تشير أحداث الربيع العربي وتهديد إيران بالتحول إلى قوة نووية ناشئة واستمرار القمع في سورية والتردد الأميركي في التدخل هناك، إلى ضعف (أو حتى نهاية) دور الولاياتالمتحدة كحارسة للعالم. وفي هذا السياق، قال الرئيس أوباما نفسه في خطاب له في السنة الماضية: "لا تستطيع الولاياتالمتحدة استعمال جيشها عند حصول أي حملة قمعية". يذكرني الموقع الأميركي اليوم بالوضع البريطاني في عام 1945، إذ كانت بريطانيا حينها غارقة بالديون وملتزمة بإنشاء مديرية الصحة الوطنية وتأمين مستلزمات أخرى لا بد من توافرها في دولة الرفاهة، فلم تعد تستطيع تحمّل أعباء حكم إمبراطورية نافذة. كذلك، كانت بريطانيا التي حكمت العالم قبل جيل من الزمن تشعر بالتعب وتفتقر إلى قوة الإرادة لتحديد مصير إمبراطوريتها. لكن يبقى الدور الأميركي كقوة إمبريالية أكثر هشاشة، لأن الولاياتالمتحدة لم تتمتع يوماً بالثقة بالنفس التي عُرفت بها بريطانيا حين أرادت رسم مصير إمبراطوريتها. لطالما تردد الأميركيون في أداء مهمة البلد المهيمن على العالم. اليوم، ليس مرد التراجع الأميركي هو سياسة الانعزالية التقليدية وإنما الضرورة العملية. تماماً مثل بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ما عادت الولاياتالمتحدة المعاصرة تملك الموارد المالية اللازمة للحفاظ على إمبراطوريتها (علماً أن الولاياتالمتحدة لم تكن متحمسة أصلا لإنشاء إمبراطورية خاصة بها). وكانت حالات العجز والديون أكثر ضررا على أحلام إمبراطورية من أي تحول حقيقي في الفكر. نشأ والداي في الساحل الذهبي من إفريقيا حين بدأ النفوذ البريطاني يتلاشى هناك، لذا أشعر بأني مرتبط مباشرة بهذه الظاهرة المتعلقة بانهيار الإمبراطوريات. سرعان ما تحول الساحل الذهبي إلى دولة غانا في عام 1957، بعد سنة على أزمة السويس. اليوم، أنا عضو في البرلمان (البريطاني)، لذا أملك رؤية مزدوجة عن مفهوم الإمبراطوريات. مثلما اعتُبرت الحرب العالمية الثانية نهاية الإمبراطورية البريطانية، قد يعتبر المؤرخون المستقبليون أن الأزمة المالية في عام 2008 كانت نهاية الإمبراطورية الأميركية. غير أن تراجع النفوذ الأميركي، تحديداً في الشرق الأوسط، ترك العالم في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. لكن تبقى الولاياتالمتحدة اليوم كيانا ضئيلا مقارنة بعظمة القوة التي اجتاحت العالم في عام 1989، عندما كان يسهل تصديق عنوان إحدى المقالات التي سألت "هل هذه نهاية التاريخ؟". لطالما شكك البعض في قوة الولاياتالمتحدة واعتبروها قوة إمبريالية أقل زخما من سابقاتها، فهي لم تطمح يوما إلى حكم الأراضي الأجنبية بشكل مباشر إلى أجل غير مسمى، مع أن وجود القواعد الأميركية في اليابان وألمانيا وبريطانيا، وأخيرا في الخليج، يعكس نزعة إمبريالية ناعمة. خلال الحرب الباردة، اعتبرت الولاياتالمتحدة نفسها زعيمة "العالم الحر"، وادعت القيادة الأخلاقية بشكل جريء لم يسبق أن أعلنته جميع