كان من الصعب أن أتخيل أنني سأدافع ذات يوم عن حرية التعبير في أوروبا. ذلك أن القارة العجوز هي أحد اكبر المصدرين لمفاهيم التعبير الحر في العالم و مهد الصناعة الصحفية إلى حد أن الدفاع عن التعبير المطلق فيها يبدو كمن يبيع الماء"في حارة السقائين" على دارج القول المصري الشعبي. مع ذلك شاءت الظروف أن أشارك في ندوة عربية أوروبية حول حرية التعبير التأمت في مدريد أواخر الشهر الماضي والأسبوع الأول من الشهر الجاري. تمت الندوة برعاية جمعيات عربية وأوروبية تعنى بحقوق الإنسان وكان نصيبي فيها ورقة حول المتاعب القضائية التي تعاني منها قناة "الجزيرة" القطرية في أسبانيا عبر مراسلها تيسير علوني ومتاعب فضائية "المنار" اللبنانية مع القضاء الفرنسي. وكان حديث الجزيرة قاصراً على ندوة مدريد و سيكون حديث "المنار" محصوراً بندوة باريس التي تنعقد أوائل الأسبوع المقبل. للتذكير تجدر الإشارة إلى أن الزميل تيسير علوني مراسل الجزيرة المعروف بفعل تغطيته للحرب على أفغانستان اعتقل في غرناطة العام 2003 حيث يقيم بتهمة الإرهاب ثم أطلق سراحه بكفالة قيمتها 6 الاف يورو وهي تعادل كفالة إطلاق لصوص السيارات وليس قادة الإرهاب.و في تعليل إطلاقه المشروط أن التهم الموجهة إليه هي من قبيل الشائعات والظن وبعيدة تماما عن الأدلة الدامغة والإثباتات والبراهين الخالية من الشك. كان الاعتقاد السائد أن حكومة اليمين الأسباني بزعامة (خوسيه ماريا أثنار) استخدمت علوني ورقة ضغط على قناة الجزيرة وأنها أفرجت عنه بكفالة لمواصلة هذا الضغط على القناة القطرية وبالتالي ردعها عن مواصلة تغطيتها الصحافية المناهضة للحرب على العراق.لكن سرعان ما تبين أن حكومة (خوسيه لويس ثاباتيرو) اليسارية التي تشكلت الربيع الماضي لا تختلف هي الأخرى عن سابقتها في موقفها من الجزيرة فقد استأنفت اعتقال المراسل بالتزامن مع سحب قواتها من العراق. ويرجح أنصار علوني أن الاعتقال الثاني يرمي إلى استرضاء الولاياتالمتحدة وإقناعها أن مدريد انسحبت من العراق لكنها تواصل شراكتها لواشنطن في الحرب على الإرهاب. ولعل ظروف الاعتقال القاسية التي يعاني منها الصحافي السوري الأصل دليل إضافي على نوع الرسالة التي ترغب حكومة ثاباتيرو في توجيهها إلى من يهمه الأمر في أمريكا. الملفت في قضية علوني أن عددا من القادة العرب الكبار دافع عنه وطالب بإطلاق سراحه وفي طليعتهم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح والعقيد الليبي معمر القذافي ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع و الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ناهيك عن المنظمات العربية غير الحكومية واتحادات الصحافيين والكتاب العرب وغيرهم ولم يسبق لهذه الأصوات المنطلقة من مواقع مختلفة أن اجتمعت حول قضية قدر اجتماعها حول إطلاق مراسل الجزيرة لكن رغم ذلك لم تتراجع الحكومة الأسبانية عن تصلبها ولم تقدم علوني للمحاكمة علما أن محاميه الأسبان أكدوا خلال ندوة مدريد أن ملفه الإتهامي فارغ تماما وانه لا يصمد ساعة واحدة في محاكمة عادلة. هكذا يظهر أن أساتذة حرية التعبير في أسبانيا يقلدون المستبدين في العالم الثالث ويهملون قداسة التعبير الحر عندما يتصل الأمر بحسابات سياسية ومصالح دولية معينة ولو اقروا بذلك لهانت المسألة ولقلنا إن عالم المصالح يجتاح عالم الحقوق في ظرف معين ثم تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي بعد تجاوز مسبباتها الطارئة لكن الأساتذة الأوروبيين ينكرون فعلتهم ويثابرون على تصديع رؤوسنا بعبارات حرية التعبير المطلقة وغير المقيدة بظرف زمان أو مكان مفترض. الثابت أن قضية علوني لا تتحمل التأويل: فأما أن يحاكم إن كان متهما أو أن يطلق سراحه إن كان بريئاً. أما اعتقاله غير المقيد بزمن استنادا إلى شائعات وظنون وتهم غامضة فلا يمكن إلا أن يكون جريمة حقيقية