تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إنّ الديمقراطية هي مدرسة لتعلم قيم الحوار والنقاش والاختلاف في إطار التعايش السلمي لكافة مكوّنات المجتمع المدني، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون ضمانات وضوابط دستورية أو قانونية تنظم وتحمي الحريات والحقوق المدنية من خطر الاستبداد بما هو سلوك عدواني ينتهك الحريات والحقوق المدنية سواء جاء هذا السلوك من قبل السلطة وأجهزتها أو من داخل المجتمع المدني نفسه حيث يُعد سوء استخدام الحرية شكلاً من أشكال العدوان عليها وانتهاك قيمها، الأمر الذي يعلي من أهمية ودور سلطة القانون في تنظيم العمليات الديمقراطية في إطار دولة المؤسسات الخاضعة لسلطة القانون. والثابت أنّ الديمقراطية لا تكون مدرسة للتعلم من دون أن تكون هيئات الدولة الدستورية والتشريعية والتنفيذية المنتخبة وهيئات المجتمع المدني كالأحزاب والمنظمات غير الحكومية والصحافة ووسائل الإعلام الحرة مدارس للتعلم أيضاً، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل سيادة الفردية والعشوائية والفوضى.. فالأحزاب الخاضعة لسلطة النخب العائلية والقبلية والشللية لا تصلح لأن تكون مدارس لتعلم قيم الحرية والديمقراطية، وبالقدر ذاته فإنّ الصحف الخاضعة للإدارة الدكاكينية والفردية، والعشوائية والمنفلتة من سلطة القانون والقيم المهنية، لا تصلح لأن تكون مدارس لتعليم الصحافيين العاملين فيها قيم الحوار والاختلاف والنقاش خصوصاً عندما ترتبط فوضى إصدار الصحف بسوء استخدام الحرية من خلال توظيفها إلى أداة للابتزاز والكذب والتلفيق والقذف والتكفير والتخوين والإساءة إلى الكرامة الشخصية للمواطنين. ويزيد من خطورة هذه الظواهر التي تبرز عادة في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية غياب الحقوق القانونية للصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الحزبية والخاصة التي تعتقد أنّها فوق القانون الذي ينظم حقوق وواجبات كافة هيئات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد والجماعات في إطار المواطنة المتساوية حيث يعمل الصحفيون والفنيون والموظفون بدون عقود عمل تحمي حقوقهم المهنية المشروعة ، سواء في المؤسسات الصحفية الحزبية والخاصة او الصحف الدكاكينية. بوسعنا القول إنّ الواقع السياسي في بلادنا لا يخلو من النجاحات والأزمات والتناقضات والمصاعب بما هي نتاج موضوعي للعملية الديمقراطية التي بدأت بإرادة وطنية مستقلة ومن دون إملاءات خارجية قبل حوالي ستة عشر عاماً منذ قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م.. ولا يمكن تطوير النجاحات ومعالجة هذه الأزمات والتناقضات والمصاعب بدون إعادة اكتشاف الواقع من خلال دراسة وتحليل مصاعب التطور نحو الديمقراطية، وهو ما تعجز عن تحقيقه المراهنات الخاسرة على التدخلات الخارجية التي تعتمد دائماً مبدأ إسقاط القوالب الجاهزة ومعايير الديمقراطية الأميركية والدنماركية والأوروبية على أوضاع متخلفة في بلدان الديمقراطيات الناشئة التي تنتج موضوعياً أدواتها الخاصة على نحوٍ يجعلها في حال تصادم مع النمذجة والقولبة الوافدتين من خارج الواقع! من نافل القول إنّ ثمة ميولاً عالمية للهيمنة برزت بعد انتهاء الحرب الباردة حيث برزت نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتجنون ونظرية