الإمبراطوريات الغربية تاريخيا. لم تكن الهيمنة الأميركية ترتكز على مبدأ الاحتلال بل على قوة التحالفات والمساعدات المباشرة والنماذج الاجتماعية والاقتصادية. خلال السنوات العشر الأخيرة فقط، تدخلت الولاياتالمتحدة عسكرياً لتحديد هوية حكام العراق وأفغانستان. كان تحمّل هذه المسؤولية، بصفتها حارسة العالم، تحركا إمبرياليا بامتياز، لكن لطالما تردد الأميركيون في الاعتراف بذلك. خلال هذه الفترة، كان مفاجئا أن يتبنى المحافظون الجدد نزعة إمبريالية علنية، فكان تردد الولاياتالمتحدة في الاضطلاع بدور الإمبراطورية البريطانية السابقة أكثر ما يزعجهم في سياسة بلدهم الخارجية. لقد تعاملوا مع الولاياتالمتحدة وكأنها تلميذ كسول وبطيء الاستيعاب، ما يمنعها من أداء مهمة لا تتقنها بالفطرة. لقد كان التردد في التدخل في تفاصيل الفوضى السياسية الدولية ميزة طبعت السياسة الأميركية منذ الاستقلال. ويُعتبر تحذير جورج واشنطن بضرورة "تجنب الاشتباكات الخارجية" أحد أشهر الاقتباسات التاريخية الخاطئة، فقد كانت تلك الكلمات الثلاث تتحدث تحديدا عن تجنب المشاحنات مع أوروبا، إذ لم ترد تلك العبارة في خطاب الوداع العظيم الذي ألقاه واشنطن في عام 1796، والتزم القادة اللاحقون بالنسخة المقبولة من تعليقات واشنطن. في مرحلة لاحقة، ألقى وودرو ويلسون خطابا عن تقرير المصير في الخارج، وقد تعلّم الأميركيون من حرب فيتنام أن قوتهم محدودة. واليوم، يبدو أن المحافظين الجدد يمثلون شخصيات غريبة من الماضي الغابر الذي يفضّل معظم الأميركيين نسيانه. وعلى امتداد 23 عاماً الماضية، انتقلنا من "نهاية التاريخ" (حيث طغت الرأسمالية الليبرالية والديمقراطية على العالم) إلى إعلان الرئيس أوباما عن محدودية التحركات التي يمكن أن تنفذها الولاياتالمتحدة. أدت الأزمة المالية وزيادة المديونية أخيراً إلى وضع حد للسلوك الأميركي الإمبريالي. حتى لو تعافى الاقتصاد، من المستبعد أن يخوض البلد حملات جديدة بالزخم والسذاجة اللذين طبعا غزو العراق في عام 2003. يشير تاريخ الإمبراطورية البريطانية إلى أن كل أشكال الإمبراطوريات إنما هو مضلل: أولاً، لا شك أن إنشاء الإمبراطوريات أمر مكلف جدا، وكان ظهور قوة الصين والدول الناشئة في العالم يعني أن حجم اقتصاد الولاياتالمتحدة سيتراجع نسبيا حتى لو نجح البلد في النهوض مجدداً. لن يكون الوضع الأميركي في هذه الحالة موازيا للازدهار الذي ساد في عامي 1945 و1989. هذا الواقع وحده يبرر أن يكون التحرك المتعدد الجوانب الخيار الأقرب إلى الواقع بدل التمسك بالقيادة الأحادية الجانب. ثانيا، تبين أن الحفاظ على الإمبراطورية، كما استنتج البريطانيون، يتطلب حسابات كثيرة ومعارف هائلة (وخبرة واسعة أيضا) كي تتمكن أي قوة في عالم اليوم من محاولة تحقيق ذلك الهدف. وكان يُفترض أن تتعلم الولاياتالمتحدة هذه الدروس من تجربتَي العراق وأفغانستان! "كواسي كوارتينغ" (Kwasi Kwarteng) / نيويورك تايمز*