عرضنا في الحلقة السابقة الجزء الأول من وقائع ندوة القاها كاتب هذه السطور في كازابلانكا بدعوة من إحدى الجمعيات البرجوازية في «الدار البيضاء» في المغرب الأقصى وتركز النقاش فيها حول سؤال لماذا تخلف العرب ولماذا تقدم غيرهم؟ وهو سؤال النهضة العربية الذي عالجه مفكرون من مختلف أنحاء العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والشطر الأول من القرن العشرين. وتوقفنا في القسم الأول عند شهادة «الكسيس دو توكفيل»الذي نقلها «فرانسوا ماسبيرو» عن الوضع في قسنطينةالجزائرية عشية احتلالها من طرف الجيش الفرنسي حيث بان لنا أن الأوضاع فيها لم تكن ظلامية وان المحتل دمر بناها التحتية المعرفية ليبدأ معه عصر الظلام في الجزائر ونواصل في هذه الحلقة نقاش سؤال النهضة. إذا كان «فرانسوا ماسبيرو» مصنفا في بلاده مع مناهضي الكولونيالية المدافعين عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها فلنتأمل في خلاصة أبحاث المستشرق الأنكلو ساكسوني «لويس يونغ» الموضوعي والمحايد عن التقدم والتأخر في العالم العربي والإسلامي كما وردت في كتابه الكلاسيكي «العرب وأوروبا» في القرون الوسطى : كانت اللغة العربية تتيح لمن يتعلمها الإطلاع على كتب الطب وهي أفضل المنشور من الكتب. وكانت اللغة العربية مفتاحا لأدب غني وتسمح بالاتصال بأكبر عدد من الشعوب في أواخر القرن التاسع عشر و كانت معظم الدول الأوروبية تعد لتدريس اللغة العربية والبحوث الإسلامية في معاهدها العالية. «علوم العرب في البصريات والجبر والكيمياء أهم بكثير ما جاء به الإغريق أو أية أمة أخرى» لقد انتكست اسبانيا والبرتغال وصقلية عندما اجلي العرب عنها.في البرتغال هناك اكبر نسبة للأمية في أوروبا وفي صقلية تسيطر عصابات المافيا» على الشؤون العامة. لقد تركت الحضارة العربية بصماتها على أوروبا في جميع المجالات ابتداء بالفلكلور حتى خرائط القمر وفيها مواقع حتى اليوم بأسماء عربية كالزركلي والبتاني وأبي الفداء لم يكن العرب ظلاميين فقد اقبلوا على العلوم الأوروبية في أوج ازدهارها و يروي يونغ : «بين 1789 و1820 اقبل العرب طوعا على التأثر بالأفكار الأوروبية لكن بدأ الشك ينتابهم عندما سيطر الأوروبيون على العالم العربي فقد وقع الخليج في يد الإنجليز ابتداء من عام 1820 وفرنسا احتلت الجزائر ابتداء من العام 1830 واحتلت بريطانيا عدن عام 1839 واحتلت فرنساتونس عام 1881 و سيطرت بريطانيا على مصر عام 1882 وهكذا لم تعد أعظم مراكز العلم في البلاد العربية كالأزهر والزيتونة قادرة على تحديد ما تقبله وما ترفضه من القيم الأوروبية.» هناك أشياء كثيرة لا يزال على الغرب أن يتعلمها من العرب من بينها نظرتهم المتسامحة وعدم تمييزهم فروق الدين والعرق واللون. ويخلص المؤرخ (يونغ) إلى استنتاج واقعي وملموس إذ يقول : «في العصور الوسطى عكفت أوروبا على علوم العرب من طب وفلسفة وطبيعة واستمر ذلك لفترة طويلة. في القرن الثامن عشر قبست منهم نار الرومانطيقية. وفي القرن العشرين سيطرت على بترولهم.» بعد هذا الاستنتاج ما الذي يمكن للمرء أن يضيفه. و لايقتصر رد تهمة الظلامية عن العرب قبل احتلال أراضيهم لا يقتصر على الباحثين الأجانب بطبيعة الحال وإن كنا نركز على خلاصة أبحاثهم فذلك من أجل تدعيم ما نعرفه نحن وما يعرفه إختصاصيونا عن هشاشة معادلة الظلام والنور التي شاعت عنا وبيننا حتى صارت حكما قيميا نعتمده كمسلمة بديهية وننظر إلى أنفسنا انطلاقا منه. ومن بين الباحثين العرب المهتمين بالكشف عن حالنا قبل السيطرة الكولونيالية المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر الذي يؤكد أن الظلام لم يكن يخيم على مصر وخصوصا في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما يعتقد كثيرون فهو يقرر « إن مصر تمتعت بفائض زراعي ضخم في تلك الفترة حيث عادل ما ينتجه الهكتار الواحد من القمح ما ينتجه الهكتار في فرنسا وألمانيا, وتجاوز ما ينتجه الهكتار ما تنتجه نفس المساحة من الأرض في أوروبا الشمالية والشرقية والوسطى. إضافة لذلك فإن ميناء الأسكندرية كان أفضل موانىء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, وكانت مصر عرفت السكك الحديدية قبل السويد وبولندا واليابان بوقت طويل » ويفسر مسعود ضاهر تأخر مصر بأسباب ثقافية كانت هي نفسها مصدر تقدم اليابان إذ يقول: «لم تتخل اليابان عن تراثها الثقافي التقليدي, ولم تتبن أياً من المبادئ الغربية لتجعلها قواعد ثابتة في الحياة اليابانية. فاستفادت من مقولات فلسفية ونظم غربية متنوعة, لكنها لم تتبنها كما هي بل اختارت منها فقط ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني. ونتج عن ذلك أن اليابان حافظت على استمرارية المبادىء الروحية إبان عملية التحديث, وبناء الركائز المادية للمجتمع الياباني على قاعدة الاستفادة الدائمة من العلوم العصرية المتطورة.» هكذا يتضح أن الظلامية لم تكن تخيم على عالم العرب كما يشاع وان تقدمهم وتأخرهم مسألة مرتبطة بقوة بمدى قدرتهم على الحفاظ على استقلالهم السياسي والثقافي واستدماج تقنيات التطور المتاحة في هذا العصر. خلاصة كان لا بد من هذه العودة التفصيلية إلى الماضي للتشديد على المسائل التالية: 1 لم يكن العرب يغرقون في ظلام دامس عندما احتلت بلادهم ولم يعيشوا صدمة حضارية مع حملة «نابليون بونابرت» على مصر. 2 لم يكونوا متأخرين بمقاييس القرن التاسع عشر. 3 لم يكن احتلال بلاد العرب يهدف إلى نشر التنوير في صفوفهم. 4 كان العرب منهكين جراء سيطرة عثمانية طويلة على بلادهم أدت إلى تهميشها لصالح المركز التركي. 5 لقد أدت الكولونيالية الأوروبية إلى تدمير المراكز الحضرية العربية وإلى تهشيم اقتصادياتها وتهديد أسس وجودها عبر استيطان كثيف في الجزائر في شمال إفريقيا وفي فلسطين إلى حد يصف معه «شيمون بيريز» وضع العرب في حينه بالقول: « من كان يهتم للعرب في ذلك الحين ومن يحسب لهم حساباً. العرب يدينون اليوم بوجودهم على المسرح الدولي للنفط ».