يواجه اليمن «السعيد» أخطر حقبة في تاريخ وحدته منذ عشرين عاماً, إذ يجب على الشعب اليمني التصدي لمخططات الهيمنة الصهيوأمريكية، وقبل ذلك التحرر من استبداد النظام الحالي. ما كشفه وزير الخارجية اليمني أبو بكر القربي (السبت 20/3/2010م) عن وجود مبادرة أمريكية غير رسمية للتوفيق بين النظام الحاكم والمعارضة، قدَّم دليلاً إضافيّاً على الاهتمام الغربي، وخاصةً الأمريكي بالمعضلة اليمنية الراهنة، التي شكلتها عدة أزمات كل منها كفيلة بتقويض نظام البلاد وهدم أركانه. وما تابعه العالم قبل أيام من اعتصامات ومظاهرات بالشمال والجنوب, هو فقط التوتر الخارجي للسطح، فيما يحمل القاع ناراً تهدد في أي لحطة باندلاع البركان. الفساد يستشري الفشل.. هو العنوان الأبرز لإدارة النظام الحالي لملفات البلاد, سواء الداخلية أو الخارجية, حتى صار اليمن بأهميته الجيوسياسية مفعولاً به على الدوام وليس فاعلاً، وأصبح الحديث عن الفساد وتدهور الصحة والتعليم ومعاناة المعيشة، خبراً متكرراً. وبات اليمن في ذيل قائمة الدول صاحبة النزاهة والشفافية، وفقاً لتقرير منظمة الشفافية الدولية الذي يصنفه في مقدمة البلدان الأكثر فساداً، فيما كشفت منظمة «برلمانيون يمنيون ضد الفساد» أن القطاع النفطي هو الأكثر فساداً بين القطاعات الحكومية, حيث يستشري به الفساد بنسبة 87.2%، يليه القطاع العسكري ب 61.8%. ويبقى الفساد أحد التحديات الرئيسية في مواجهة عملية التنمية، التي تتدهور بصورة ملحوظة حتى بلغت مديونية اليمن الخارجية نحو سبعة مليارات دولار، وقفزت خلال السنتين الماضيتين بنسبة زيادة تقدر ب 13%، مع تقاعس حكومي واضح عن محاربة الفساد إلا بصورة شكلية تضمن تدفق هبات الدول المانحة والصندوق الدولي. شمال وجنوب ويشهد اليمن حاليّاً حالة موسعة من الاحتقان السياسي والشعبي, إثر الرد العنيف والدموي الذي يواجه به أمن النظام المظاهرات التي دعت إليها المعارضة في عدد من المحافظات الجنوبية، للاحتجاج على الأزمات السياسية والاقتصادية التي تجتاح البلاد جراء سياسة حكومة الرئيس علي عبد الله صالح. وتسبب الرد الأمني العنيف في مقتل وإصابة عشرات المتظاهرين والمعتصمين، فضلاً عن سلسلة موسعة من الاعتقالات، صاحبها إغلاق مكاتب فضائيتي (الجزيرة) و(العربية) لنقلهما أحداث الاحتجاج. وكانت أهم طلبات المتظاهرين الإصلاح السياسي وفتح باب الحوار الوطني الذي أغلقه النظام أواسط شباط الماضي، للانفراد بالقرار السياسي، والرجوع إلى اتفاق 23 شباط 2009م، الذي تم توقيعه بين حزب المؤتمر الشعبي الحاكم واللقاء المشترك، وهو تكتل يجمع أحزاب المعارضة الرئيسية وعلى رأسها حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون). وقضى الاتفاق بتأجيل الانتخابات والتمديد للبرلمان لمدة عامين، على أن يتم استثمار هذه المدة لعدد من الإصلاحات على رأسها الدستورية والقانونية، وتمرير تعديلات قانون الانتخاب التي رفضها الحزب الحاكم، في آخر مراحل التصويت عليها أواخر عام 2008م الماضي. واستفز بطش النظام الأمني المعارضة التي استنكرت تآمر النظام على ما تبقى من قواعد الأمن والسلم