ضد التعبير الحر وانتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان. وإذا كانت قضية علوني مرتبطة أصلا بدور القناة التي يعمل فيها فإن قضية "المنار" تبدو هي الأخرى قضية تعبير حر وليست قضية إرهابية أو جنائية أو لا سامية أو عنصرية إلى غير ذلك من التهم التي تذرع بها المعنيون في قرار منع المحطة من البث عبر قمر يوتيل سات الأوروبي أواخر العام الماضي. يجدر هنا ايضا التذكير بالأسباب التي استند إليها القضاء الفرنسي في حظر المحطة اللبنانية من البث. في المرة الأولى كان الأمر يتصل بمسلسل "الشتات" الذي أثار استياء الأوروبيين واليهود بخاصة فهو يروي سيرتهم بالاستناد إلى مراجع أوروبية معروفة بعدائها التقليدي للطائفة اليهودية. تراجعت المنار عن إعادة بث المسلسل واعترفت بخطئها و قالت إنها لم تمارس الرقابة الكافية عليه قبل بثه واتفقت مع المجلس الأعلى الفرنسي للإعلام على بروتوكول صريح ينطوي على التزام قاطع بشروط البث المتعارف عليها أوروبيا. بعد مضي أسابيع قليلة على الاتفاق استضافت القناة محللا صحافياً في برنامج يهتم بأقوال الصحف. أتهم الضيف إسرائيل بنشر جراثيم الإيدز في العالم الإسلامي. التقطت الفرصة جماعة إسرائيلية في الولاياتالمتحدة تُعنى بترجمة الصحف العربية ونقلت الخبر إلى إحدى الجماعات اليهودية الفرنسية التي تقدمت بدعوى ضد المحطة مطالبة بإقفالها وهذا ما تم بالفعل.و بعد أيام سارت الولاياتالمتحدة على الرسم الفرنسي ومنعت بث "المنار" بوصفها محطة إرهابية. لم يصغ أحد للحجج التي تقدم بها أنصار المحطة اللبنانية ومن بينها أن أقوالا نشرت في فرنسا على لسان حاخام عنصري إسرائيلي أكد فيها حرفيا أن العرب أشبه بالصراصير وأن التخلص منهم لا يمكن أن يتم إلا بواسطة المبيدات الكيميائية دون أن تمنع وسائل الإعلام التي نشرت أقواله ناهيك عن أن لغة الصراع بين العرب وإسرائيل مدججة بأقوال واتهامات متبادلة بالعنصرية و بالتالي لا يجوز لفرنسا أن تتسامح مع طرف في هذا الصراع و أن تعاقب الطرف الآخر. كما في القضية الأولى تقف الحسابات السياسية خلف القضية الثانية.فباريس الساعية للمصالحة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية إثر حرب العراق والراغبة في لعب دور قوي في أزمة الشرق الأوسط والعائدة بقوة إلى الملف اللبناني من خلال قوى أخرى غير تلك المتحالفة مع سوريا كل ذلك سقط على رأس القناة اللبنانية وأدى إلى حرمانها من البث عبر القمر الأوروبي يوتيل سات لتكون ضحية جديدة للحسابات السياسية الخاصة. لكن لماذا التعرض ل "الجزيرة" و"المنار" دون سائر المحطات العربية وبعضها بث مسلسلات لا تقل عداء لليهود عن مسلسل الشتات وأذاع أقوالاً لا تقل عنفا عن الأقوال التي نشرتها المنار وبعضها الآخر بث كاستات بن لادن والزرقاوي كما بثتها "الجزيرة" فلماذا إذن حصر العقاب بالمحطتين دون غيرها.؟ الجواب حمله استفتاء أجرته مؤسسة جون زغبي الأمريكية للاستطلاعات عندما أكدت في الربيع الماضي وفق إحصاء استطلاعي أن الجزيرة تحتل المرتبة الأولى في نسبة المشاهدين العرب في العالم وان المنار تليها في عدد كبير من الدول العربية.معنى ذلك أن المحطتين تدفعان ثمناً لبراعتهما في التعبير الحر ولمخاطبتهما الناجحة للمشاهدين العرب ولو كانت غير ناجحة وغير مؤثرة لما اكترث احد لما تقول و لما تعرضت للعقاب والمنع. موجز القول أن التعبير الحر في العالم العربي لا يعاني من ضغوط الأنظمة غير الديموقراطية والمستبدة فحسب وإنما يعاني وبنفس القدر من الأحكام الأوروبية المسبقة ومن الحسابات السياسية الظرفية والانحياز لإسرائيل ومن مرض ازدواج المعايير. إن التعبير الحر لا يعني أن يقول العرب في إعلامهم ما تريد أمريكا و أوروبا وإسرائيل وإنما ما تريد شعوبهم. بغير ذلك يفقد القول العربي وظيفته ويصبح الإعلام تمريناً بليداً سيان إن غاب أو إن حضر.