نهاية التاريخ لفرنسيس فوكوياما اللتان شكلتا إطاراً أيديولوجياً للميول التي ارتبطت بتحول الليبرالية إلى مذهب محافظ جديد بعد أن أدى غياب الشيوعية كخطر يهدد الديمقراطية الليبرالية إلى تضاؤل دور ومكانة يسار الوسط في الديمقراطية الليبرالية وتنامي دور وتأثير ما تسمى الليبرالية الجديدة بمذهبها المحافظ الجديد. والحال أنّ التحول نحو الديمقراطية، وتوسيع المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أضحى مطلباً موضوعياً في العديد من بلدان العالم وخصوصاً البلدان المتخلفة والنامية التي انغلقت على نظم شمولية مرنة أو استبدادية مطلقة، وبقدر ما وجدت هذه البلدان والمجتمعات في انتهاء الحرب الباردة وما رافقها من استقطابات أيديولوجية وعسكرية واقتصادية وأمنية مناخاً جديداً لإطلاق ميكانيزمات النمو والتحديث التي تساعدها على استخدام الحريات السياسية والاقتصادية كحوافز للتنمية والتطور واللحاق بالحضارة الحديثة، بقدر ما اصطدمت بنزعات الهيمنة التي عبرت عنها الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد من خلال سعي قوى الهيمنة إلى تصدير نماذج وقوالب جاهزة للديمقراطية على نحوٍ يعرقل تقدم هذه البلدان على طريق التطور الديمقراطي والاقتصادي الطبيعي. وإذا كانت الوصفات الجاهزة التي اعتادت المؤسسات المالية والنقدية الدولية على تصديرها بواسطة الضغوط السياسية والاقتصادية والتجارية إلى البلدان المتخلفة والنامية في إطار الإستراتيجية المسماة إعادة التكيف والتثبيت الهيكلي والإصلاح الاقتصادي بهدف فرض معايير الإدارة الاقتصادية والاجتماعية المناهضة لوظائف الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة على الدول النامية والفقيرة التي تضطلع الدولة فيها بوظائف حيوية لا يمكن الاستغناء عنها ، فإنّ ثمة وصفات جاهزة أخرى تصدرها مؤسسات سياسية دولية بهدف تسويق معاييرالممارسة الديمقراطية في الدول المتقدمة ونقلها بصورة ميكانيكية عبرإلى البلدان المتخلفة عبر بعثات تبشيرية في صيغة معاهد وبرامج للتدريب والتأهيل والتمويل من خلال الإستراتيجية المسماة ببرامج المساعدة على تنمية الديمقراطية، وفي مقدمتها برنامج نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الجديد الذي ترعاه وتموّله الإدارة الأمريكية والبرنامج الدنماركي الذي يموله الاتحاد الأوروبي!!. لا نبالغ حين نقول إنّ الليبرالية الجديدة ومذهبها المحافظ الجديد وما تنطوي عليه من ميول للهيمنة أوجدت تناقضات في البلدان المتطورة نفسها خصوصاً بعد اكتساب نزعات الهيمنة الاقتصادية أبعاداً عسكرية تحت تأثير أحداث 11 سبتمبر 2001م، وتدشين الحرب العالمية على الإرهاب، حيث برزت معايير متعددة في ممارسة الديمقراطية، وقد تجسدت هذه التناقضات في تصادم مصالح دول الاتحاد الاوروبي التي سعت إلى التمسك بمعايير الحرية المطلقة مقابل الولاياتالمتحدة وبريطانيا اللتين سعتا إلى إعلاء أولوية الأمن على الحرية. وجاءت أزمة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام مؤخراً ، لتوسع دائرة هذا الصدام من خلال بروز إشكاليات الموازنة بين معايير الحرية ومعايير المسئولية إلى جانب إشكاليات الموازنة بين معايير الحرية ومعايير أولوية الأمن، في مجرى الحرب العالمية على الإرهاب. من نافل القول إنّ الواقع السياسي في اليمن يواجه أزمات وتناقضات