الوطني، والاستفادة من المؤسسة العسكرية في صراعاته الحزبية، والاستمرار في سياسات الإقصاء والتهميش للجنوب اليمني. انفصال الجنوب تفاقم أزمة الجنوب مؤخراً يهدد الوحدة اليمنية بشكل غير مسبوق منذ محاولة الانفصال الفاشلة في صيف 1994م, حيث شهدت المظاهرات الأخيرة إحراق بعض الجنوبيين علم الجمهورية اليمنية، استجابةً للزعيم اليمني الجنوبي السابق علي سالم البيض، الذي دعا في مؤتمر صحفي قبل أيام إلى انفصال الجنوب. ولن ينال خطر ممارسات الأمن الباطشة من الجنوبيين فقط، ولكنه يستهدف بالأساس اتحاد اليمن الذي ظل على مرّ الأزمنة اعتقاداً راسخاً لا خلاف عليه، حتى جاءت محاولات تشطير اليمن الأشد بعد الاحتلال الإنجليزي سنة 1839م والتصارع على البلاد مع الأتراك وحكم الأئمة، ما أسفر سنة 1873م عن تقسيم البلاد لأول مرة إلى شمال وجنوب، ثم سعى الأئمة والإنجليز إلى تأبيد التشطير باتفاقيات دولية وترسيم للحدود في 11 شباط سنة 1934م, ليتم حصر اليمن في الشمال الذي يحكمه الأئمة، وابتدع الإنجليز لفظ «الجنوب العربي» لتسمية باقي مناطق اليمن الجنوبية. واستنفر تفتيت اليمن أبناءه للقيام بثورات متوالية ضد الأئمة والإنجليز لتنال البلاد حريتها عام 1967م، قبل أن يدخل الشمال والجنوب في سلسلة من الحروب الأهلية انتهت بتوحيد اليمن في 22 أيار 1990م. وفي ظروف إقليمية واقتصادية متدهورة بعد حرب الخليج ومحاصرة العراق، أعلن نائب الرئيس اليمني وقتها (علي سالم البيض) انفصال الجنوب عن اتحاد اليمن يوم 21 أيار 1994م، ما واجهه الرئيس علي عبد الله صالح بإعلان الحرب على الانفصاليين، التي تم حسمها سريعاً لصالح الاتحاد يوم 7 تموز 1994م, بسبب الرغبة الشعبية الجارفة شمالاً وجنوباً في استمرار الاتحاد. ومنذ ذلك الحين والنظام اليمني يواصل سياسات التهميش نحو أبناء الجنوب اليمني، ويرفض الاستجابة لطلباتهم في الحصول على فرص متساوية مع إخوانهم الشماليين في جهازي الدولة المدني والعسكري, مع إعطائهم حقهم الشرعي في ثروات البلاد ومواردها. وكان التجاهل هو رد النظام على طلبات الجنوب، إلا أن التأييد الكبير الذي تناله مؤخراً من كافة الفصال الجنوبية، وجَّه السلطة لتدبير عمليات سلب ونهب على الطرق الجنوبية، واتهام الحراك الجنوبي بالمسؤولية عنها, ليستخدمها النظام ذريعة لإخراس الأصوات الجنوبية بتدخل أمني غاشم، ضد «الخارجين على القانون». ثورة الحوثي ويؤكد الارتفاع غير المسبوق في حالة الاستنفار العسكري والأمني بالمحافظات الجنوبية، استمرار حسابات النظام الفاشلة ونيتها استغلال الهدنة مع الحوثيين على الحدود الشمالية، بحسم عسكري في الجنوب، في إغفال واضح لطبيعة الهدنة غير المستقرة التي تشهدها صعدة حاليّاً. هشاشة الهدنة الحالية راجع لافتقادها حلولاً استراتيجية لأسباب تجددها، وإنهاء الجولات المسلحة التي تشهدها البلاد كل حين بين الجيش اليمني والحوثيين في محافظة صعدة شمال اليمن منذ منتصف عام 2004م، وكان أقربها الحرب التي استمرت نحو ستة أشهر وانقضت أواسط شباط الماضي، بعد أن تسببت في قتل وإصابة وتشريد الآلاف من الطرفين. ورغم إعلان