قبل أيام ولجنا السنة الهجرية الجديدة ودوماً بغيبوبة الغارقين في هجرتنا إلى ما هاجرنا إليه ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه – كما في المأثور- ، ولا بأس أن لا تمر المناسبة دون الذكرى ، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . وخير ما يمكن أن نذكره في هذا المقام هو أول خطبة ألقاها الرسول الأكرم (ص) بعد وصوله إلى المدينةالمنورة والتي خصصها لموضوع تنظيم عيش المهاجرين الذين غادروا مكة تاركين ديارهم وممتلكاتهم ، والكيفية التي يمكن من خلالها تعايشهم مع اخوانهم الأنصار وحتى اليهود في المدينة فكان خطابه ليس للمسلمين بل للناس جميعاً . فقد قال بعد أن حمد الله .. أما بعد: ( أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم ، تعلمنّ والله ليصعقنّ أحدكم ، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راع ثم ليقولنّ له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه ، ألم يأتك رسولي فبلغك ، وآتيتك مالاً ، وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ؟ ، فلينظرنّ يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم لينظر قدامه ، فلا يرى غير جهنم . فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإنّ بها تجري الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) . إنها دعوة واضحة إلى التكافل والتضامن بين أبناء المدينة بعد أن انتقل من الدعوة إلى الدولة .. ولكي يجسد الرسول (ص) هذه الدعوة إلى واقع اجتماعي ملموس سنّ نظام المؤاخاة فآخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض ، وبينهم وبين الأنصار ، وكانت المؤاخاة على "الحق والمساواة" بما في ذلك حق التوارث ، فالرجل يرث صاحبه الذي تآخى معه حتى ولو لم يكن من أقاربه ..ف "الأخوة في الدين" تقوم هنا مقام الأخوة في النسب ، وبذلك حلت "الأمة" و"الملة" محل القبيلة والعشيرة . هذه التي نعود إليها اليوم – أسفاً- عودتنا إلى الجاهلية الأولى . إننا أحوج ما نكون اليوم إلى أن ينتهز رجال الدين هذه المناسبة العظيمة ليمارسوا الوعظ الإيجابي للحاكم لا للمحكومين وليطلقوا ألسنتهم بقول الكلمة الطيبة كما ورد في خطبة الرسول (ص) وقاية من النار وذلك خير من أن تُطلق اللحى والأيدي على حدّ سواء . المهاجر عمر الجاوي : في هذا الشهر (ديسمبر) من العام 1997م هاجر من دنيانا الأديب والشاعر الكبير المناضل المرحوم عمر الجاوي الذي تتسم حياته بمواقف سياسية فريدة ذلك أنه كان يلتزم معايير وطنية خالصة .. جعلها ميزان لمواقفه وهجرته إلى الوطن والأمة على خطى جده المهاجر العظيم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الأطهار.. وفي مقام سياسة التكالب على الوطن كان الراحل الكبير (أبو آزال) صاحب مواقف صارمة ففي صراع الأخوة الأعداء جنوباً (الطغمة والزمرة) اختزل الموقف بحرفين ( طُز ) ترميزاً مختصراً لهما . ومعلوم بأن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين كان أول منظمة وحدوية قبل الوحدة وكان الجاوي الطائر المحلق بين صنعاء وعدن كرمز لهذه القيمة النبيلة والحقيقة الآكدة بين الشعب اليمني الواحد . ولكن بعد الوحدة لاسيما بعد الحرب والضم والإلحاق اختلف الأمر فلا نظن أن حال هذه المنظمة الوحدوية على ما كانت عليه إذ أن رئيسها الحالي د. عبد الله البار قرر الهجرة إلى مرابعه في الجنوب مؤخراً بعد أن شعر بمواطنة منقوصة واضطهاد وتعسف مقصود ، ولم يشفع له التاريخ الوحدوي الخالص لاتحاد الأدباء والكتاب واليمنيين . ونتذكر أنه وضمن (الاستثناء) الذي جسّده الجاوي في حياته السياسية قرر إبان الصراع الذي دار بعد الوحدة الهجرة عبر فضائه السياسي الخاص المتمثل بحزبه المستقل الذي كان قد أعلن -استثنائياً أيضاً- عن تأسيسه في العام 88م بغرض الدفع بمشروع الوحدة والحياة الديمقراطية والتعددية السياسية ليعلن عنه رسمياً في العام 89م ، وكان الجاوي الذي استهدف قبل الوحدة من أوائل من استهدفوا بعدها أيضاً ودفع من حزبه الوليد آنذاك أول شهيد للديمقراطية صديقه ورفيق دربه الشهيد حسن الحريبي ، ولا تزال حكاية موت (الشهيد) عمر الجاوي نفسه لا تخلو من غموض وريبة ، وخيراً فعل حزبه التجمع الوحدوي اليمني ببقائه - بعد رحيل مؤسسه الجاوي- بعيداً عن منظومة السلطة ذات (الحدين) المؤتمر والمشترك ربما عملاً بالقول المأثور "إدرؤوا الحدود بالشبهات" . [email protected] عن صحيفة اليقين الأسبوعية