بسبب تفاقم سوء استخدام حرية الصحافة وانفلات معاييرها وبروز الدعوات التي تطالب بإلغاء قانون الصحافة واستبداله بميثاق شرف على نحوٍ ما جاء في رؤية بائسة تقدمت بها أحزاب اللقاء المشترك خلال هذا الشهر، ولا يمكن فصل هذه الأزمات والتناقضات عن التدخلات الخارجية التي تحفز على الاستقواء بالأجنبي والتهافت على ما تسمى ببرامج نشر الديمقراطية وفق المعايير الخارجية التي تسعى الليبرالية السياسية اليمينية الجديدة إلى فرضها على بلدان الشرق الأوسط بشكل خاص ، وبلدان الديمقراطيات الناشئة بشكل عام ، بهدف جعل التحول الديمقراطي في هذه البلدان جزءاً من إستراتيجية إعادة هيكلة المجتمع الدولي وبناء نمط جديد من العَلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية الدولية بما يخدم نزعة الهيئة التي تعد الشكل الأبرز للمذهب المحافظ الجديد على الصعيد العالمي. وإذا كانت برامج المساعدة التي تصدرها الولاياتالمتحدة وأوروبا لا تخلو من النزوع نحو الاستقطابات إلا أنّها واجهت مصاعب في أوروبا الشرقية والفلبين وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية، كما أنّها تواجه فشلاً مدمراً في الشرق الأوسط وأفريقيا ، الأمر الذي أدى إلى إفلاس الإطار الأيديولوجي لليبرالية السياسية اليمينية ومذهبها المحافظ الجديد من خلال اعتراف فرنسيس فوكومايا في مقال نشره بمناسبة الذكرى الثالثة لغزو العراق بأنّ الولاياتالمتحدة لا تستطيع أن تقرر أين ومتى ستحصل الديمقراطية ؟، ومؤكداً على أنّه لا يمكن للغرباء الأجانب ، أن يفرضوا الديمقراطية بما هي عملية طويلة المدى يجب أن تنتظر النضج التدريجي للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وهو ما تحتاجه المجتمعات المتحولة ، لترشيد الممارسة الديمقراطية ومعالجة تناقضاتها ومصاعبها من خلال معايير واقعية لا معايير ونماذج جاهزة خارجية يتم تصديرها عبر برامج تريبية وبعثات تبشيرية !! لا ريب في أنّ الأزمة الناشئة عن نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام أسفرت عن تصادم معايير حرية التعبير في الدنمارك وأوروبا عموماً مع معايير حرية التعبير في بلدان ديمقراطية أخرى من بينها الديمقراطيات الناشئة في الشرق الأوسط والعالم العربي الإسلامي عموماً. وبوسع المتابع للتطرف الملحوظ في موقف نقابة الصحفيين اليمنيين التي تسيطر عليها أحزاب اللقاء المشترك لجهة الرفض المطلق لمشروع قانون الصحافة والمطبوعات الجديد إلى جانب، التشدد في المطالبة بحرية لا حدود لها بعيداً عن أية معايير أو ضوابط ، أن يلاحظ مدى تأثر هذا التطرف بالبرنامج الدنمركي الذي يتولى تأهيل نقابة الصحفيين اليمنيين وأحزاب اللقاء المشترك على الديمقراطية وفق المعايير الأوروبية، وهو واحد من برامج المساعدة الأجنبية التي سخر منها فوكو ياما بما هو المرجع الذي وضع الإطار الأيديولوجي لليبرالية الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من خلال أطروحته الشهيرة "نهاية التاريخ" حيث حذر في مقالته الأخيرة التي أشرنا إليها سابقاً من الوهم بإمكانية صناعة الديمقراطية والإصلاحات بدون أن تكون بناء على إرادة داخلية، مؤكداً على أنّ إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط سوف يتحقق بواسطة عملية طويلة المدى تنتظر نضجاً سياسياً واقتصادياً تدريجياً لتكون فاعلة.