الطرفين إنهاء الجولة السادسة من الصراع باتفاق الدوحة، إلا أن المشاركات الإقليمية في المعركة السابقة، تؤكد أن الهدنة ستبقى رهينة حسابات اللاعبين الإقليميين وفي مقدمتهم طهران والرياض. أخطر ما أفرزته الجولة السادسة هو الانخفاض السلبي في معنويات الجيش اليمني الذي استخدم كل ما في جعبته من أسلحة، من قصف جوي ومدفعي وتدخل بري، إلا أنه فشل في إنهاء الحرب طوال ستة أشهر، رغم التعاون العسكري واللوجستي مع الجيش السعودي. وهذا ما قد يغري معارضي النظام باللجوء الى القوة العسكرية لحسم خلافاتهم معه، كما يغري أطرافاً خارجية بدعم أي تمرد مسلح، واستخدام اليمن كساحة لتصفية الحسابات، وقد شهدت المواجهات الأخيرة، استدعاء صنعاء سفيرَيْها في ليبيا وإيران للتشاور، عقب معلومات بدعم إيراني للحوثيين بغرض مذهبي، ودعم ليبي غرضه إنهاك السعودية ماليّاً وبشريّاً في المواجهات، فضلاً عن إحراج النظام السعودي خارجيّاً وداخليّاً. بوابة القاعدة ويبدو أن صعدة ليست الطريق الوحيد أمام التدخلات الأجنبية، فالإعلام الغربي يعيد فتح بوابة تنظيم القاعدة باليمن على مصراعيها منذ أواخر كانون الأول الماضي, بعد اتهام القاعدة اليمنية باستخدام شاب نيجيري مسلم لتفجير طائرة أمريكية. وقبل أسابيع شنَّ سلاح الجو اليمني هجمات على بعض المناطق القبلية بناءً على معلومات استخبارية أمريكية, ما تسبب في اندلاع موجة من الغضب بين أوساط اليمنيين، نتيجة تسببها في مقتل أحد الزعماء القبليين وزوجته وأطفاله. وفي إطار «الحرب على الإرهاب», زار ديفيد بترايوس قائد قوات الاحتلال الأمريكي في أفغانستانوالعراق اليمن, للقاء الرئيس علي عبد الله صالح للاتفاق على كيفية مواجهة تنظيم القاعدة. وتجسد صيغة التعاون بين اليمن وأمريكا مصلحة كلا الطرفين, فالنظام اليمني يريد تسويق حربه على القاعدة للحصول على دعم سياسي دولي ودعم مالي وقوة عسكرية تحكم قبضته على جميع مفاصل اليمن وشؤونها. أما المصلحة الأمريكية فهي إنشاء معادلة دقيقة ومحسوبة، تنتج الفوضى بالساحة اليمنية من جهة لضمان السيطرة على أطرافها، وتقوية النظام أمام خصومه الداخليين ولو ضد الديمقراطية التي لن يستفيد منها سوى الإسلاميين أصحاب الشعبية الأكبر في البلاد. .. والحل! المبادرة الأمريكية لرعاية حوار يمني وطني, تفندها الوثائق الأمريكية في كيفية تفجير أوضاع البلدان المختلفة لإحكام السيطرة عليها، الأمر الذي يجب ألا يغيب عن فصائل المعارضة، حتى لا تستهلك قوتها في مفاوضات محسومة سلفاً لصالح الولاياتالمتحدة وخططها. ويبقى الحل الأمثل في توحد الحكومة والمعارضة حول برنامج يعالج أزمات اليمن الاقتصادية، ويزيل الاحتقان الداخلي المتصاعد نتيجة الفقر والحرمان، وتغيير آليات العمل في الساحة السياسية، بما يسمح بديمقراطية حقيقية، تجعل الشعب كله شريكاً في سلطة البلاد وثرواتها. والتساؤل هنا مناطه قدرة النظام اليمني واستعداده لفعل ذلك، فإن لم يكن، فلا سبيل للمعارضة سوى استنفاد الجهد في النضال السلمي والدستوري، واستخدام السبل الشرعية لإنقاذ اليمن، ولو على حساب تغيير النظام كله. المدصر:إلامان