنمية في بلادها، وللتغلب على المعيقات الكثيرة، خصوصا أن اليمن بلد محدود الموارد والإمكانات، ويعاني من مظاهر تخلف حادة، ومنها مثلا أن نسبة الأمية تكاد تصل إلى 50 %. وإذا كان من مألوف المعارضة أن تخوض في التذكير بممارسات حكومية قاصرة في الإدارة والتسيير العام، وفي تدبير الشأن الاقتصادي والسياسي والتنموي، فإن التعقيب على ذلك يجدر أن لا يغيب عنه أن من الأكثر يسرا وسهولة هو معارضة الحكم فيما الحكم أشد صعوبة، خصوصا في ظروف قاسية وتحديات غير هينة يغالبها اليمنيون عموما. مؤكد أن الحكومة اليمنية لم يسرّها أن تتخذ القرار الصعب بزيادة أسعار الوقود، وليس هناك حكومة في العالم إلا وتتوسل الجماهيرية والشعبية لنفسها، فلا تتخذ قرارا قاسيا مثل الذي أقدمت عليه الحكومة اليمنية إلا مضطرة أمام ضغوط اقتصادية وسياسية حادة. ويسوق السياسيون في مؤسسات السلطة هذا الحال، مع ما يلزمه من وسائل الإقناع ومن تسويغات وتبريرات، غير أن ذلك كله ليس واردا في الحسابات العامة لشرائح اجتماعية واسعة تعاني من مشقات العيش، وتغالب تكاليف الحياة ومتطلباتها لتوفير مقادير من الكرامة الإنسانية لها، على صعد عديدة. والإشكال الذي يمكن التأشير إليه هنا أن لهذا الأمر أولى مراتب الأولويات لدى هذه الشرائح المصابة بالفقر ونقص إمكانات تطوير معيشتها. ولأن الحال على هذا النحو، يجوز الزعم أن توفر إمكانات التعبير عن الرأي ومظاهر الممارسة الديمقراطية، إن على صعيد حرية تشكيل الأحزاب وتوفر النقابات والتجمعات والتشكيلات المدنية والتعددية والصحافة المستقلة، لا يمكن له أن يتقدم على أولوية التغلب على الفقر، وعلى وجوب توفير دخول كافية تعين في تيسير الحياة. لا مجازفة في القول هنا، من وحي الحدث اليمني الأسبوع الماضي، والذي تواقت فيه حدث تخلي الرئيس صالح عن موقعه العام المقبل مع الاحتجاجات العنيفة على رفع الأسعار، إن توفر بيئة ديمقراطية، يكون من عناوينها وجود الأحزاب والصحافة الحرة والنقابات ووزارة لحقوق الإنسان، ليس الأولوية الأهم لدى الشرائح العريضة في مجتمعاتنا العربية التي تتيح لها بعض السلطات الحاكمة صناديق اقتراع لانتخاب برلماناتها ورؤسائها، ذلك أن الاقتراب من جيوب الناس وتصعيب حصولهم على ما يحتاجونه من طعام وكساء وخدمات من شأنه أن يضعف من أهمية وجود هذه المظاهر الديمقراطية، الضرورة الوجوب كما ينبغي ألا يغيب عن بال قارئ هذه المقالة. ولا يتعلق هذا الاجتهاد هنا بالحالة اليمنية كما دلت عليها وقائع الأسبوع الماضي، بل يتعداها إلى الحد الذي يجعله صالحا لتعميمه عربيا. لذلك يمكن أن تختتم هذه السطور بالقول إن ما جرى في اليمن يعطي إضاءة شديدة الأهمية للمشتغلين بالشأن السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي العام في بلادنا العربية، ويحثهم مجددا على التحديق جيدا في الساحات العربية العديدة، ليكتشفوا من دون كثير عناء أن توفير الخبز رخيصا يتقدم كضرورة في بلادنا على توفير صناديق الاقتراع وعواميد معارضة في الجرائد. نقلا عن الخليج الإماراتية